جليسة الوهم

العمارة التى نسكنها من النوع الذى يحوى العديد من الشقق بحيث كنا كجيران نتعرف بالكاد على بعضنا البعض، وهذا إذا التقينا صدفة أو فى احد اجتماعات الجمعية العمومية لاتحاد الملاك، وقد كان النظام المتبع فى عمارتنا هو تأجير الشقق للطلاب المغتربين وذلك لكونها تقع فى حى قريب من وسط المدينة مما جعل الوجوه تتجدد باستمرار بحيث لا يمكن اعتبار أى من هؤلاء السكان المؤقتين جيرانا.

كانت هناك بعض الشقق التي يسكن فيها سكان دائمين مثل وحدتنا ووحدة جارتى المهندسة نوال التى تسكن فى الشقة المجاورة لى منذ سنوات تزيد على العشر، أربعينية غير متزوجة تعيش وحيدة منذ وفاة والديها وتأتى أختها التوأم لزيارتها فى أوقات متباعدة التي كنت أعلم بمجيئها عندما تدفع كرسيا متحركا أسمع ضجيجه حين تخرجه من باب المصعد وتتجه به نحو شقة نوال. لم تكن عائلة نوال من النوع الذى يحب الاختلاط ، بل على العكس كانوا لا يسمحون بأى بادرة ود… بيتهم كان خافت الاضاءة دائما ، وهم قليلى الزوار.. كنا نشك فى انهم يقومون بطقوس غريبة فقد كانت هناك أصواتا تشبه أصوات الانين المصحوب بغناء حزين تصدر من شقتهم أحيانا ، لدرجة أننا فى البداية ظننا ان لديهم مريض وان هذا الانين يصدرعنه.

لم نتحدث الا مرات معدودة طوال هذه السنين وحاولت مرة أن أدعوهم فى رمضان أو أهديهم صحنا من الكعك فى العيد كما تعودت أن أرى أمى تفعل مع جيرانها، لكنهم كانوا إما يعتذرون بابتسامة رسمية ويغلقون الباب بعدها فورا، أو لا يفتحون الباب حين أقرع الجرس رغم علمى انهم بالداخل مما جعلنى أتردد فى تكرار الدعوات أو حتى التهنئة بالأعياد.

كانت اسرتهم تتكون من الاب والأم والبنتين نوال وفايزة ، إنطوائيتان لا تتحدثان الى أى من السكان، وكانت أمهما تقف لهما بباب الشقة الى حين يصعدا ويدخلا أمام عينيها ثم كانت تغلق الباب فورا بعد دخولهما بمفتاح وترباس.

باقى الشقق فى الطابق الذى نسكن فيه كانت اربعة أحداهما مغلقة والثانية مؤجرة لطلبة والاثنتان المتبقيتان إحداهما للأستاذ ناجى المحامى وزوجته مدام صفاء واولادهما والأخرى للحاجة فتحية وهى سيدة سبعينية لديها ولد وحيد يزورها على فترات متباعدة.

لم تكن مدام صفاء أو الحاجة فتحية يتحدثان الا معى كلما تصادف وتقابلنا على سلم العمارة، وقد أبدت لى صفاء شعورها بعدم الارتياح لنوال، التى تعتبر فى نظرها غريبة الأطوار وأن زوجها أيضا لديه نفس الشعور، لم أكن أحب ان أتطرق الى سيرة جارة من الجارات مع صفاء لأنها كانت متصلة بسيدات أخريات فى العمارة وبكل تأكيد ستنشر ما قلناه فيما بيننا لجميع السيدات اللائى تختلط بهن، مما قد يغضب نوال.

