الوطن ليس أرض وذكريات… بل إنّه الإنسان!! 1

عدت لتوي من قطر. كانت محطّتي الثانية بعد زيارتي لسوريّا وطني الأم. رافقتني في تلك الزيارة زميلتي الدكتورة لاسلي وهي باحثة أمريكيّة مختصة في علم النفس وترأس قسمه في إحدى جامعات كاليفورنيا. انطوت تلك الزيارة على مهمّة علميّة زرنا خلالها المشافي الجامعيّة في ثلاث مدن سوريّة شملت دمشق، حلب واللاذقيّة.

يقوم القسم المختص في علم النفس في تلك الجامعة ومنذ حوالي ثمانية سنوات ببحث علمي غايته معرفة تأثير العادات والتقاليد وثقافة الشعب على طبيعة العلاقة بين الطبيب والمريض داخل هذا الشعب، بغية العمل على تحسين تلك العلاقة التي تنعكس بدورها على الوضع النفسي للمريض وبالتالي على مدى استجابته للعلاج وسرعة تحسنه وشفائه.

زيارة سوريّا كانت اقتراحي، ورغم أنني لست نادمة، أستطيع أن أقول لم يكن هذا الإقتراح موفقا للغاية!

يشدّك الحبل السريّ الذي يربطك بامّك بين الحين والآخر إلى رحم تلك الأم. لكنّك تصاب بخيبة أمل فظيعة عندما تفاجئك أمّك بقساوة قلب لم تكن تتوقعها في أيّ حين من الأحيان!

تصحّر كلّ شيء، ولم تعد هناك حبّة مطر واحدة تستطيع أن تروي تعطّشي لأن أعود!

في الطائرة إلى دمشق سألتني لاسلي، وهي سيّدة لبقة تتسم بعبقريّة هادئة، إن كنت أنوي العودة إلى وطني في يوم من الأيام.

ـ أنا متعطّشة للعودة يا لاسلي، وفي جعبتي للوطن يرقد مشروع عمل يكاد التفكير به يقضّ مضجعي! أفكر بانشاء مشروع مدرسة حضانة نموذجيّة، يتّم فيها انشاء الأطفال بطريقة تربويّة علميّة صحيحة، تختلف عن الطريقة التي نشأت عليها الأجيال الماضية والتي تسببت في تشويه تلك الأجيال. أحلم بأن يتمّ تصوير المدرسة يوميّا من داخل الصفوف، ثم انشاء برنامج تلفزيوني لعرض أشرطة التصوير على الناس مع التعليق على مايجري خلال الدوام وشرح كلّ اجراء يتخذ داخل الصّف.

على هامش المشروع، أفكر بانشاء جمعيّة خيريّة تخص الطفل وتسعى لتوفير مايحتاجه عندما يفشل الأهل في تحقيق ذلك. يبدو الأمر غاية في الصعوبة، لكنني متفائلة بالمستقبل.

وتردّ لاسلي والدهشة تحلّق في سماء عينيها الزرقاوتين:

وفاء! هل تقبليني شريكا في مشروع الجمعيّة الخيريّة وسأسعى لجمع التبرعات من الآن.

وأبتسمُ: من يرفض اقتراحا كهذا؟!

تمدّ لاسلي يدها مصافحة: عاهديني أن تفعلي ذلك!

فأمدّ يدي معاهدة!

*******

قبل السفر بحوالي خمسة أشهر، أي مباشرة بعد أن وافقت رئاسة الجامعة على مشروع البحث في سوريا، اتصلت بالسفارة السوريّة في واشنطن كي أستفسر عن الإجراءات اللازمة، وبعد جهد جهيد وطول انتظار على الخطّ وصلوني بالسيّد أحمد الورد سكرتير الملحق الثقافي. عرّفت بنفسي وشرحت له باسهاب طبيعة المهمّة وسألته عن امكانيّة تقديم السفارة لأيّة مساعدة بهذا الخصوص. كان يتركني على الخطّ ويغيب لدقائق ثم يعود بسؤال آخر. باختصار، حاول أن يلعب دور الوسيط بيني وبين السيّد الملحق الثقافي وكأنّ سيادته أكبر من أن يتكلّم مع مواطن سوريّ عادي.

في النهاية اقترح عليّ أن أرسل كتاب رسمي من الجامعة إلى السفارة أشرح فيه طبيعة المهمّة وأسماء المكلّفين بها وعنواينهم وأرقام هواتفهم كي يصار إلى الإتصال بهم عند الحاجة وبعد استلام الكتاب.

