جمال البنا: رحلة الفكر في أرض قاحلة (2/2)

بدور زكي محمد: ايلاف

لا شك في أن حياة العلماء المستنيرين من أمثال جمال البنا، من الذين بدأوا مسيرة الإحياء الإسلامي تعتبر رحلة شاقّة وحفراً في الصخور، بخاصة في العقود الأخيرة من القرن الماضي وما تلاها، لما شهدناه من موجات سلفية أطاحت بإمكانات تطور المجتمعات العربية، مستفيدة من نظم الإستبداد وآلياتها القابضة على حرية التعبير. إلا أن ما خفف من أعباء الرحّالة المناضلين وهم يمسحون عن جباه الإسلام غبار الكتب العتيقة، ما عاشوه في نشأتهم الأولى من أجواء الحريات وبدايات النهضة الفكرية في ظل الأنظمة الملكية، وهذا ما أمدّهم بقوة الإصرار على منهجهم.

في حديث جمال البنّا عن سيرة حياته وهمومه الفكرية، يفضل السرد بضمير الغائب، لما كان يتناوله من قضايا موضوعية في الأصل، ولأن ضمير المتكلم – برأيه- لابد أن يلقي على الحديث ضلالاً ذاتية، ففي مقال طويل له على موقع الحوار المتمدّن (19-02-11)، ينبّه إلى أن من يريد معرفته على أفضل ما يكون فعليه أن { .. يشاهده عبر سطور كتاباته مثل “ظهور وسقوط جمهورية فايمار” ، و”روح الإسلام” و”هل يمكن تطبيق الشريعة” و”تعميق حاسة العمل في المجتمع الإسلامي” ، أو “الحركة العمالية الدولية” أو المعارضة العمالية العمالية في عهد لينين” ..}. وقد كان بحاجة لهذا التنبيه لأنه لا حظ ميل الناس للتفرج والسماع أكثر من القراءة، ولما تعجّ به الفضائيات من دعاة متفوهين، يعنون بتدبيج الكلمات، ورواية الأحاديث على علاّتها، ولا يهمهم إن كانت صحيحة أو موضوعة، كان يقول إن أزمته هي ” أنه كاتب في شعب لا يقرأ” لكنه أحسن الظن في مستقبل وعي الناس، وأمِل في أن يأتي جيل يقرأ ما قدمه من موائد الفكر العامرة بكل جديد ومفيد، وما بذله من جهد خارق في تنقية التراث وتحريره من إساءات المفسّرين أو جهلهم.

لقد كانت نشأة جمال البنّا العائلية المبكّرة، خير معين له على مشقّة البحث ودروبه الطويلة، فهو في علّو همته ودأبه يشابه والده الشيخ أحمد عبد الرحمن، الذي قضى خمسة وثلاثين عاماً في تصنيف وشرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، المتضمن قرابة ثلاثين ألف حديث، لا رابط بينها إلا أسماء الرواة، قام بتصنيفها “على أساس كتب ثم أبواب ثم فصول تبعًا لأبواب الفقه ، ثم لم يقنع بهذا ، بل وضع شرحًا له يعادل المتن بأسلوب سائغ تناول فيه السند وغريب الألفـاظ ، والتخريج ، وهو أهم شيء في الحديث لأنه يعني درجة الحديث ، وهل هو صحيح، فيعـد مرجعًا يؤخذ منه الحكم ، أو ضعيف، ويذكر أحكام الباب في المذاهب الأربعة وغيرها ..” وفي هذا لمسعى العسير كانت غاية الشيخ هي التجديد، وعبور المذهب الواحد في إطار مذاهب السنّة (المصدر السابق). ولعل من المفارقة إن جمال البنّا الذي كان فخوراً بصبر أبيه وانكفائه على دراسة مسند الإمام أحمد، خاض أكثر معاركه الفكرية ضد خصومه الذين يتمسكون بالأحاديث، ذلك لأنه اشترط توافق الحديث مع العقل، وعدم تعارضه مع القرآن، خلافاً لنهجهم في تقديس الرواة والعزوف عن نقد موضوع الرواية.

