تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الأولى

تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الأولى

رياض الحبيّب

لقد بيّنت بأدلّة قاطعة في مقالتي “لفت الإنتباه عن المسمّى حديث الله” المكتوب رابطها أدنى أحاديث لمسلمين من أصحاب محمد قد أتى كل منهم بحديث لم يكن قرآناً، ثمّ نزل به القرآن فصار قرآناً، منهم الخليفة الثاني عُمَر بن الخطّاب ومصعب بن عُمَيْر- الذي قتل يوم أحُد وهو يحمل اللواء. وقد وقع مثل ذلك لبعض الكفار أيضاً، منهم النُّضْر بن الحارث- الذي كان يقول لقرَيْش: هلمّوا فإني والله يا معشر قريش أحْسَنُ حديثاً منه، ثم يحدّث قريش عن ملوك فارس، حتى قتله محمد بيده- وعبد الله بن سعد بن أبي سرح- وهو من كتّاب الوحي لمحمد ومن الستة الذين أمر محمد بقتلهم بعد “فتح” مكة. هنا رابط المقالة المذكورة- في عدد الحوار المتمدن 2705 المؤرّخ في 2009 / 7 / 12:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=177888

وقد تمّ بها تبيان موضوع مهمّ جدّاً وهو أنّ تلك الأحاديث- التي نسبها محمد لله- كانت أحاديث بشريّة صرفة وهي بمجموعها تمثل أحد المصادر التي اعتمَدَ محمدٌ لتأليف القرءان.

وفي سلسلة هذه المقالة سأبيّن طريقة تأليف القرءان، مستعيناً بدرجة كبيرة بكتاب الشخصيّة المحمّدية لمؤلفه: معروف الرصافي* والذي ركّز في كتابه هذا على قول الحقيقة مهما يكن الثمن! وسأكتب مقتطِفاً فحوى الكلام ومختصِراً قدر الإمكان، أمّا تعليقاتي وإضافاتي ما بين سطور المقالة فسأضعها بين قوسين كبيرين [ ] من أجل التوضيح والإستطراد.

القرآن
نقرأ في الصفحة 551-552 من كتاب الرصافي: كان محمد في خلوته في حراء يفتكر في وضع الأساس الذي تقوم عليه الدعوة، يفتكر في الصور التي تقوم عليها الدعوة، بل الواسطة التي يؤدي بها الدعوة. ومعلوم أن الدعوة تقوم بالكلام، ولكنْ بأيّة صورة من الصور الكلامية يُصاغ كلام الدعوة ويُسبك؟ أيجعل الكلام شعراً منظوماً أم نثراً مسجوعاً أم ماذا؟ حتى استقرّ رأيه على جعل الكلام قرآناً يُقرأ ويُحفظ. فابتدع- بما أوتي من فطنة واسعة وذكاء وقاد- لكلامه الذي يؤدي به الدعوة أسلوباً لم تعرفه العرب ولم يسبقه إليه أحد منهم، فجاء كلامه على هذا الأسلوب لا هو من الشعر المنظوم ولا هو من النثر المسجوع، إنما جعله جملاً تنتهي بفواصل؛ كل فاصلة منها تفصل الكلام الذي تقدّمَها عمّا بعده إمّا فصلاً تامّاً في اللفظ والمعنى معاً، فيكون الكلام المختوم بها مستقلاً بمعناه ولفظه، منفصلاً عمّا قبله وعمّا بعده، وإمّا فصلاً غير تامّ أي في اللفظ فقط، فيكون الكلام المختوم بها مستقلاً في اللفظ فقط، وإنْ كان من جهة المعنى مرتبطاً بما قبله أو بما بعده. وقد سمّى كلّ كلام ينتهي بفاصلة آية! فجاءت آيات القرآن كلها مفصّلة على هذا النمط- كما وصفها هو في القرآن إذ قال:
(كتاب فصّلتْ آياته قرآنا عربياً لقوم يعملون)- سورة فصّلت، الآية 3

ثمّ قسّم آيات القرآن إلى أقسام مختلفة في الطول والقِصَر، وسمّى كلّ قسم سورة! ولم يُراعِ- في تقسيم هذه الآيات إلى سُوَر- شيئاً من موضوعها ولا من زمان نزولها أو مكانه، بل قد تكون السورة الواحدة مشتمِلة على آيات مختلفة من الأمور التي يتكلم عنها القرآن. وقد تكون في السورة الواحدة آيات متقدمة في الذكر وهي متأخرة في النزول وبالعكس! وقد تكون في السورة الواحدة آيات نزلت في مكة وأخرى نزلت في المدينة. وهكذا جاء ترتيب الآيات والسّوَر على هذا النحو [بدء الصفحة 553 من الكتاب] بتوقيف من النبي، أو الذين جمعوا القرآن بعد وفاته هم رتبوه على هذا الترتيب بلا توقيف منه. والظاهر أنّ المقصود من تقسيم الآيات إلى سور متعددة هو تسهيل قراءتها وحفظها على القرّاء والحُفّاظ ليس إلّا.

