الوطن الحقيقي لقمة نظيفة وسقف آمن وكرامة مصانة،

ضغط نيسان على رقبتي حتى أحسست أنه على وشك أن يخنقني… لم أكن وحدي في صراعي مع الاسبوعين الأوليين منه، بل كان معي كل أمريكي آخر… فالخامس عشر من هذا الشهر هو آخر يوم لدفع ضرائب الدخل المستحقة للعام الماضي… فِي أمريكا من المتعارف عليه أن اثنين لا تستطيع أن تتحداهما، عزرائيل ومصلحة الضرائب! قبل أن يبدأ هذا الشهر أكون قد انتهيت من تقديم كل الوثائق الممكنة والتي تظهر الدخل والمصروفات المتعلقة بجني هذا الدخل إلى محاسبي، ثم أنتظر منه مكالمة يخبطني خلالها برقم حسابي يحدد الضريبة المستحقة، وريثما أعرف هذا الرقم أشرف مرات على الإختناق، إنها الطبيعة البشرية التي تهلل للأخذ وتئن تحت وطأة العطاء…..
……..
لكنني، والحق يقال، تغيرت جذريا في السنوات الأخيرة، بعد أن تعلمت أن أنظر إلى الجانب المضيء لكل قصة مهما بدت سوداوية، لقناعتي المطلقة أن لكل غيمة داكنة بطانة فضية،
Each dark cloud has silver lining
كما يقال بالانكيزي, من خلال تلك الفلسفة اقتنعت بأن نقمة الضرائب تخفي في بطانتها نعمة الدخل. ليس هذا وحسب، وإنما الضريبة التي تدفعها تعود عليك بآلاف الخدمات, فكل مرفق عام في أمريكا يبرهن لك أن قرشك لا يضيع هباءا، ولا ينتهي في عليقة غول كتلك الغيلان التي ابتلت بهم أوطاننا… تمتد تلك الخدمات من أبسطها كنعمة الماء الساخن والمحارم الناعمة في أية دورة مياه للعامة، حتى ولو كانت في بقعة نائية جدا في الصحراء الممتدة بين كاليفورنيا ونيفادا، !إلى أعلاها كأن تتعرض لحادث ما، لنقل في تلك الصحراء أيضا، فتهبط هيليكوبتر – خلال دقائق- لتنقلك إلى أقرب مشفى…
……..
تعرف مصلحة الضرائب هنا مدى كره الناس لها، وتحاول ان تخفف من حدة هذا الكره عن طريق روح النكتة, فعلى باب أحد مكاتبها علقت لوحة تقول: “اطرق الباب، للأسف نحن موجودون”، وعلى حائط في نفس المكتب عُلقت لوحة اخرى تقول: “تشير الإحصائيات أن الأمريكي ـ وبمعدل أربع مرات في السنة ـ يعثر على قطعة نقدية معدنية من قيمة ربع دولار، !فلا تنس أن تدفع ضريبة هذا الدخل” بينما تقول لوحة اخرى: “أفضل طريقة لتخفف من حدة كرهك لنا هي أن تنسى أن أموالك لك”
……..


