ثورة أهل الجحيم- ج 6

جميل صدقي الزهاوي؛ نُظِمت في تشرين الأول- أكتوبر 1929

مراجعة: رياض الحبيّب؛ تموز- يوليو 2012
https://mufakerhur.org/?author=6

خاص: المُفكِّر الحُرّ

– – –

ثامنًا: شوط العقاب والإذلال والعذاب

قال ما أنتَ أيّها الرِّجْسُ إلّـا * ملحِدٌ قد ضلَّ السبيل كَفورُ

ما جزاء الذين قد كفروا إلّـا * عذابٌ بَرْحٌ وإلّـا سَعيرُ

ثمَّ تَـلّـاني للجبين وقالـا * لِيَ ذُقْ أنت الفيلسوفُ الكبيرُ

قلتُ صَفْحًا فكلُّ فلسفتي قد * كان مما يُمليهِ عقلي الصَّغيرُ

ثم قولي من بَعْدِها: أنت ربّي * هُو منّي حَماقةٌ وقصورُ

لم تكن أقوالي الجريئة إلّـا * نفَثاتٍ يرمي بها المَصدورُ

قد أسأتُ التعبير فالله ربّي * ما لهُ في كل الوجود نظيرُ

فأجاباني قائلَينِ بصوتٍ * لا يسُرّ الأسماعَ منه الهديرُ

قُضِيَ الأمرُ فاٌستعِدَّ لضَربٍ * منه تدمى بعد البطون الظهورُ

لا يفيد الإيمان من بعد كفر * وكذا جدّ الطائشين عثورُ

وأمَضّاني بالمَقامع ضربًا * كدتُ منه في أرض قبري أغورُ

لم يكن فيهما يثير حنانًا * جَسَدٌ لي دامٍ ودمعٌ غزيرُ

ولقد صِحتُ للمضاضة أبغي * لِيْ مُجيرًا وأين منّي المُجيرُ

ثم صَبّا بقسوة فوق رأسي * قَطِرانًا لسوء حَظّي يفورُ

فشوى رأسيْ ثم وجهيَ حتى * بان مِثلَ المجدور فيه بُثورُ

ثم أحسَسْتُ أنّ رأسيَ يغلي * مثلما تغلي بالوقود القدورُ

وقد اٌشتـدَّتِ الحرارة في قبريَ حتى كأنهُ تَـنّورُ

وأطالا فيَّ العذابَ إلى أنْ * غاب وعيي وزال عني الشّعورُ

ثم لمّا انتبهْتُ ألفيتُ أني * مُوثَقٌ من يدي وحَبْلي مَريرُ
– – –

تَـلّـاني: تبعاني¤ نفثات؛ جمع نفثة، النُّفَاثة: ما يُرمى به من الفم كالبصقة وسمّ الحيّة، ما ينفثه المصدور أي المصاب بداء في الصدر كالسّل. نفث القلمُ: كتبَ. نفثات الشاعر: شِعْرُه¤ أمَضَّني الجُرحُ إمْضاضًا: آلمَني وأوجَعَني وأحرقني. مقامع؛ جمع مِقمَعَة: خشبة أو حديدة يُضرَب بها الإنسان ليُذَلّ¤ المجدور: المصاب بمرض الجُدَري¤ التَنّورُ: مَخبَز بدائي¤ حبل مرير: شديد الفتل على أكثر من طاق

