المستبد العربي والحياء

أحمد برقاوي: كلنا شركاء

 يحتل مفهوم الحياء مكانة مركزية في الحياة المعشرية والبشرية.
بل قل لا تقوم حياة إجتماعية –إنسانية دون حضور الحياء .
والحياء بالتعريف : هو حضور سلطة الآخر – المجتمع بوصفها سلطة أخلاقية والإعتراف بهذه السلطة .
ليس الحياء قاوناً وضعياً مكتوباً – وإن كان خارقه يتعرض لعقوبة وضعية أو إجتماعية . إنه قانون إجتماعي يحافظ على مبدأ المعقولية في الحياة .
والسلطة السياسية بما أنها تملك من القوة بما يمكنها من ممارسة الحكم , لا يستقيم سلوكها دون قيمة الحياء إطلاقاً .
ولمّا كان من حسن حظ البشرية أن وصلت – في أنحاء كثيرة منها – إلى أنتاج السلطة عن طريق العقد الإجتماعي – الديمقراطية فإنها قد أنتجت سلطة تتميز بالحياء , لأن الآخر الذي أنتجها يمتلك حق إزالتها ومحاكمتها إن هي خرقت قواعد الحياء . لأن خرق قواعد الحياء إعتداء صارخ على المجتمع – الآخر .
أما السلطة المستبدة وهي المحتكرة للقوة وناتجة عن عصبية منتصرة بالقوة فأن سيرورتها في ممارسة السلطة سيرورة تبدأ من قلة الحياء وتنتهي بفقدان الحياء .
إن أهم سمة من سمات السلطة المستبدة المحتكرة للقوة موت الآخر .
فالآخر لا وجود له إلّا بوصفه عدواً ممكناً يتطلب قمعاً دائماً لإيصاله إلى حالة من العطالة المطلقة .
تتميز السلطة المستبدة في بدايتها بقلة الحياء . وقلة الحياء تعني وجود حياء ولكن بكمية تكبر أو تصغر بحسب الحاجة إلى الحياء .
فحاجتها إلى جماعات مؤيدة تتطلب قدراً من الحياء في ممارسة سلطتها .
فالنهب في هذه المرحلة من قلة الحياء يتم في حقل ضيق وبنوع من التستر . وتوزيع فضلات القوة على من يمتّون بعلاقات قرابة مع المستبد الأول يكون محدوداً . وحجم التناقض بين القول والفعل لا يصل مرحلة التضاد المطلق . ودرجة القمع لا تصل حتى الإبادة . وهذا يعني أن قلة الحياء تبرز في تلك الصور مترافقة طبعاً مع ممارسة قمع لإيصال المجتمع إلى عطالة مطلقة .
ما أن تستقر السلطة المستبدة وتيقن أن المجتمع – عبر ممارسة القمع الدائم – قد وصل مرحلة العطالة المطلقة حتى تنتقل السلطة المستبدة إلى مرحلة فقدان الحياء , حيث الآخر قد لفظ أنفاسه الأخيرة .
إن الآخر وقد مات ما عادت هناك حاجة للحياء . وهنا تبدأ مرحلة الفجور السلطوي حيث إحتكار القوة صار مطلقاً وحيث الإطمئنان إلى عطالة المجتمع وصل حد اليقين الذي لا يرقى إليه الشك . يخلق اليقين بعطالة المجتمع لدى المستبد وعصبته مرضاً عضالاً لا شفاء منه ألا وهو مرض فساد العقل .
فما كان يتم في مرحلة قلة الحياء يتم الآن في مرحلة فقدان الحياء . حيث يصل الفجور إلى المطلق , والفجور المطلق خرق كل المعقوليات المجتمعية و القانونية و الإنسانية .
يظهر فقدان الحياء لدى السلطة المستبدة في صعد كثيرة أهمها :
أولاً : الهبش الأقصى , فالمستبد الأول هو الهبّاش الأول ثم أفراد أسرته الأقربين ثم الأبعدين ثم العبيد الخلّص .
وهبش ثروات الوطن وإحتكار مصادر الثروة عملية تقع في وضح النهار ودون الإلتفات أبداً إلى الهيئة الإجتماعية .