أما عن العلاقة بشقيقه الأكبر حسن البنّا، فيقول الكاتب والمؤلف الراحل : ” كانت متميزة وحميمة فيها شجو وشجا و”جدلية” نشأت من اختلاف الطبائع، اختلافـًا كان اجتماعه يمثل تكاملاً.. ” وبحكم الترابط العائلي بينهما وملاحظة مؤسس الإخوان لتميز شقيقه الأصغر، فقد حاول استمالته للعمل معه في مشروعه السياسي، ودعاه لترك حزب العمل الوطني الإجتماعي، الذي أسسه في العام 1946 من مجموعة صغيرة من العمال والطلبة وصغار الموظفين، قائلاً: ” أنت تكدح في أرض صخرية صلدة ، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه تتساقط، وتحتاج لمن يلتقطها” وكانت جماعة الإخوان حينذاك في أوج شهرتها ، لكن جمال رد على أخيه بأن فواكه الإخوان ليست هي الثمار التي يريدها ( المصدر السابق).

وعلى مر الزمان حافظ جمال البنّا على نهجه المستقل في فهم الإسلام في جوانبه العملية، ورفض التسليم بفقه الأقدمين بعيداً عن متطلبات تغير الزمان والمكان، كما لم يضعف أمام عمق صلاته بشقيقه وتقديره لسماته القيادية، فلم يكن يوماً عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، مع أنه عمل في مطبعتهم وشاركهم بعض الأنشطة الثقافية، في الخمسينيات. وقد أكّد على أنه لا يتفق معهم في شؤون كثيرة ” أختلف مع جماعة الإخوان المسلمين ومنهجهم، ولي تحفظات على فكرهم بالنسبة للمرأة وحرية الفكر والفنون والآداب” (جريدة المصري اليوم/ أحمد البحيري/ 31-01-2013). ولا أشك بأن رحيل البنّا جلب راحة كبيرة لقيادة الإخوان المسلمين، فهم لم يكونوا أحراراً في التعامل معه بشدّة كما يفعلوا مع خصومهم في مجال الفكر الإسلامي، ولعل من حضر منهم الصلاة عليه في مسجد الإمام علي، كان يشكو من مهمة ثقيلة، أو يحمد الله على غيابه وهو يترحم عليه.

تمتع الراحل بشعبية كبيرة بين المثقفين على اختلاف توجهاتهم، لما اشتملت عليه شخصيته الحرّة من ثقافة موسوعية، إسلامية ممزوجة بثقافات عالمية، فكانت له لقاءات كثيرة، ركّز فيها على الجذر الأساسي في أفكاره وهو الحكمة، فمن المبادئ التي تضمنتها دعوته للإحياء الإسلامي، قوله:” الحكمة” أصل من أصول الإسلام ، وقد قرنها القرآن بالكتاب في آية : {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وهي كل ما انتهت إليه البشرية من أحكام ومبادئ وأصول ثبتت صلاحيتها على مر الأجيال ، وليست هي بالطبع السـنـّة ، كما ذهب إلى ذلك الشافعي”.

وفي كتاب البنّا (أصول الشريعة) ينتقد الفقهاء لإهمالهم الحكمة، ويقول: ” أغلب الظن أنهم عزفوا عن الاعتراف بأصل ومصدر مفتوح، غير محدد أو منضبط، يسمح بالانفتاح والتعددية، وهي صفات يضيق بها الفقهاء عادة، لأنها تفتح عليهم بابا لا يمكنهم التحكم فيه ” ( مقال عمار علي حسن في الشرق الاوسط/ 07/02/2013).

ويرى جمال البنّا إن أساس الأمر الإلهي للملائكة بأن يسجدوا لآدم “هو تملكه لمفاتيح المعرفة التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات” والتي تنقذه من الخرافة، فيفترض أن تكون المعرفة هدفا رئيساً للمسلمين وما يتبع هذا من استخدام العقل ، وما يثمره من علم وحكمة”. ولذلك فهو يطالب الدول الإسلامية أن تنفتح على الثقافات المعاصرة وتيسر للجماهير إمكانات الإستفادة منها (المصدر السابق).

