المرأة والعباقرة… سالومي نموذجاً

كان اللقاء الأول بين نيتشه وسالومي قد ترتب ترتيباً من قِبل صديق نيتشه الفيلسوف بول ري وسيدة ألمانية تهتم بالثقافة والمثقفين من الخارج – أي بشكل سطحي، لكن مفيد – هي (مالفيلدا فون ميزنبوغ). ومن كثرة ما كتب له بول ري عن هذه الشابة الساحرة القادمة من البلاد السلافية رد عليه نيتشه بالرسالة التالية:

«سلم لي على هذه الروسية السلافية إذا كان للسلام من معنى! لا ريب في أني أطمع بهذا النوع من النساء. نعم، سوف أكرس نفسي قريباً للبحث عن فرائس كهذه!.. فأنا في أمس الحاجة إلى ذلك من أجل إنجاز الأعمال التي أنوي كتابتها خلال السنوات العشر القادمات. أما الزواج فمسألة أخرى… كل ما أستطيع قوله في هذا المجال هو اتخاذ قرار بالزواج لمدة سنتين فقط (أي زواج مؤقت، أو محطة استراحة). لاحظوا هذه الغطرسة الفارغة: لكأن هذه الروسية الحسناء ذات النظرات الغامضة والابتسامة القاتلة لم تكن تنتظر إلا مجرد صدور قرار عن نيتشه لكي تتزوجه!

سوف نلاحظ فيما بعد أنها هي التي سوف «تفترسه» وليس العكس. سوف نرى أنه سيعض أصابعه ندماً عليها بعد أن رفضته بشكل قاطع، وكان حبها قد تسرب إلى قلبه كالسم الزعاف دون أن يشعر، أو حتى وهو يشعر… هذا لا يعنى بالطبع أنها لم تعجب به ولم تعرف قيمته. فمنذ اللقاء الأول أحست بغرابته، وعرفت أنه شخص غير عادي. فهو أولاً قد تلبك وأخذ يبحث في جيبه عن شيء ما، وراح يقوم بحركات غير طبيعية ولم يعد يعرف ما ذا يقول. فصدرت عنه هذه العبارة العبثية والمضحكة في آن معاً: «من أي كوكب سقطنا لكي نلتقي؟» هذه هي طريقة نيتشه في المغازلة!

بعدئذٍ راحت تستمع إليه بكل إصغاء وتتعرف على فلسفته وتمشي معه في الوديان والجبال، وكان مشّاءً كبيراً. وعرفت الفرق الكبير بينه وبين صديقه بول ري. لكن قلبها مال لهذا الأخير على الرغم من كل شيء. بهذا المعنى يمكن القول إن الرجال العاديين بل، وحتى التافهين من أمثالنا أفضل للنساء من الرجال العباقرة.

وذلك لأن العبقري مهووس بشيء واحد فقط: هو عبقريته أو رسالته التي هي أعز عليه من روحه. وبالتالي؛ فالمرأة بالنسبة له عبارة عن أداة لا غاية بحد ذاتها. ثم كانت القطيعة والنميمة والحسد، وتدخل الناس والوشاة، وكل ما يتلو الحب الكبير من سقوط كبير. وراح يهجوها هجاءً مقذعاً لا يليق بفيلسوف كبير. وكره الجنس اللطيف كله من خلالها أو بسببها. وراح يشتم المرأة في المطلق بشكل ظالم وغير مقبول على الإطلاق. ماذا نستطيع أن نفعل لك يا سيد نيتشه إذا لم تكن هناك امرأة واحدة على وجه الأرض تريدك أو تقبل بك؟

لكن، أليس هناك من سبب آخر لابتعادها عن نيتشه: أقصد لرفضها له؟ ألا يمكننا الاعتقاد أنها خافت منه بعد أن انكشفت لها أعماقه العدمية أو دهاليز روحه الداخلية؟ عندئذ راحت لو أندريا سالومي تكتشف عالماً رهيباً مخيفاً لا يكاد يتحمله البشر فانسحبت طالبة النجاة والأمان. وتركت نيتشه يبحر في عُباب الفكر والظلام وحيداً…