[والسؤال المطروح هنا: هل استكمل محمد خلال ثلاث وعشرين سنة تلاوة كُلّ الكلام المكتوب في اللوح المحفوظ- المزعوم في السماء- أم بقي منه شيء؟ ومن جهة أخرى- بعد ثبوت حرق عثمان سائر المصاحف مزكّياً مصحفه، وبعد ضياع قرآن كثير؛ بما فيه من سائر الحروف باستثناء حرف قريش، وبما فيه من آيات القرآن، كالذي كان في سورة الأحزاب- مثالاً- والتي كانت تعدل سورة البقرة، وبما فيه من الآيات التي ذهبتْ تلاوتها وبقيَ حكمها وبالعكس، ألمْ يكنْ ربّ محمد قادراً على حفظ كلامه من الحرق والإسقاط والضياع؟ لقد تناول الرصافي هذا الموضوع في أماكن أخرى من كتابه ممّا ليس في إطار بَحْثي الحالي]

قال الجاحظ: سمّى الله كتابه مخالفاً لما سمّى العرب كلامهم على الجُمَل والتفصيل، سمّى جملته قرءاناً كما سمّوا ديواناً، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كبَيْت [في الشعْر العمودي] وآخرها فاصلة كقافية (الإتقان في علوم القرءان 50:1) فالفواصل هي أهمّ ما يدعو إلى الإنتباه في القرءان- أي كون آياته مفصّلة- وهي قوام أسلوبه. كتب الرصافي [في الصفحة 555] أمثلة لفواصل القرآن التي هي نوعان- كما أسلفت- فإمّا كلمة واحدة تنتهي بها الآية- ويكون الكلام في الآية مبنيّاً عليها وتكون هي ممتزجة به- وإمّا جملة تجيء في آخر الآية فتفصلها عمّا بعدها فصلاً تامّاً في اللفظ والمعنى، أو فصلاً في اللفظ فقط وتبقى الآية مرتبطة في المعنى بما بعدها.

النوع الأوّل
تكثر أمثلة النوع الأوّل في السوَر القِصار، منها الكوثر 1-3:
إنا أعطيناك الكوثر* فصل لربّك وانحر* إنّ شانئك هو الأبتر*
ومنها الليل 1-4: والليل إذا يغشى* والنهار إذا تجلى* وما خلق الذكر والأنثى* إن سعيكم لشتى*
ومنها المدّثّر 1-5: ياأيها المدثر* قم فأنذر* وربك فكبّر* وثيابك فطهّر* والرجز فاهجر*
وقد جاء نحوها في بعض الطوال أيضاً كالكهف ومريم. ولا ريب في أنّ هذا ضرْبٌ من السّجع، إلّا أنّهم لم يسمّوه سجعاً تأدّباً مع القرآن الذي هو كلام الله والسجع عندهم من شأن الكهّان.

[أتمنّى- على القارئ الكريم والقارئة الكريمة- العودة إلى مقالتي التي علّقتُ من خلالها على سورة الكوثر- بما اٌستوحيت من كتب التراث، كما كتبت مطوّلة على شاكلتها مقتبساً من السيرة المحمّديّة:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=166580

علماً أني لم أكن الأوّل في هذا الإتجاه، لكنّ السؤال المطروح هنا: لماذا سُمّي كلام محمّد قرآناً وكلام الكهّان سجعاً وكلاهما كلام- أحدهما أصبح مقدّساً بينما أمسى الآخر غير مقدّس؟ سأضرب هنا مثالاً على سجع الكهّان:
من خُطب قسّ بن ساعدة الإيادي:
تبّاً لأرباب الغفلة* ليصلحنّ العامل عمله* وليفقدنّ الآمل أمله* كلّا بل هو إله واحد* ليس بمولود ولا والد* أعاد وأبدى* وأمات وأحيا* وخلق الذكر والأنثى* ربّ الآخرة والأولى*

وهنا مثالان مما وصل من قرآن مسلمة بن حبيب- مسلمة الذي أطلق عليه المسلمون لقب الكذاب ومسيلمة تصغيراً، مثلما أطلقتْ قريشُ على محمّد لقب المذمّم**
من قرآن مسلمة: إنَّا أعطيناك الكواثر* فصَلِّ لربّك وهاجر* إن مبغضك رجلٌ فاجر*
وورد أيضاً:
إنَّا أعطيناك الكواثر* فصَلِّ لربّك وبادر* في الليالي الغوادر* واحذر أن تحرص أو تكاثر*
فلنقارنْ مع سورة الكوثر- المكتوبة أعلى- ما بين قرآن مسلمة وبين قرآن محمد

