بوتين والاعلام العربي.. بين التشويه والواقع

putinmedia1عبدالله حبه – موسكو

لا ريب في أن الإعلام العربي كان وما زال تابعا للاعلام الغربي في تغطية الاحداث الاقليمية والمحلية . فالصحفي العربي غالبا ما يكرر ما تكتبه وسائل الاعلام الغربية عن الاحداث على الصعيدين الاقليمي والعالمي. وفيما يخص روسيا فان غياب الاعلام الروسي النشيط في الساحة العربية، أدى الى اعطاء صورة مشوهة عن سياسة روسيا الخارجية والداخلية ومواقفها ومنها الحرب الشيشانية والأزمة الاوكرانية. ومن جانب آخر أن ميل الصحفي العربي إلى تأليه القادة في بلاده يجعله يعطي التفسير ذاته لسلوك زعماء الدول الاخرى. وهذا ينطبق لحد كبير على ما تكتبه الصحافة ووسائل الاعلام العربية عن الرئيس الروسي الدكتور في القانون فلاديمير بوتين. لقد وصف عصام عبدالفتاح بوتين في الكتاب الذي اصدرته دار النشر ” كنوز ” في القاهرة بـ” القيصر”، بينما وصفه عادل الجوجرى في كتاب اصدرته “دار الكتاب العربي” بأنه ” جاسوس على عرش الكرملين “. وحتى عزيز الحاج فقد وصفه في الصحيفة الالكترونية “ايلاف” بأنه ” دكتاتور وهتلر رقم 2″، وهلمجرا.علما ان هؤلاء الصحفيين لا يكتبون مثلا عن بوش الاب كرئيس للمخابرات الامريكية سابقا وكيسنجر كأحد رجال المخابرات وغيرهما من رجال السياسة الغربيين، لكنهم يواصلون اصرارهم على اعتبار بوتين ” جاسوسا” خطيرا لأن هذا ما يرد في وسائل الاعلام الغربية عن مطامع روسيا ” الامبراطورية “. وغالبا ما لا يعرف هؤلاء الكتّاب شيئا عن واقع الحال في روسيا ، بل ربما لم يزرها أي أحد منهم ولو مرة واحدة. انهم لا يعرفون مثلا ان روسيا تتحول منذ زوال الاتحاد السوفيتي شيئا فشيئا الى دولة مؤسسات، ولا يستطيع رئيس الدولة اتخاذ أي قرار من دون الرجوع الى البرلمان ومؤسسات المجتمع المدني. ولهذا لا يمكن ان يصبح رئيس الدولة “دكتاتورا” و”قيصرا”. انهم يكررون ما تكتبه الصحافة الغربية التي تخدم مطامع الولايات المتحدة والناتو في التوسع شرقا وابعاد روسيا عن الساحة الدولية وتهميشها، بل وحتى بلقنتها كما فعلت في يوغسلافيا، وتحويلها الى دويلات صغيرة يمكن استثمار ثرواتها الطبيعية بسهولة. فحسب قول مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية سابقا ” ليس من العدالة ان تمتلك روسيا سيبيريا بثرواتها الهائلة “. ولهذا أصبح بوتين بمثابة ” شوكة في بلعوم” الغرب لرفضه تحويل روسيا الدولة النووية الكبرى الى دولة تابعة كما هو حال الكثير من الدول في غرب اوروبا اليوم.
ويظهر بين حين وآخر صحفيون عرب يريدون قول الحقيقة عن الدول الاخرى دون اعتبار لما ينشر في الغرب، واعتمادا على التجربة الشخصية فقط والاطلاع على مواد الارشيف الرسمية. فقد صدر عن دار نهضة مصر في القاهرة مؤخرا كتاب ” بوتين صراع الثروة والسلطة ” لمؤلفه الصحفي والكاتب المصري المعروف د.سامي عمارة، الذي امضى حوالي اربعين عاما في موسكو وعمل مراسلا لمجلة ” المصور” وصحيفتي ” الاهرام و”الشرق الاوسط”، وعاش مختلف الاحداث في البلاد خلال هذه الفترة الطويلة. وكان قد نشر قبل هذا في عام 2000 كتابه ” قريبا من الكرملين” الذي أصدرته دار الهلال، وتناول فيه فترة انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار مؤسسات الدولة واستسلام القيادة الليبرالية لأوامر واشنطن والناتو. ويتحدث المؤلف في كتابه الجديد عن عهد بوتين منذ تسلمه قيادة البلاد في عام 2000.
ان أهم ما يميز الكتاب الجديد هو الموضوعية عند تناول سيرة حياة بوتين ودوره في رسم سياسة البلاد وصفاته كزعيم “كارزمي” افلح في كسب تأييد غالبية الشعب وتحقيق الاستقرار السياسي، وفشل المعارضة اللبرالية المزودة بالدعم المالي الخارجي في جذب الناس الى الوقوف ضد بوتين. ونجد ان الناس تتفهم قراراته في التصدي الى هجوم جورجيا على اوسيتيا الجنوبية واندلاع الازمة الاوكرانية التي افتعلها الغرب في الانقلاب على السلطة، هذا الانقلاب الذي تم تدبيره على غرار ما فعل في ” الثورات الملونة ” و” الربيع العربي” بدعم وتمويل بعض دول الغرب. ولقد اعترفت الناطقة باسم وزارة الخارجية الامريكية مرة بان وزارتها خصصت مبلغ 25 مليون دولار لدعم ” الديمقراطية ” في اوكرانيا قبل الاحداث الدامية في ” ميدان ” كييف.
ويتحدث المؤلف عن المعارك العنيفة التي خاضها بوتين على مختلف الجبهات. ولعل ابرزها المعركة ضد الحركة الانفصالية في جمهورية الشيشان التي تلقت الدعم المتعدد الأوجه من قوى خارجية. فقد قدمت غالبية القادة الميدانيين من خارج البلاد، وأنفقت الاموال على المقاتلين من مصادر خارجية. وقد بادر بوتين، عند هجوم الميليشيات الشيشانية بقيادة خطاب وشامل باسايف على داغستان في عام 1999 بهدف ضمها الى جمهورية الشيشان واقامة “دولة الخلافة الاسلامية “، إلى استخدام الجيش بكافة طاقاته في القضاء على المهاجمين بمشاركة المقاومة الشعبية الداغستانية.
وخاض بوتين معركة حامية الوطيس مع الطغمة الاوليجاركية اليهودية التي تسعى إلى السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وقد قال احد افراد الطغمة انهم نجحوا في ” استئجار النظام الذي يخدم ويحمي مصالحهم”. وفي هذا السياق يتحدث المؤلف عن دور هذه الطغمة اليهودية كطائفة سياسية وليست دينية ونفوذ الذي تتمتع به في الكرملين وكافة دوائر السلطة والاعلام، وكذلك وضع ايديهم على اهم المؤسسات الصناعية وحقول النفط في روسيا.
وخاض بوتين معركة عنيفة ضد دسائس حاشية يلتسين الرئيس الروسي الاسبق ، وبينهم ابنته تاتيانا التي كانت ترغب في الابقاء على نفوذها في الدولة. علما ان هذه الحاشية اعتقدت بان بوتين “شخصية انتقالية” وسهلة الانقياد بعد اقالة يفجيني بريماكوف الذي اراد وضع مصالح البلاد فوق مصالح الطغمة والحاشية. وقد استخدمت في ذلك شتى السبل ومنها وسائل الاعلام التي كان يمتلكها اليهود ومنهم فلاديمير جوسينسكي صاحب اكبر امبراطورية اعلامية ( حاليا صاحب جريدة هآرتس الاسرائيلية ومحطات تلفزيون وصحف اخرى حاليا) .
ويورد الكاتب وثيقتين هامتين تحددان الملامح الرئيسية لمسيرة وسياسة بوتين، وهما خطابه في مؤتمر الأمن الاوروبي في ميونيخ في عام 2007 والذي اورد فيه موقف روسيا من التحديات في عالم القطب الواحد، ورفض روسيا للتبيعة الى هذا القطب، ووثيقة الاطر الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية الصادرة في عام 2013 .
ويقول المؤلف :” أن هذا الكتاب كشأن سابقيه يظل حلقة في سلسلة اجتهاداتنا لتقديم رؤية عربية خالصة لا تستند ” الى النقل عن المصادر الغربية الهوى “، لما ماجت وتموج به روسيا والفضاء السوفيتي السابق من تغيرات وتفاعلات تثبت ان روسيا صارت اقرب من أي وقت مضى الى النجاح في تأكيد ما استعادته مع الرئيس فلاديمير بوتين من مكانة ووقار على الساحتين الاقليمية والدولية “.
لقد جرى تقديم كتاب ” بوتين صراع الثروة والسلطة ” في امسية اقيمت مؤخرا على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والاربعين باعتباره أن د. سامي عماره يعد “كبير المراسلين العرب في موسكو” . انه فعلا يستحق هذا اللقب، فلا يوجد اي صحفي عربي آخر عاش مثله الاحداث في الاتحاد السوفيتي وروسيا خلال عدة عقود من السنين، وكان قريبا من الكرملين ودوائر السلطة الاخرى وعليما بما يجري هناك من احداث يوما بعد يوم.
8/2/2015