أرسلنا الكتاب وانتظرنا حوالي الشهر دون أي جواب، اتصلت مكرهة بالسفارة وطلبت التكلّم مباشرة مع الملحق الثقافي السيّد سمير بشور، وبعد محاولات عديدة كنت أبلّغ خلالها بأن صاحب الجلالة السيّد بشور مسافر أو مشغول وسيتصل بي متى سنحت له الفرصة دون جدوى، بعد محاولات عديدة من هذا النوع تكلّمت معه!

كانت مفاجأتي كبيرة عندما نفى استلامه لأيّ كتاب من هذا النوع، وعندما حاولت أن أعرف من المسؤول عن بريد السفارة تهرّب من الجواب بقلّة أدب فظيعة مصرا على أنه ليس مسؤولا عن أي بريد لايحمل اسمه شخصيّا!

بعد أن كدت ألفظ أنفاسي الأخيرة اقترح عليّ أن أعيد ارسال الكتاب على أن أكتب على الظرف الخارجي: يصل للسيّد سمير بشور وكأنّ السفارة ملك أبيه!

أرسلنا الكتاب وطال الإنتظار شهرا آخر دون جدوى، كبست الجرح ملحا واتصلت بالسفارة. استغرقني زمنا أطول هذه المرّة كي يتسنى لي أن أتكلّم مع جلالته. تكلّم معي على مضض وكان اقتراحه الجديد أكثر غرابة ووقاحة: “أنا أرى ياسيّدتي أن ترسلي الكتاب نفسه ولكن باللغة العربيّة ريثما يتمّ ارفاقه بكتابنا إلى وزارة التعليم العالي”.

ورددت بحدة: استاذ سمير هل تريد من الجامعة أن توجّه لكم كتابا باللغة العربيّة؟! أليس في سفارتنا من يجيد القراءة باللغة الإنكليزيّة؟! ولماذا لم تحترموا وعدكم لنا وتتصلوا بنا قبل مرور الوقت؟! لم يعد لدينا وقت كاف كي نفعل ذلك!

ويردّ ببرودة أعصاب لاتنحمل أيّة مسؤوليّة وكأنه مجرّد من كلّ احساس انساني: اتصلي بأحد أقربائك أو أصدقائك في سوريّا واطلبي منه أن يلاحق الموضوع من هناك!!

وماذا تفعلون أيّها القوادون في سفاراتنا؟! تمثلوننا سياسيا وثقافيّا؟! لعنة الله عليكم !!

من دماء أهلنا وعلى حساب لقمة أطفالنا تتقاضون رواتبكم، وحمار ينهق على باب سفارتنا قد يفيدنا أكثر منكم!

*******

وضعت المسؤولين عن البحث في الجامعة أمام الوضع واقترحت أن نسافر رغم سوداويته على أن أحاول جهدي هناك لإنجاح مهمّتنا.

سافرت وزميلتي الدكتورة لاسلي دون أن أحمل في حقائبي بارقة أمل.

يخجلني ويؤلمني أن أقول سعيت كي أبحث عن شخص ما له صولة وجولة في العاصمة، كي يساعدني على أن لاأعود بخفيّ حنين!

تذّكرت طبيبا كنت واياه زميليْ دراسة وتخرّجنا معا من نفس الكليّة في جامعة حلب وكنت قد علمت من أحد زملائنا أنه يشغل منصبا علميّا محترما في إحدى جامعات القطر، اتصلت به آملة أن يتذكّرني بعد مايزيد عن ربع قرن.

كان مهذّبا للغاية، اتصل على الفور بمسؤول كبير في وزارة التعليم العالي وحصل لنا على موافقة رسميّة لزيارة مشافي الجامعة.

هذا كلّ ماتكرّمت به علينا الوزارة!

وفد علمي يمثّل جامعة أمريكيّة يختار سوريّا البلد الذي ولد قبل التاريخ ليكون ميدان بحث علمي قد يعود بفوائده للعالم أجمع ويفعل المستحيل ليفوز بالنهاية من الوزارة المسؤولة بالموافقة فقط دون أيّ شكل آخر من أشكال المساعدة، لاطريقة مواصلات.. لادليل.. لابرنامج عمل ودون أيّ سؤال أو استفسار من الوزارة عن طبيعة البحث ومدى امكانية الإستفادة منه في جامعات القطر!

أين تتبخّر ميزانيّة وزارة التعليم العالي المرصودة للتبادل العلمي والثقافي بين سوريّا والدول الأخرى؟!

على أحذية وأقراط السيّدة حرم الوزير؟! أم على سهرات سيادته الحمراء!!

وبدأت المهمّة وسؤال مهمّ يعذّبني ويقضّ مضجعي: لماذا أحتاج إلى كرت بلانش من شخص مهّم للغاية كي يتسنى لي أن أقابل الوزير، ومن هو هذا الوزير كي يحقّ له أن يقابل من يريد ويحجب نفسه عن من يريد؟!

(للحديث صلة)

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.