تصرف واحد أو كلمة واحدة منا قد تفعل فعل السحر سلبا أو ايجابا

حدث ذلك منذ حوالي سبعة عشر عاما…. جاءتني رسالة من صديقة في سوريا ترجوني أن أساعد شابة سورية وصلت لتوها
إلى أمريكا وتعيش وضعا مأساويا. استقبلت صفاء في مطار لوس أنجلوس قادمة من ولاية أخرى، وعاشت في بيتي قرابة ثلاثة اشهر. كانت في بداية الثلاثين من عمرها، لطيفة ولكنها صامتة…. وأنا بطبعي عندما أشعر بان شخصا يملك منطقة محظورة في حياته، أتراجع وأحتفظ بأسئلتي. أقدر خصوصيات الناس ولا أطرح سؤالا واحدا اعرف أنه قد يُحرج صاحبه. لذلك، عاشت صفاء في بيتي كل هذه الفترة دون أن أعرف عنها شيئا، سوى أنها هربت من زوج ظالم وانتهى بها المطاف في أمريكا.
……….
أحد الأيام كنا على مقربة من الأعياد، لاحظت صفاء أنني أتحدث بخشونة مع شخص على الهاتف، ولما سألتني: ما القضية؟
قلت: رجل مختص بتنظيف النوافذ والثريات، كان قد وعدني بأن يأتي اليوم وأخلف! ثم تابعتُ باحباط: لم يعد بامكاني انجاز هذه المهمة قبل الأعياد!!
………
كان سقف المدخل إلى البيت كاتدرائيا عاليا تتوسطه ثريا كبيرة علاها الغبار، وكان يحيط بالمدخل بعض النوافذ التي نطلق عليها في أمريكا
ٍٍSky widows
لأنها عالية وقريبة من السقف. لما رأت صفاء علامات الاحباط على وجهي، قالت: لقد رأيت سلما عاليا في الكاراج، دعيني أجرب أن أنظفها بنفسي! فرمقتها بنظرة حادة، وقلت: هل أنت مجنونة، طبعا لا…. هل تخاطرين بحياتك من أجل تنظيف ثريا؟؟
هذا الرجل مختص ويملك سلالما خاصة ويربط نفسه بعدة احزمة عندما يتسلقها.
………….
أحد الأيام تركت صفاء في البيت وخرجت لمدة حوالي ساعتين، ولما عدت فتحت الباب لأراها متعمشقة في أعلى السقف، وتحاول أن تهبط باتجاه الأرض. صرخت بأعلى صوتي، ورحت أرتجف: ماذا تفعلين أيتها المجنونة؟؟!
فابتسمت وهي تتدلى نحو الاسفل وقالت: انظري لقد نظفتها على أحسن وجه! لم اتوقف عن الصراخ لمدة ساعة، وانا أهز راسي مستنكرة بين الحين والآخر، وأقول: كيف تخاطرين بحياتك من أجل مهمة تافهة كهذه؟ ماذا لو وقعت؟ ماذا لو انكسرتِ؟ ماذا لو ارتطم رأسك بالأرض؟ كنت أصرخ بغضب لا مثيل له، بينما هي تبتسم وتبدو مزهوة وكأنها قائد ربح لتوه حربا ضروسا!
….
تعرفت صفاء على اسرة عربية في بيت أحد صديقاتي، كانت الاسرة تزور صديقتي قادمة من ولاية مشيغن. اُعجب الزوجان بشخصية صفاء اللطيفة، وسُعدا عندما عرفا أنها كانت معلمة في سوريا. أقناعاها بان تسافر معهما، فهما يملكان حضانة للأطفال ووعداها أن يدفعا لها راتبا جيدا، وفي حال لم يعجبها الوضع سيشتريان لها بطاقة طائرة كي تعود إلى كالفورنيا،
فغادرت معهما. بقينا على تواصل لعدة سنوات، وكنت اسمع بين الحين والآخر أن وضعها يتحسن وهي تنتقل من نجاح إلى آخر، وكانت أخبار نجاحاتها تسعدني جدا. لسبب ما، انقطع التواصل بيننا، ولم أعد اسمع سوى بعض الاخبار كان آخرها أنها تملك وظيفة عالية جدا في إحدى الشركات، واشترت بيتا وتنفق على اهلها في سوريا.
….
بعد قرابة سبعة عشر عاما، وحديثا اضطررت إلى زيارة خاطفة إلى ولادية مشيغن، مدتها يوم واحد. عندما انتهيت من اشغالي عدت إلى الفندق، فرايت رسالة على الفيسبوك: (مرحبا وفاء… أنا صفاء… كيف تزورين مشيغن ولا تسألين عني؟ من الضروري جدا جدا أن أراك؟ أياك ان تتركي مشيغن قبل أن نتقابل)
استغربت الرسالة جدا، فكتبت أقول: من صفاء؟ وكيف عرفت أنني في مشيغن؟!! كتبت: (نسيتِ صفاء؟؟؟ السعدان الذي تعمشق على السلم في بيتك ثم مسحتِ الأرض به…هههههه فلان أخبرني أنك هنا أرجوك أتوسل إليك أن نلتقي قبل أن تسافري)
قلت: صفااااااااء، كيفك يا صفاء؟ هل تريدين أن نلتقي كي تردي لي الصاع صاعين؟!!! ضحكت صفاء واتفقنا أن نلتقي على مائدة الفطور في الفندق قبل أن أتوجه إلى المطار.
……
كان لقاءا من أجمل اللقاءات التي صادفتها في حياتي…. عانقتني صفاء وبكت حتى ارتوت. لم اكن أعرف أنني تركت في حياتها ذلك الأثر الذي إبكاها إلى هذا الحد وراحت تروي قصتها:
(عندما دخلت بيتك كنت جسدا بلا روح، بل كنت شبحا لا يبغى من الحياة سوى أن يختفي. ولدتُ لوالديّ بعد أن تقدما بهما العمر… كنت البنت الخامسة، وكان أبي يحلم أن أكون ذكرا، فقتلتُ بمجيئي إلى الدنيا حلمه وحلم أمي. لذلك لم يرحبا بقدومي واعتبرا وجودي عبأا ثقيلا. بدأت مأساتي منذ أن بدأت أعي الحياة، كلما التقى بي أبي في أحد زوايا البيت يركلني برجله وكأنني كلب أجرب. لم تكن أمي أو أي من أخواتي الأربعة اقل لؤما. مرة ـ ياوفاء ـ كنا نتناول طعام الغداء في بيت خالتي في قريتها،
وقررنا نحن الأطفال أن نلعب في الخارج، فقالت خالتي: لاتبتعدوا، الدنيا حر، وأخشى عليكم من الأفاعي فهي كثيرة في الأحراش المحيطة بنا!
فردّ أبي: ليت أفعى تعض صفاء فنرتاح منها! وغرق الجميع في نوبة ضحك.
مرة أخرى رن جرس البيت فركضت أختي وفتحت الباب، ثم قالت ماما أنه شحاد ماذا نعطيه؟
فردت الأم: أعطوه صفاء….
حاولت أخواتي دفشي باتجاه الباب وأنا أصرخ وأتوسل لهن أن لا يضحوا بي تمسح صفاء دمعتها وتتابع: في اليوم الذي طلب فيه والد زوجي يدي من أبي لابنه، قال له. ماهي شروطكم؟
فرد أبي بسخرية: أنت من يحق له أن يضع علينا شروطا!
لقد حسّ زوجي وأهله منذ اليوم الأول لزواجي أنني فردة حذاء بالية تخلصت منها عائلتي ولم يعاملوني إلا بناءا على إحساسهم هذا!!) تغرق صفاء في نوبة بكاء، ثم تفتح عينيها وتتابع: (في اللحظة التي لمحت بها ملامحك وأنا أهبط من أعلى السلم، وسمعت كلماتك يا مجنونة تضحين بحياتك من أجل مهمة تافهة؟؟؟ أحسست أنني ولدت من جديد…. كنت أتوقع أن تفرحي لأنني أنجزت لك مهمة، لكن حياتي كانت عندك أغلى من أية مهمة!! لأول مرة أحسست أن حياتي قيمة، وأن أحدا ما يعتبرها قيمة…. لا استطيع أن أشرح لك تلك اللحظة، إنها لحظة غارقة في لغزيتها… أحسست عندها أنني خلعت قناعا كان يحجبني عن حقيقتي، ثم فجأة تقمصتُ ذاتي العليا ـ على حد وصفك يا وفاء ـ فأنا أتابع كتاباتك منذ زمن طويل…. لقد جردتني معاملة أهلي لي من تلك الذات، فعشتُ حياة غير حياتي وظننتُ نفسي شخصا غير حقيقتي…. لكن في تلك اللحظة ولدت ـ على يديك ـ من جديد, ثم تتابع: أنا مدينة لك بكل نجاحاتي، وأريدك أن تعرفي كم أحبك!
…………………
لقد كان هذا الحدث تصرفا عفويا مني، ولم أكن أدرك أنه سيترك أثرا عميقا في حياة شخص آخر…. هكذا هي معظم تصرفاتنا!!
لا أحد فينا يعرف كم مرة ساهم في بناء أو تدمير شخص آخر، فتصرف واحد أو كلمة واحدة منا قد تفعل فعل السحر سلبا أو ايجابا, لذلك، يجب أن نرفع مستوى وعينا إلى حد نستطيع عنده أن نغربل تصرفاتنا وأقوالناٍ، وخصوصا عندما يتعلق الأمر
بـ (((((( أطفالنا )))))) نعم بأطفالنا! الأذية نفسيّة كانت أو جسديّة تحجب الإنسان عن ذاته العليا وتجرده من روحه، فيعيش في الحياة شبحا ـ على حد تعبير صفاء ـ ويغادرها قبل أن يعرف حقيقته!
……
صفاء اليوم هي الصفاء بعينه، وليس لدي شك أنها تبكي الآن وهي تقرأ قصتها على صفحتي فلقد وصلتني حرارة دموعها،
وبدأت تلامس شغافي وتبعث الدفء بين أضلعي…..
************************************
أعزائي القرّاء: مرة أخرى أعتذر عن طول القصة. حاولت بكل امكانياتي أن أختصرها فلم اُفلح، كي أعطي الموضوع حقه.
محبتي

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

One Response to تصرف واحد أو كلمة واحدة منا قد تفعل فعل السحر سلبا أو ايجابا

  1. س . السندي says:

    ١: كم إنسانة مثلها اليوم في أوطاننا تتعذب دون معين أو مغيث مع ألاسف الشديد ؟

    ٢: حقيقة كل انسان يعمل بأصله {فالشجرة الجيدة تحمل ثماراً جيدة ، والشجرة الرديئة تحمل ثماراً رديئة} سبب خراب أوطاننا وإنساننا هى تلك البذار المسمومة التي غزت ديارنا ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.