اللقاء الثاني مع ريلكه

دائماً اللقاء الأول له معنى على الرغم من هشاشته، وأنه يتم «بالغلط» أو عن طريق الصدفة المحضة في معظم الأحيان. وكثيراً ما ننساه فيما بعد في زحمة الحياة والعلاقة، ثم لا نعود لكي نتذكره إلا بعد أن تحصل القطيعة المُرّة وتنتهي القصة فنتساءل: كيف حصل ذلك الحب يا ترى؟ وعندئذ نحاول استعادته، ونجد أن له طعماً خاصاً: طعم الحامض – الحلو، أو حتى المر – الحلو، طعم الندم والحرمان…

كان اللقاء الأول بين لو أندريا سالومي وريلكه قد حصل في ميونيخ بتاريخ 12 مايو (أيار) 1897 بواسطة الروائي والصديق المشترك جاكوب واسرمان. وكان كافياً لكي تنقدح شرارة الحب: تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان دون أن تتغير، ودون أن يبليها الزمن. الزمن قادر على إبلاء كل شيء ما عدا شرارة الحب. والحب هو الشيء الوحيد القادر على إيقاف الزمن. الحب هو المنافس الأكبر للموت والزمن. الحب هو الموت بعينه.

وقالت: لقد دخل حياتي كالضرورة، وزارني الحب بكل هدوء وطمأنينة… زارني دون أي تحدٍ أو إحساس بالذنب. زارني كما لو أننا نكتشف شيئاً مباركاً يكتمل بفضله العالم. هذا عن حبها هي، أما عنه هو فحدّث ولا حرج… فقد كان جارفاً، مشتعلاً… ينبغي ألا ننسى هنا الفرق الأساسي بين علاقتها مع نيتشه وعلاقتها بريلكه. فهي عندما تعرفت على فيلسوف الألمان كان عمرها لا يزيد على العشرين عاماً، وكان نيتشه قد شارف الأربعين وأنجز قسماً كبيراً من أعماله، وتهيأ للانعطافة الكبرى التي ستقوده إلى كتابه الحاسم، «هكذا تكلم زرادشت». بمعنى أنها كانت تلميذة صغيرة في محراب فيلسوف كبير يعرف ما يريد وما لا يريد، فيلسوف تشكل وتبلور ونضج.

أما علاقتها بريلكه فكانت مختلفة تماماً. فهي كانت قد اقتربت من الأربعين، في حين أنه لم يكن قد تجاوز العشرين. الأمور معكوسة إذن. ولم يكن قد نشر شيئاً يذكر حتى ذلك الوقت، ولم يكن معروفاً بعد. بل لم يكن أحد يتوقع أنه سيصبح أحد كبار شعراء العصر. لقد التقاها والعمر في أوله، والعبقرية لا تزال نائمة تنتظر فقط شرارة الاحتكاك بالمرأة العشيقة، بالمرأة الصديقة، لكي تنقدح وتشتعل كالحريق… وفي اليوم التالي للقائها لم يستطع البقاء في البيت فراح يتجول كالمجنون في شوارع ميونيخ، ويمر على كل البيوت ما عدا بيتها، وهو يتوقع أن يلقاها صدفة على منعطف شارع ما، أو في منتصف الطريق، أو في إحدى الساحات والزوايا…

وراح يكتب لها الرسائل التي تفوق الشعر:

«في يوم ما، وبعد سنوات طويلة، سوف

تعرفين ماذا كنتِ بالنسبة لي.

كنتِ نبع الجبال للعطشان

آه يا نبعي الصافي!

أي عرفان بالجميل نحوك! لم أعد أتمنى رؤية الأزهار والسماء

والشمس إلا فيك… من خلالك..»…

هذا هو الحب، أو قل جنون الحب: في أوله أحلى من العسل، وفي آخره أمرّ من الحنظل. (بين قوسين للدلالة على مدى خطورة هذه المرأة وكيف أنها كانت تفتك بالرجال فتكاً ذريعاً دعوني أروي لكم النادرة التالية: في أحد الأيام كنت أقلب صفحات كتاب فرنسي قديم، وفجأة وقعت على صورتها وهي تحتل الصفحة كاملة. فوقعت في حبها على الفور، وبالضربة القاضية! صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار… وعندئذ قلت بيني وبين نفسي: الآن فهمت لماذا جننت نيتشه. فإذا كانت الصورة قد دوختني فما بالكم بالحقيقة؟).