لم اكن احس ان نوال تتفق كثيرا مع أختها أو تفرح بزيارتها، ودائما ما كنا نلاحظ أصواتهما تعلو فى نقاشات حادة لا نستطيع تمييز سببها، لكنهما على اية حال كانتا تضطران للصمت بعد أن يبدأ صراخ هيستيري حاد، لم نستطع أن نعرف مصدره تحديدا، فى أول مرة سمعت فيها هذا الصراخ جريت الى باب شقتها وأخذت أرن الجرس بجنون لظنى ان هناك كارثة ويمكننى المساعدة ، لكن ما حدث ان طال انتظارى ثم فتحت لى فايزة أخت نوال الباب بقدر بسيط لا يسمح بان أرى ما يجرى بالداخل ترتدى إيشارب يغطى نصف وجهها وردت بصوت ليس فيه أى ود أو ترحاب كما ان نبراته مختلفة قليلا قائلة : نعم ؟

فتساءلت بدورى : في حاجة يا فايزة ؟ أقدر أساعد فى أى حاجة ؟

ردت بسرعة : لا مافيش .. !!

أغلقت الباب دون أن تنتظر اى كلمة أخرى، لم أرتح لهذا السلوك ، كما أثار ضيقى تلك الرائحة التى اخترقت أنفى حين فتحت أخت نوال الباب، إنها رائحة تشبه البخور المختلط برائحة أخرى لم أستطع ابدا ان أميز ماهيتها، ولكن لم اشعر بارتياح.

عدت لشقتى يملأنى شعور بالاختناق وفى طريقى لمحت صفاء تقف بالباب وتقول : مش قلت لك !! دول ناس عجب، لم أرد وأسرعت الخطى حتى لا تطيل.

فى إحدى الليالى وبعد أن استغرقنا فى النوم، استيقظت على صوت الصراخ الهيستيرى يصحبه صوت أنين غناء حزين يشبه هذا الذى كنا نسمعه صادرا من بيتهم أثناء تأديتهم لطقوسهم الغريبة، ولكن تعجبت هذه المرة لم يسبق الصراخ هذا النقاش الحاد وانما تبعه صوت جلجلة الكرسى المتحرك الذى عادة ما تدفعه امامها فايزة أخت نوال حين تحضر اليها يوم الجمـ….عة، تذكرت ان اليوم ليس الجمعة واننا فى منتصف الاسبوع وعادة لا تصدر مثل تلك الاصوات الا يوم الجمعة..!! هممت اجلس فى الفراش فأمسك زوجى يدى مانعا إياى من النهوض قائلا: رايحة فين

ـ فقلت : انت صاحى ؟؟ سأذهب لأرى ايه حكاية هذا الصراخ.

ـ فقال : الساعة الآن الثالثة بعد منتصف الليل .. هل ستطرقين الباب على الجيران فى هذا الموعد لتسأليهم ؟ نامى نامى يا شيخة مالكيش دعوة .

استلقيت مرة أخرى ولكن الصوت ظل مستمرا بخفوت .. ظللت اتابعه حتى استغرقت فى نومى.

فى اليوم التالى قابلت نوال على سلم العمارة أثناء ذاهبها الى عملها، فهى تعمل بمؤسسة حكومية وتخرج يوميا فى هذا الموعد السابعة والنصف وتعود فى الثانية والنصف ظهرا، نوال لم تكن تعتنى كثيرا بمظهرها ملابسها كلاسيكية وغالبا كانت من طرز قديمة جدا تميل ألوانها الى الرمادي والبني والأسود.. ألقت على التحية باقتضاب ومشت مسرعة وكانها لا تريدنى أن أسألها عن أصوات الأمس، او هكذا استنتجت لأنها فى الاساس ودودة بعكس اختها فايزة تماما، ولكنها فى هذا الصباح لم تكن كذلك.

فى هذا اليوم عدت من عملى مبكرة فقد كنت مصابة ببرد شديد واحتاج للنوم.. حين دخلت غرفتى سمعت أصواتا غريبة وكنت أشك ان مصدرها هو شقة نوال، لكنى كذبت ظنى هذا وصرفت الفكرة كلها عن ذهنى ففى هذا الوقت من النهار عادة لا يكون هناك أحدا فى الشقة.