ان الراحل الكريم لا يسوق انتقاداته للفقهاء الاقدمين جزافا، ولا يبخسهم حقهم من التقدير، وانما يراعي اختلاف الزمن وآليات تحصيل المعرفة، ويشرح ذلك في حديث له مع الكاتب اشرف عبد القادر، نشر في موقع الحوار المتمدن، بقوله : “الفقهاء القدامى كانوا أناساً في منتهى الطيبة والإخلاص، وأرادوا خدمه الإسلام بعلومهم، ولكن ما كانوا ملائكة ولا معصومين بل معرضين للصواب والخطأ “. وينبه الى ان وسائل البحث لديهم كانت محدودة ، والتنقل للتاكد من صحة حديث ما، كان عسيراً، والأهم أنهم لم يتمكنوا من التحرر من مفاهيم عصرهم المغلق ” عصر مستبد ،عصر فاسد من أيام معاوية إلى عبد الحميد الثاني، منذ سنة 40 هجرية إلى 1924 أكثر من ألف عام، وما يسمونه خلافة كان ملكاً عضوضاً وليس له من الخلافة شيء . هذا هو العصر الذين عملوا فيه، حاول بعضهم أن يثور على حكم هؤلاء الطغاة، فسحقوا حتى الأئمة الأربعة كل منهم تعرض لاضطهاد رهيب . الشافعي كان قاب قوسين من الموت ، مالك خلعت أكتافه ، ابن حنبل مثله ، أبو حنيفة يقال أنه َسم لأنه رفض تولى القضاء” . ويرى جمال البنّا، أنه لما تقدم من أسباب فإن فكر القدامى لا يصلح لعصرنا، وهو يجيب من يقول أن في أقوالهم ” لآلئ ودرر” بطريقته العملية والعقلانية: ” .. علي من يريد الحصول على عرق الذهب الصغير أن يهد الجبل، ونحن لا عندنا وقت ولا جهد لذلك، لماذا لا نعمل عقولنا نحن؟ ..”

وفي سياق متصل، ينتقد الراحل الجليل رواية وردت في صحيحي مسلم والبخاري، تفسر سبب نزول آية {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ … الحجرات – 9 }، ومفادها إن الرسول (ص) كان يركب حماراً، ومر بعبد الله ابن أبيّ، فمسك هذا أنفه متضايقاً من رائحة الحمار، فقال له أحد الصحابة، والله لبول حماره أطيب من ريح مسكك، فغضب رجال أبيّ، وتبادلوا الضرب مع أصحاب النبي، فنزلت الآية. يعجب البنّا أن يكون تفسير آيات الله الكريمة بمثل هذا التبسيط المجافي للعقل. ويسوق مثالاً آخر عن سورة الضحى، فيأسف أن يأتي مفسرون ليقولوا بأن سبب نزول كلماتها الجميلة، يتعلق بكلب كان مختبأً تحت السرير، ما منع الملاك جبريل من أن يبلّغ الوحي للرسول (ص) !!، ويضيف بأن الفقهاء في الوقت الذي يؤكدون على قاعدة ” العبرة بعموم النص وليس بخصوصية السبب”، يتحدثون عن أسباب النزول فيناقضون أنفسهم و ” يحولون النص من مبدأ عام إلى سبب خاص” ( برنامج دين ودنيا، لقاء مع عمار علي حسن).

واستناداً إلى نظرة البنّا للماضي، واعتباره أن الدين وسيلة وليس غاية، وأن الشريعة كانت تحقق العدالة والمصلحة في زمن ما، يخلص البنّا إلى: “أن التطورإذا جاوز النص أو جعله لا يحقق المصلحة والعدل فيجب تغييره بما يحقق المقصد الذي أنزل من أجله”، ويسوق لذلك مثلاً من اجتهادات الخليفة عمر بن الخطاب.