* * *

تاسعًا: جولة في الجنّة

ثم طارا بي في الفضاء إلى الجَنّة حتى يَغرى بلَومي الضميرُ

وأسَرَّا في أذْن رِضوانَ شيئًا * فأباح الجوازَ وهو عسيرُ

لمَسَتْ إذ دخلتُها الوجهَ منّي * نفحةٌ فاح عطرُها والعبيرُ

أخَذَتنْي منها المشاهدُ حتّى * خِلتُ أنّي سكرانُ أو مسحورُ

جَنّةٌ عرضُها السّماوات والأرض بها مِن شتّى النعيم الكثيرُ

فطعامٌ للآكِلين لذيذٌ * وشرابٌ للشاربين طَهورُ

سَمَكٌ مقليٌّ وطير شَوِيٌ * ولذيذ من الشواء الطيورُ

وبها بعد ذلكمْ ثمَراتٌ * وكؤوسٌ مليئةٌ وخُمورُ

وبها دوحة يقال لها الطوبى لها ظلٌ حيث سِرتَ يسيرُ

تتدلّى غصونها فوق أرض * عرضُها من كل النواحي شُهورُ

وجَرَتْ تحتها من العسل المُشتار أنهارٌ ما عليها خفيرُ

ومن الخمرة العتيقة أخرى * طعْمُها الزنجبيلُ والكافورُ

ومن الألبان اللذيذة ما يشربُهُ خَلْقٌ وهْوَ بَعْدُ غزيرُ

ثمّ للسلسبيل يطفح والتسنيمُ ماءٌ يجري به التفجيرُ

وجميع الحصباء دُرٌ وياقوتٌ وماسٌ شعاعُهُ مستطيرُ

كل ما يرغبون لهْو حلال * كل ما يشتهونهُ ميسورُ

وعلى أرضها زَرابيُّ قد بثّتْ حِسانًا كأنّهُنّ زُهورُ

وعليها أسِرَّةٌ وفِراشٌ * مثلما يهوى المؤمنون وثيرُ

وعلى تلكمُ الأسِرَّة حُورٌ * في حُلِيٍّ لها ونِعْمَ الحورُ

لسْنَ يَخْشَين في المَجانة عارًا * وإنِ اٌهتزَّ تحتهُنَّ السَّريرُ
 
كلّ مَن صلَّى قائمًا وتزكَّى * فمِن الحُور حَظّهُ موفورُ

ولقد يُعطى المرءُ سبعين حَوراءَ عليهِنَّ سُندُسٌ وحَريرُ

يتهادَين كالجُمان حِسانًا * فوق صَرْحٍ كأنه البَلُّورُ

حبَّذا أجيادٌ تَلِعْـنَ وأنظارٌ بها كل مُبْصِرٍ مسحورُ

وخُصُورٌ بها ضُمورٌ وأعجازٌ ثِقالٌ تعيا بهِنَّ الخُصورُ

وكأن الوُلْدان حين يَطُوفون على القوم لؤلؤٌ منثورُ

إئتِ ما شِئتَهُ ولا تخْشَ بأسًا * لا حَرامٌ فيها ولا محظورُ

إنَّ فيها من الحدائق غابًا * تتغنّى من فوقهِنَّ الطيورُ

إنَّ فيها جميعَ ما تشتهيهِ النفسُ والعينُ واللهى والحُجورُ

فإذا ما اٌشتهيتَ طيرًا هوى مِن * غُصْنِهِ مَشْويًّا وجاء يَزورُ

طِينُها مِن فالوذجٍ لا يَمَلُّ المرءُ منهُ فهْوَ اللذيذ الغزيرُ

وإذا رُمتَ أن يحالَ لك التينُ دَجاجًا أتاك وهْوَ يطيرُ

أو إذا شئتَ أن تصير لك الحصباءُ دُرًّا فإنها لَتَصِيرُ

إنَّ فيها مشيئة المرء تأتي * عَجَبًا عنه يعجزُ الإكسيرُ

ليس فيها موتٌ ولا موبقاتٌ * ليس فيها شمسٌ ولا زمهريرُ

لا شِتاءٌ ولا خريفٌ وصيفٌ * أترى أنّ الأرض ليست تدورُ؟

جنّةٌ فوق جنّةٍ فوق أخرى * دَرَجاتٌ في كلِّهِنَّ حُبُورُ

وحِياضٌ قد أترعَتْ ورياضٌ * قد سقى الطلُّ زهْرَها وقُصُورُ

كلُّ هذا وكلّ ما فوق هذا * منهُ طَرْفُ الأقوام فيها قَريرُ

ولقد حلّوا فوق ذلك فيها * فضة في أساور تستنيرُ

ولهُمْ فيها نعمةٌ بعد أخرى * ولهُمْ فيها لَذّةٌ وسُرورُ