بدأت الأصوات .. أنين صراخ هيستيرى قرقعة الكرسى المتحرك مع صوت اصطدامه بالحوائط والابواب الخشبية..! اندهشت وشعرت بالخوف ، ذهبت الى الحمام ونظرت على نافذتهم المطلة على المنور، فقد تكون نوال قد عادت مبكرة، لكن لم ألحظ أى ضوء أو حركة وفجأة صمتت الضوضاء وجميع الاصوات حين طللت براسى من نافذتنا، وكأن عيونا رأتنى، فأفزعنى الصمت المفاجئ أكثر مما أفزعتنى الضجة.

جريت نحو فراشى وتدثرت بكل الاغطية فوق الفراش وخبأت رأسى أيضا وقلبى يخفق بشدة، حين عاد زوجى من عمله رويت له ما حدث فقال ساخرا : لااااا ده انتى خلاص فقدتِ صوابك تماما، اى أصوات تتحدثين عنها ؟ أنا قابلت نوال الآن عائدة من عملها وفتحت باب شقتها بالمفتاح ولفته عدة مرات مما يدل ان لا أحد بالداخل … انتى محتاجة لنوم وراحة سأوقظك بعدها وستكونين فى أفضل حال.. والآن ارجو ان تنامى.

قال كلماته هذه وكاد بعدها رأسى أن ينفجر ولا أعرف إن كان بسبب البرد أم بسبب الرعب.

مرت عدة أسابيع كنت أنتبه خلالها للأصوات أحيانا وأحيانا أتجاهلها، الى ان جاء أحد أيام الجمعة وكنت أخرج بكيس القمامة لأضعه خارج الشقة، فاذا بباب المصعد يفتح وتخرج منه إمرأة ترتدى ايشارب يغطى نصف وجهها بطريقة لافتة للنظر وتدفع أمامها كرسى متحرك ، القت علي التحية بإيماءة من رأسها، فقلت لها: أهلا فايزة، وبنظرة سريعة على الكرسى المتحرك وجدته فارغا ولا يجلس عليه أحد مكوما عليه بطانية رمادية اللون وتلوثت الأجزاء المعدنية منه بلون أصفر يميل للبنى وحين لاحظت انى أنظر للكرسى أسرعت الى باب شقة نوال وفتحته بمفتاح ولم تقرع الجرس كالعادة وإنما دخلت مسرعة.. حين فتحت الباب وأغلقته كنت قريبة منه فشممت نفس الرائحة الغريبة الغير محببة والتى تختلط بالبخور، فانزعجت وأسرعت الى شقتى وأغلقت أنا ايضا بابى بسرعة وكأن هناك من يلاحقنى.

فى مساء أحد الأيام جاءت صفاء لزيارتى وحين فتحت لها الباب قالت : أنا جاية لك فى موضوع مهم ومش ناوية أقعد كثير.

رحبت بها وذهبت لإعداد شاى وقلبى يحدثنى أنها ستكلمنى فى موضوع نوال… وكما توقعت ولساعة ونصف تشرح لى كيف أنها لاحظت أن أختها أصبحت تاتى لزيارتها كثيرا مؤخرا، وكيف أن استهلاكها فى الكهرباء لا يتعدى العشرين جنيها فى الشهر، وأنها لا تفتح لكشاف الغاز الا فيما ندر ، وانه أسرَّ لصفاء أن رائحة شقة نوال غريبة منفرة. ظللت استمع لصفاء واسترجع أصوات الأنين المخيفة وأخشى أن أبادل صفاء مخاوفى حتى لا تكبر أكثر وخاصة انها أصبحت هاجسا يسيطر على عقلى حتى أثناء وجودى فى عملى.

بت لا اتوقف عن التفكير فى الرائحة والاصوات القادمة من شقة نوال وهذا الضوء الخافت الباعث على الكآبة، كانت هذه الأفكار تشتت تفكيرى، فنصحنى زملائى وزميلاتى بأن أقوم باجازة حتى تهدأ اعصابى، فقد كنت أردد كلمات تعبر عن اندهاشى فأبدو كما لو كنت احدث نفسى وخاصة حين أتذكر رائحة البخور المختلطة بـ… نعم .. تذكرت، مختلطة برائحة المياه الآسنة العطنة ونوع من الروائح الكيميائية التى لم أتعرف على اسمها ولكنها أشبه بالفورمالين الذى يحفظون فيه الجثث.. وما أن وصلت لهذه النتيجة، صرفت الفكرة فورا وتأكدت بعدها انى محتاجة للراحة.