فالهباش الأول – الحاكم المسخرة – لا يستطيع أن يحكم إلا ببنية يوزع فيها حقوق الهبش على أدواته القمعية أولاً . الورزاء , كبار الضباط العسكريين والأدنين , رؤساء شعب المخابرات وفروعها وإداراتها , مدراء الإدارات ذات الميزانيات المالية الكبيرة .
إن أحداً من هؤلاء الهباشة لا يستحي أبداً في إضهار هبشه .
ثانياً : إحتكار الثروة عبر منح الإمتيازات للحلقات الضيقة التي تدور حول المستبد . وهذه الحلقة تتنوع بحسب عصبية السلطة نفسها إذا ما كانت عائلية أو مناطقية أو فئوية أو طائفية , ثم تتحول هذه الحلقة الضيقة إلى بنية طبقية شبه مستقلة مرتبطة بالسلطة . فتنشأ حالة الإتحاد بين السلطة والثروة .
ثالثاً : إن عصبية السلطة المستبدة والمتكونة من أسافل الفئات كلها تصبح خزاناً لإنتاج أصحاب المناصب الإدارية دون أن تتوافر على أي كفاءات , سوى كفاءة العبودية للمستبد أو كفاءة الإنتماء للعائلة أو الطائفة .
وفي هذه النقطة بالذات يكون موت الحياء في أعلى صوره العملية . حيث تجري عملية إعتداء مميتة على كل مؤسسات الدولة المفترضة , وبخاصة تلك التي لها علاقة بالحياة كالجامعة و المدرسة و القضاء و الإقتصاد و المحافظين و الإعلام و الثقافة .
رابعاً : ولعمري أن أهم مظهر من مظاهر فقدان الحياء هو موت اللغة عند المستبد وأذنابه . حيث تفقد اللغة وظيفتها الأصلية في التعبير عن العالم المعيش والواقعي كما تفقد وظيفتها الجمالية . وتتحول إلى مجموعة من الأحكام الكاذبة و المخترعة لوقائع لا وجود لها في الواقع . حيث يتحول الخنوع الواقعي إلى خطاب مقاومة زائف , والإستبداد اللاعقلاني إلى حكمة المستبد , والفقر الواقعي إلى إقتصاد قوي و القمع إلى أمان و الغباء إلى ذكاء .
وحين تفقد اللغة – لغة السلطة المستبدة – علاقتها بالواقع وترابطها بالممكن فأنها تعبر أشد تعبير عن إغتراب السلطة المستبدة المطلق . فالخطاب الفاقد للحياء ولا يمارس أي تأثير في الوعي , ويتحول إلى نوع من أنواع الغبار المفسد للهواء , أو نوع من البعوض الذي تتقي شره عبر إغلاق النوافذ أو تحصينها بالمناخل .
ما أن يصل فقدان الحياء حده المطلق لدى السلطة المستبدة ويلفظ أنفاسه الأخيرة ميتاً و تنتصر الوقاحة و الحمق حتى تتحول الحياة إلى مستنقع آسن .
إن المستبد وحاشيته وهم يعيشون لذّة الإنتصار يتحول المجتمع إلى مستنقع فإنهم يتوهمون أن الإستنقاع هو الإستقرار . فيطمئنون إلى إنتصارهم الساحق و يمارسون فجورهم بكل أمان وسعادة , دون أن يدركوا أن وراء هذا الإستنقاع الذي يحسبونه إستقراراً قوى يزداد حقدها وينمو وعيها وتولد في شرايينها نزعة الثورة فتقلي في المستنقع ديناميت الحياة فينفجر المستنقع وتبدأ دورة إستعادة الحياة المسروقة بنداء أولي يخرج من حناجر البشر الحقيقيين : الشعب يريد إسقاط النظام .
وبكل هلع وخوف ودهشة يطل المستبد بأسلحة الموت ويعلن أنها المؤامرة … المؤامرة .
لكن الحياء الميت لا قِبلَ له بحياء الأحرار حيث إنتصار الإنسان (( أناً )) و(( آخر)) يشق الطريق إلى الوجود الأصيل .

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.