About عبدالله حبه

ولد عبدالله محمد حسن حبه في بغداد وفي محلة صبابيغ الآل عام 1936. انهى الدراسة الابتدائية في المدرسة الجعفرية والمتوسطة في مدرسة الرصافة المتوسطة في السنك والثانوية في الاعدادية المركزية. وانهى الدراسة الجامعية في كلية الآداب فرع اللغة الانجليزية. أنهى معهد الفنون الجميلة فرع التمثيل. وحصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في الاتحاد السوفييتي ونال الشهادة من معهد غيتيس للتمثيل في منتصف الستينيات. في بداية مشواره الفني مارس الرسم لعدة سنوات، إلى جانب كتابته للقصة. وأصدر مع صديقه القاص منير عبد الأمير مجموعة قصصية تحت عنوان "الحصان الأخضر" في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. عمل في الصحافة الفنية وتحديداً في مجلة السينما التي كان يصدرها الفنان كاميران حسني في الخمسينيات من القرن الماضي. ثم انتقل للعمل في المجال المسرحي، وفي البداية مع الفنان جعفر السعدي ثم الفنان جاسم العبودي ثم انتسب الى فرقة المسرح الحديث قبل سفره الى الاتحاد السوفييتي عام 1960. شارك في التمثيل في الجامعة وفي اخراج عدد من المسرحيات في كليان بغداد، كما شارك في التمثيل في عدد من المسرحيات وفي تصميم الديكورات والمكياج للفرق التي عمل معها في تلك الفترة. ومنذ منتصف الستينيات توجه للترجمة من اللغة الروسية في موسكو،وترجم للعديد من فطاحل الأدب الروسي الكلاسيكيين والمعاصرين. عمل في وكالة تاس في موسكو وفي عدد من الصحف الصادرة ياللغة العربية في موسكو وفي عدد من البلدان العربية، ثم عمل لفترة في تلفزيو روسيا باللغة العربية، وعاد الآن للعمل في وكالة تاس.
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.