سمعت نصيحة زملائى وعدت لبيتى وليس فى ذهنى سوى أن أرتاح وأنسى موضوع الاصوات وشقة نوال ونوال نفسها، حتى لا أصاب بالجنون. نجحت أول يومين من الاجازة فى أن انسى وأبتعد وكنت أضع الاسطوانات واستمع للموسيقى بصوت عال لكى تطغى على الأصوات التى انتقلت من شقة نوال الى رأسى..وبت اعتمد على الحبوب المنومة كى أستطيع النوم ليلا ولكن رغم ذلك كنت أستيقظ فى منتصف الليل صارخة ثم أعاود النوم مرة أخرى بصعوبة، مرات كنت أسير حافية القدمين الى النافذة المطلة على المنور الذى يفصل شقتنا عن شقة نوال دون أن أوقد النور، ورغم انى متأكدة أن الأصوات كانت موجودة الا أنها تصمت بصورة مفاجئة بمجرد أن أطل من النافذة وبرغم وقوفى فى الظلام، فكنت أعود جريا الى الفراش ويظل جسدى يرتعش.. حتى أعاود النوم مرة أخرى بصعوبة.

استيقظنا يوما على صخب سيارات الاسعاف وسيارات شرطة تقف بباب العمارة وأصوات أقدام ثقيلة فخرجنا لنفهم ماذا يحدث.. فإذا برجال يرتدون ملابس بيضاء يصطحبون نوال وهى فى حالة مزرية ترتدى ايشارب يغطى نصف وجهها بنفس الطريقة اللافتة للنظر والتى رأيت عليها أختها من قبـ………ـل .. !! إذن لقد كانت نوال تتنكر فى شكل أختها فايزة، ولكن لماذا ؟؟ لمحت صفاء وزوجها يقفان فى وسط الزحام وزوجها الاستاذ ناجى المحامى يتحدث بجدية لضابط الشرطة الذى طلب منه ان ينتظر لأنه ضرورى سيدلى بأقواله هو والسيدة زوجته صفاء والتى حين وجدتنا انا وزوجى اتجهت نحونا مباشرة قائلة بفزع شفتوا شفتوا يا جماعة .. جريمة فى عمارتنا جريمة بشعة.

كانت نوال فى خلال سيرها يجرها رجال المصح النفسى مع مقاومة ضعيفة منها، تصدر نفس الانين الذى أرقنى شهورا ثم تبدأ فى الصراخ الهستيرى وتتكلم سريعا تارة بصوتها وتارة بصوت آخر غالبا هو صوت أختها فايزة…نفس النقاشات الحادة لدرجة ان المستمع لها يظن انهما شخصيتان، مع التفاف الجيران حول المشهد وتمتمات الحاجة فتحية : لا حول ولا قوة الا بالله .. دى اتجننت من الوحدة .. طلبوا منا الابتعاد عن الشقة لأن فيها بقايا جثة متحللة ويجب الابتعاد حتى ينتهى رجال الشرطة من تحقيقاتهم……. وسط ذهولنا جميعا ومرورها أمامى وانا أنظر لها برعب وباشفاق فى ذات الوقت والدموع تملأ عيونى ضحكت ضحكة تشبه الصراخ والقت برأسها للخلف محاولة تفادى كتف رجل المصح فانزلق الايشارب من على رأسها وانكشف وجهها الذى أعرفه ولكن ولأول مرة أرى ابتسامة مرتسمة عليه.. ثم قالت لى : ما تعيطيش أنا راجعة على طول … وبابتسامة عريضة ونظرة ضائعة قالت ….باى باااااى.‎فاتن واصل – مفكر حر

About فاتن واصل

كاتبة ليبرالية مصرية
This entry was posted in الأدب والفن, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.