المثال الثاني من قرآن مسلمة:
والشمس وضحاها* في ضوئها وجلاها* والليل إذا عداها* يطلبها ليغشاها* فأدركها حتى أتاها* وأطفأ نورها ومحاها*
فلنقارن مع سورة الشمس ما بين القرآنين:
سورة الشمس 1-6:
والشمس وضحاها* والقمر إذا تلاها* والنهار إذا جلاها* والليل إذا يغشاها* والسماء وما بناها* والأرض وما طحاها*

قلت من وجهة نظري الشخصي: فلو انتصر جيش مسلمة في معركة اليمامة على جيش المسلمين نهائيّاً لحلّ على قرآن محمد القول الحالّ اليوم على قرآن مسلمة- والذي لم يصلنا منه سوى القليل. ولعلّي أوفّق في تأليف ضرب من السجع:
والمركب الطافي* على البحر الصّافي* يحمل الكلام الكافي* والشرح الوافي* لكتاب خرافي* بقلم معروف الرصافي*

فلو أردتُ الآن تأليف سورة على شاكلة قرآن مسلمة بن حبيب- مثالاً- لقلت:
فاء قاف* والمدن والأرياف* إنّ الناسَ لفي خلاف* لو علموا بربّك كامل الأوصاف* لاٌتفقوا في آخر المطاف* على كلمته الفضلى باٌئتلاف* أرسلناها إليهم زمن القحط والجفاف* فبشّر بالخير والإنصاف* واٌنصحْ بالطهر والعفاف* إنّا قوّمنا حقوق الإنسان بلا اٌنحراف]

النوع الثاني
أمّا النوع الثاني من الفواصل فكما جاء في الأعمّ الأغلب من آيات السّوَر الطوال، ففي سورة النحل 1-2:
أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون* ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فَاتَّقُونِ. فالجملة تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [التي قمت بتشكيلها] فاصلة، وكذلك فاتَّقُونِ.

وفي سورة طه 130-132:
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لَعَلَّكَ تَرْضَى* ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى* وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى* فالجمل الثلاث [التي قمت بتشكيلها] فواصل!

فواصل من النوعين
وأكثر السّوَر لا تكون فواصلها كلها من نوع واحد بل تكون من النوعين كما ترى في سورة الفرقان 5-6:
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا* قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا* فالفاصلة الأولى من النوع الأول والثانية [التي قمت بتشكيلها] من النوع الثاني.

وفي سورة الشعراء 23-24:
قال فرعون وما رب العالمين* قال رب السماوات والأرض وما بينهما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* فهذه [التي قمت بتشكيلها] من النوع الثاني والتي قبلها من النوع الأوّل.

وقبل الإستمرار في قراءة الصفحة 556 من كتاب الرصافي أجدني تاركاً للحديث بقيّة
…………..

* يمكن التعرّف على سيرة معروف الرصافي عبر ويكيبيديا بسهولة، لكنّ جدّي- لأمّي- الذي في شبابه عاصر الرصافي في بغداد وكان يؤمّ بعض مجالسه، حدّثني كثيراً عن الرصافي واصفاً إيّاه بصفات العبقريّة وسرعة الحفظ وقوّة الذاكرة- رحمة الله عليهما

** نقرأ في تفسير القرطبي للآية الأولى من سورة المسد: وكانت قريش إنما تسمّي رسول الله مُذمَّمًا؛ يسبّونه، وكان يقول: (ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش، يسبّون ويهجون مذمَّماً وأنا محمّد) علماً أنّ امرأة أبي لهب قالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضرَبْتُ بهذا الفِهْر فاه [والفِهْرُ في الطّبّ: حجر رقيق تسحق به الأدوية- المنجد في اللغة والأعلام] والله إني لشاعرة: (مُذمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرهُ أَبَيْنَا وَدِينهُ قَلَيْنَا) ثم انصرفتْ. فقال أبو بكر: (يا رسول الله، أما تراها رأتك؟) قال: (ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني)

المصدر الحوار المتمدن بموافقة الكاتب رياض الحبيب

About رياض الحبَيب

رياض الحبيّب من مواليد العراق قبل الميلاد تخصص علمي حقوق الإنسان، المرأة، الطبقة العاملة اللغة العربيّة، أدب عالمي، ثيولوجيا أدب، موسيقى، شطرنج نقد الأفكار لا الأسماء، ضدّ الظلم والفقر أوّل مُعارض للمعلّقات العشر المزيد من السِّيرة في محور الأدب والفن- الحوار المتمدن
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.