لكن جنون ريلكه كان أحياناً أكثر مما يحتمل أو يطاق. كان توتره الداخلي يتفاقم ويتعاظم لكي يتحول في بعض اللحظات إلى مشكلة حقيقية بالنسبة للو أندريا سالومي. وقد حاولت مساعدته عندما عرضته على الأطباء النفسانيين لكي يكتشفوا علته وسر قلقه القاتل، لكن عبثاً… فالعلة كانت غائصة في الأعماق، بل وفي أعماق الأعماق. وربما اقتنعت سالومي في نهاية المطاف بأنه من الأفضل ألا تُكتشف علته؛ لأنها إذا ما اكتشفت زال سر عبقريته! كان ريلكه من صنف المبدعين الكبار الذين تنطبق عليهم كلمته الشهيرة:

«عجبت لمن يرى بمثل هذا الوضوح دون أن يجد مخرجاً!»

اللقاء الثالث مع فرويد

أما اللقاء الثالث والأخير الذي أتيح للو أندريا سالومي أن تحظي به في حياتها العامرة بلقاء العبقريات، فكان مع مؤسس التحليل النفسي: سيغموند فرويد. لكنه كان لقاءً خاصاً ومختلفاً جداً عن اللقاءين السابقين اللذين طبعا حياتها بطابعهما. فعندما التقته كان عمرها قد تجاوز الخمسين وفرويد نفسه تجاوز الستين بكثير، وحقق اكتشافاته الأساسية في مجال التحليل النفسي. باختصار، كانت علاقة ناضجة قائمة على التفاهم والمعرفة وخالية من «المصالح الجنسية» التي كثيراً ما تعكر صفو العلاقة بين الرجل والمرأة. أو قل كانت علاقة تشبه «الصداقة الغرامية» عن بعد لأنها قائمة على تبادل الرسائل أساساً ما عدا بعض اللقاءات العابرة. صحيح أن فرويد كان «مريضاً» أيضاً كنيتشه وريلكه وبقية المبدعين الكبار. لكنه استطاع أن يتجاوز مرضه بعد مشقة هائلة، وبعد أن بلغ الثانية والأربعين من العمر، وذلك عندما أضيئت له طفولته ودهاليز حياته الداخلية في لمعة واحدة. فانحلت عقدته النفسية التي لاحقته طيلة كل تلك السنين. وبناءً على ذلك راح يبلور التحليل النفسي علماً عقلانياً لدراسة كل ما هو لا عقلاني مظلم في حياتنا ومتمركز في منطقة «اللاوعي». لقد استطاع فرويد أن يتجاوز ذاته ويرتفع فوق نفسه: بمعنى أنه اتخذ من ذاته وشخصيته وعقده النفسية حقل تجارب بغية تشكيل علم جديد مفيد جداً للآخرين والأجيال المقبلة. وهذا ما أعجبت به لو أندريا سالومي أيما إعجاب.

وما انفكت سالومي تثني على طريقة فرويد في توظيف العقلانية من أجل الكشف عن كل ما هو جامح ولا عقلاني فينا. وقد طبقت منهجيته على نيتشه ومعرفتها الشخصية به لكي تكشف عن لا عقلانيته، أو عن دهاليز شخصيته الداخلية التي حيرتها، بل وأرعبتها عندما كانت لا تزال شابة صغيرة.

ونتج من ذلك كتابها المهم عنه: «فريدريك نيتشه عبر أعماله ومؤلفاته». ففي حين أن نيتشه كان قد اخترق كل حدود العقلانية في فكره ووصل إلى التخوم الأخرى وقلب كلياً في جهة الجنون، وفي حين أن ريلكه لم يكن يهتم بالحدود الفاصلة بين العقل والجنون إلا من أجل إنكارها أو محوها، استطاع فرويد أن يبقى عقلانياً متزناً. وكانت تبحث عن هذا النوع من الرجال العباقرة الذين استطاعوا الإبحار ضد العواصف والأنواء قبل التوصل إلى الشاطئ الآخر بعد جهد جهيد.

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.