في الشهر الثامن من العام الماضي اتصل بي ابني، ليناقش معي موضوع بزنيس أراد أن يشتريه. حاول بكل جهده أن يقنعني بأن هذا البزنيس سيكون ناجحا للغاية، وخصوصا أن ابني مختص في علم الرياضيات، فلو أراد أن يثبت لك وجود الله لفعل ذلك مستخدما لغة الأرقام. القصة وما فيها يريدني أن أتقدم إلى البنك بطلب قرض تجاري باسمي، لأنه لا يستطيع أن يطلب هذا الرقم الخيالي باسمه لحداثة تاريخه مع البنوك….
……
لكي يمنحك البنك قرضا يأخذ بعين الاعتبار ثلاثة أمور
ـ علامة الائتمان credit score
وهي تعكس مدى التزامك الأخلاقي بدفع ديونك في الوقت المحدد  ـ مقدار دخلك، لكي يتأكد من قدرتك على الدفع. ـ مقدار ديونك أيضا ليتأكد من قدرتك على الالتزام بدفع كل تلك الديون. حاولت أن أقنع ابني بان الأمر مستحيل لسبب واحد، أن هناك أكثر من ثلاثة قروض باسمي، لكنه ألح على أن أتقدم بالطلب ونرى بعدها ما سيحدث. خلال أقل من شهرين حصلت على المبلغ وكان750,000$ نعم حصلت عليه!
……
لم أحصل عليه لأنني فلانة بنت فلان، ولا لأن المسؤول الفلاني ابن عمي وقد اتصل بالبنك ووصى بي، ولا لأن الصهيونية العالمية “معنية” بأمري، بل لأنني مواطنة أمريكية وتتوفر لدي الشروط اللازمة. بالقانون وأخلاقيا هم ملزمون بمنحي القرض… صحيح أن الدفعة الشهرية 6400$، ولكن دخل البزنس أعلى من ذلك بمقدار يسمح لابني أن يعيش حياة مرتاحة إذا عرف كيف يديره!
هذه هي الإمبريالية الأمريكية التي حقن حزب البعث الحاكم في سوريا كرهها في حليب أمهاتنا، وسقانا إياها سما زعافا على مدى ستين عاما، كانت خلالها أموال سوريا تهرب بأسماء زبانية ذلك الحزب إلى البنوك الإمبريالية… نعم، نهبوا البلد وخربوه، واليوم لم يبق سوى فقرائه ليدافعوا عمّا تبقى من أشلائه!
…..
أتذكر الآن حدثا يوم كنت وزوجي شابين مقبلين على الحياة بروح اندفاعية يحدونا أمل كبير من أن المستقبل مشرق اشترينا شقة صغيرة، ودفعنا ثلثي ثمنها نقدا من بيت كان زوجي قد باعه بعد أن ورثه عن أهله، بينما تقدمنا بطلب قرض عقاري لدفع الثلث المتبقي, تسلمنا المفتاح ووعدنا تاجر البناء، وكان واحدا من هؤلاء الغيلان وشريكا لضابط كبير، وعدناه بان المبلغ المتبقي سندفعه في التاريخ الفلاني الذي حدده البنك! ثلاثة شهور مرت على الموعد ولَم نستلم القرض والتاجر يرغي ويزبد ويهدد! عدنا يوما الى الشقة بعد ان أشرفنا على الانتهاء من كسوتها لنكتشف بأن التاجر خلع القفل ووضع قفلا آخر, مازلت أذكر كيف وقعت على الأرض في نوبة بكاء وزوجي يحاول أن يهدأ من روعي!
……
لن أكمل القصة كي لا يخرج عليّ بعض المأجورين من سفهاء الكلمة ليدافعوا عن غيلانهم بحجة الدفاع عن الوطن، ولكي يخفوا من إخفاقهم المريع تحت ذريعة شتم الإمبريالية الأمريكية، والتي “لولاها” لما كلّف عرس ابنة نائب الرئيس السوري ملايين الدولارات في باريس، ناهيك عما سرقته عائلة الرئيس من خبز شعبه، وتجاهلا لما قاله أحد الحكماء: عندما يكون الرأس عصيا على الفساد من يجرأ عليه؟!! وتجاهلا أيضا لما قالته وفاء سلطان: وعندما ينخر الفساد نخاع الرأس، من يستطيع أن يكون صالحا؟؟!! ما زال هؤلاء السفهاء مصريّن على أن تلك الحرب مؤمراة عالمية، وليست قصاصا كونيا وحتميا لصراع طاقات وصلت إلى حد التخمة، واستفحلت في سلبيتها!
……
التقيت مؤخرا مع سيدة سورية شابة هاجرت لتوها إلى أمريكا، قالت لي في سياق الحديث وهي تمسح دموعها: (أحب سوريا وأحب تحديدا مدينتي الحسكة، ولَم أكن أرغب يوما في الهجرة، ولكن – وبغض النظر عن ظروف الحرب – بلغ الظلم حدا لم يعد محمولا) وتابعت تقول: (تخرجت من الجامعة ولَم أَجِد عملا فضاقت بي الدنيا، شفق والدي علي وأعطاني بيتا صغيرا يصلح لأن يكون حضانة أطفال، خصوصا كنت ولَم ازل أحلم بأن أكون معلمة أطفال, حاولت وزوجي المستحيل لنحصل على رخصة، فلم نستطع, اقترح علينا شخص أن نتودد الى المسؤول الفلاني، ثم عاد بعد أن تواصل معه ليطلب مبلغا كرشوة، كان المبلغ يفوق كل تصوراتنا، والاسوأ كان يفوق كل قدراتنا. لذلك، تركنا لهم الوطن ويممنا وجوهنا شطر الإمبريالية العالمية)
…..
نعم تركنا لهم الوطن، ولكن الوطن لم يتركنا… ظل متشبثا برقابنا، يضج في عروقنا ويغفو في شغافنا، وكل خنجر يطعنوه به يمزق أحشائنا! يا أولاد الأفاعي: اسرقوا وانبهوا ما شئتم، ولكن أين الخلل في أن تمنحوا التراخيص وتسمحوا للناس أن تجني لقمة عيشها
ياأولاد الأفاعي: الفقر والظلم يسلب الناس أخلاقهم، وأمريكا لا تستطيع أن “تصنع” داعشا إلا من بشر جردتموهم من لقمة عيشهم وسلبتوهم أخلاقهم…
يا أولاد الأفاعي: تفتكون بكرامة وحريات الناس وتهددونهم بلقمة عيشهم، ثم تتوقعون منهم أن يكونوا وطنيين عندما تصل النار إلى سراويلكم؟؟؟
……
إن قرضا بقيمة ثلاثة أرباع مليون دولار أحصل عليه بسهولة وبكل احترام، لا يمكن أن ينسيني ألم لحظة يسد خلالها الوطن الأم باب بيتي ويسرق مفتاحي غير عابئ أين أقضي ليلتي، بينما كنت أحلم بأن أمنحه قدراتي وشبابي مقابل حياة كريمة، ولا يمكن أن يكون كفارة لأية جريمة يرتكبها وطن بحق أبنائه…
……
أودعت البريد شيكا بقيمة ضريبة الدخل، ومرسلا إلى العم سام، أدام الله عمومته! ثمّ توجهت إلى منتجع في مدينة بالم سبرينغز كي أفرّغ ضغوطي، وحيث حوّل المبدعون ـ تدعمهم ضرائب الدخول ـ تلك البقعة الصحراوية إلى واحة ولا أجمل، ورحت استحم بدفء شمسها وبشاشة القائمين عليها على مدى ثلاثة أيام بلياليها، ولساني حالي يقول: الوطن الحقيقي لقمة نظيفة وسقف آمن وكرامة مصانة،
…..
…..
وأيضا شيك مستحق الدفع!!
…..
سرحت في الجمال المترامي الأطراف من حولي، ورفعت الى الأعلى صلاتي: أيها الكون العظيم، هل لك أن تجعل الشيك  لمستحق الدفع لهذا العام أعلى بكثير من شيك العام المنصرم, فكلما كبرت نقمة الضريبة لابد أن تسبقها نعمة الدخل، وتلحق بها نعم الاستمتاع بمزيد من الجمال…

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.