ولقد رُمتُ شَرْبةً مِن نَميرٍ * فتيمَّمْتُهُ ففرَّ النميرُ

وكأنَّ الماء الذي شِئتُ أن أشربَهُ باٌبتعاده مأمورُ

وتذكَّرتُ أنني رَجُلٌ جيءَ بهِ كي يُراعَ منهُ الشعورُ
 
أيّ حق في أنْ أنال شرابي * بعد أن صحّ أنني مثبورُ؟

قلتُ عُودا من حيثما جئتُماني * إنّما هذهِ لهمِّي تُثيرُ

أنا راضٍ من البيوت بقبر * يتساوى عشيُّهُ والبكورُ

أيّها القبرُ اٌرحمْ طوالعَ شيبي * أنا في كَرْبتي إليكَ فقيرُ
– – –

بعض المعاني- بمساعدة القاموسين المذكورين في الأجزاء السابقة وغيرهما

غَرِيَ بلومي الضمير يَغْرى: يلصَق، كأنه أُلصِق بالغِراءِ¤ أَسَرَّ الشيء: كتمه وأَظهره- وهو من الأَضداد¤ ذو رِضْوان: خازِنُ الجَنَّة¤ العسل المُشتار: المستخرج من خلايا النحل¤ الحَصْباءُ هو الحَصى الصغار¤ التَسنِيم: عين في الجنة أو ماء سُمِّي بذلك لأَنه يَجْري فوق الغُرَف والقُصور¤ الزَّرابيُّ: البُسُطُ، كلُّ ما بُسِطَ واتُّكِئَ عليه¤ المَجانة؛ مَجَنَ مُجونًا ومَجانَة: صَلُبَ وغَلُظَ، منه الماجِنُ لمن لا يُبالِي قولًـا وفِعْلًـا كأنه صُلْبُ الوجهِ¤ أجياد؛ جمع جِيد: عنق¤ تَلَع الظبْيُ: أخرج رأسَهُ وسَمَا بجِيدِه¤ اللهى؛ جمع لُهوة: ما يُلقي الطاحن من الحبّ في فم الرّحى بيده، العَطيّة¤ الحُجُور: الأحضان¤ فالوذج؛ الفالوذ من الحَلْوَاءِ: هو الذي يؤكل، يُسوَّى من لُبِّ الحنطة، الفالوذ والفالوذَق مُعَرَّبان عن الفارسيّة ولا يقال الفالوذج¤ الإكسير: ما يُلقى على الفضّة ونحوها فيحوّلها إلى ذهب خالص وذلك من الخرافات¤ الماء النَّمِير: الكثير، الناجع في الرِّيِّ وغيره. قال امرؤ القيس في معلّقته
كبِكْرِ المُقانَـاةِ البَيَـاض بصُفْـرَةٍ * غَذاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غيرُ المُحَلَّلِ
يُراع؛ راع عليه القيءُ يَرِيع: رجع وعاد إلى جَوفه، كلُّ شيء رجَع إِليك فقد راعَ يرِيع. قال طرفة بن العبد في معلقته
تَرِيعُ إلى صَوْتِ المُهِيبِ وتَتَّقي * بذي خُصَلٍ رَوْعاتِ أكْلَفَ مُلْبِدِ
مثبور: ملعون مطرود مُعَذَّب؛ ثَبَرَهُ يَثْبُرُه ثَـبْرًا وثَـبْرَة: حَبَسَهُ

About جميل صدقي الزهاوي

جميل صدقي الزهاوي : شاعر وفيلسوف عراقي كردي الأصل، وقد عرف بالزهاوي .منسوبا إلى بلدة زهاو ولد جميل الزهاوي في بغداد عام 1863م، وعين مدرسا في مدرسة السليمانية ببغداد عام 1885م، وهو شاب ثم عين عضوا في مجلس المعارف عام 1887م، ثم مديرا لمطبعة الولاية ومحررا لجريدة الزوراء عام 1890م، وبعدها عين عضوا في محكمة استئناف بغداد عام 1892م، وسافر إلى إستانبول عام 1896م، فأعجب برجالها ومفكريها، عين أستاذا للفلسفة الإسلامية في دار الفنون بإستانبول ثم عاد لبغداد، وعين أستاذا في مدرسة الحقوق، وعند تأسيس الحكومة العراقية عين عضوا في مجلس الأعيان. توفي الزهاوي عام 1936م.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.