من المؤلفات المهمة التي تركها الراحل، كتاب (نحو فقه جديد) الذي صدر جزأه الثالث في العام 1999، ويتضمن دعوة واضحة وبسيطة لفهم الإسلام، وفي الوقت نفسه تشكل استفزازاً لرجال الدين لأنها تجردهم من الولاية المعنوية على الناس، فهو يقول: “عندما نقول القرآن هو القرآن دون مفسرين من ابن عباس حتى سيد قطب، لا تأخذ أي كلمة من هؤلاء الناس، لا تشرك في كلام الله كلام أحد، ما عرفت فالحمد لله ، وما لم تعرفه فلست مكلفاً بأن تعرف كل شيء…” ويضيف بأنه لايمكن أن نحتفظ بالأحاديث كما قالها الرسول (ص)، لمئات السنين، “هذا أمر لا يقره العلم اليوم، المهم هو المتن الخاص بالحديث هل يتفق مع القرآن ؟ إذن يقبل ، لا يتفق مع القرآن إذن يرفض..” . وفي هذا المجال، يفنّد البنّا حديث الردة، فيشير إلى الآيات القرآنية المتعلقة بحرية الاعتقاد ” لا إكراه في الدين”، “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”،”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، ويقول بعد كل هذا البيان القرآني الواضح ” يجيئون لي بحديث “من بدل دينه فاقتلوه” هذا الحديث مرفوض بلا تفكير وبلا تردد، حديث موضوع، أو نقل في ظروف معينة، أو نقل خطأ أو تلاعبت به الذاكرة الخؤون، لا نأخذ به، فمن غير المعقول أن نأخذ بحديث،ونضرب بخمسين آية عرض الحائط. حد الردة لا وجود له في القرآن إذن لا وجود له في الإسلام. وهذا الحديث المتناقض للقرآن مرفوض نقلاً وعقلاً” (حديث مع أشرف عبد القادر/ الحوار المتمدن/ 14-12-2003).

ولأن حرية الإعتقاد والتعبير لا تتفق مع السلطة الدينية، أو أنها تهدد مصالحها، فقد أصدر مجلس البحوث التابع للأزهر قراراً بمنع نشر كتاب البنّا (مسؤولية فشل الدولة الإسلامية)، استناداً إلى رأي الدكتور أحمد حسن غنيم (أٍستاذ في جامعة الأزهر) وقد رد عليه الراحل برسالة كتب فيها :

” .. لا يملك لا هو ولا أي مخلوق آخر وصاية على الفكر لأن القرآن الكريم قرر حرية الفكر والاعتقاد صراحة عندما جرد الرسول وهو حامل الرسالة من أي سلطة على الناس فليس هو جبارا ولا حفيظاً ولا حسيبا ولا حتى وكيلا على الناس، وإنما عليه أن يبلغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” و “من اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها” ( أِشرف عبد القادر24-09-2004).

ما تقدم هو قليل من كثير تركه لنا جمال البنّا في سفره الطويل من أجل الحقيقة، ولأنه أحب الإسلام، أراد أن ينزهه من شوائب العصور الماضية، احترم الإنسانية فكان إلى جانب حق النساء في المساواة بالرجال. كان مثالاً في ثقته بصواب رأيه، طالما أنه يدافع عن قضية عادلة، وكما قال الإمام علي ” لا تستوحشوا طريق الحق لقلّة سالكيه”، فإنه لم يأبه بمن ناصبوه العداء أو أساءوا إليه، ولابد أنه راهن على انتشار دعوته للإحياء الإسلامي حين تخفت أصوات دعاة الفضائيات وتنضب أموال الدعم، وتنحسر موجات إرهاب المفكرين الأحرار.

في الختام أعتذر للقارئات والقرّاء، فقد أشرت في الجزء الأول من مقالي هذا إلى أني سأتناول في الجزء الثاني، بالتفصيل آراء البنّا في مسائل الحجاب، والإشهاد في الزواج، والطلاق، والحاكمية، وإمامة المرأة، والإسلام دين وأمة، لكني آثرت أن أرجأ هذه التفاصيل المهمة إلى مقالات أخرى، وفضلت أن أوضح المبادئ التي أسس عليها البنّا جميع طروحاته الفكرية.

bdourmohamed@hotmail.com

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.