الليالي الخمسة 7

الليالي الخمسة 7

محمد الرديني

ملحق الليلة الخامسة

اشبه بالحلم … اشبه باليقظة لايدري، ولكنه سمع صوتا يبدو انه سجل على آلة تسجيل. كان الصوت خشنا   يحاول جهد الامكان ان يضغط الحروف لكي ينطق بها بشكل صحيح.
قال الصوت وهو على وشك ان يضحك:
” بعد ان جربت جزءا من الخيار الاول دعنا نرى الخيار الثاني ماذا تريد بالضبط، هل انت قوي بما فيه الكفاية لكي توفر على الاخرين.. اقرأت التاريخ، اقرأه اذن بعناية، بكل عناية، لاتقرأ ذلك المكتوب تحت املاء السلطة ولا تلك الكتب الصفراء بل اقرأ تاريخ اولئك الذين عذبوا وذبحوا على مدى الالف سنة الماضية والذين سيذبحون في الالف سنة المقبلة دون ان يجدوا ملاذا .. ملايين الحمقى راحوا ضحية حمقهم، انهم حمقى بالفعل لا بل مغفلون لم يدركوا حقيقة بسيطة وهي انك تستطبع ان تثلم صخرة في جبل او صخرتين او ثلاثة او جزء مئه ولكنك لا تستطيع ان تهد الجبل كله وان حدث ذلك- وهذا مستحيل- فان مئات الجبال الاخرى سوف تنبت مثل الفقع في الصحراء.
يسكت الصوت المسجل قليلا ثم يعاود الفحيح:
” لعل تعتقد اننا متشائمون ولكن الواقع غيرذلك فمثل ما نضجت – كما تدعون –  افكاركم ونظرياتكم عبر السنين ، كذلك افكارنا ونظرياتنا، ولكن باتجاه مختلف. لقد عرفنا الطريق الصائبة، عرفنا ذلك لاننا توقفنا عن التنظير وجابهنا الحقائق كماهي، ولاننا الاقوى بحثنا عن الحقيقة في داخلنا وسألنا انفسنا اسئلة مرعبة واجبنا عليها قدر استطاعتنا بينما بحثتم عنها في خارجكم، خارج نفوسكم، اشتريتم افكارا كثيرة، قلدتم اساطير عديدة، سرقتم معظم حكايات الشعوب ولم تفلحوا حتى في الجواب على مبتغاكم. هناك خطأ مدمن ، خطأ معتق، ربما في تاريخكم او قيمكم او حتى في اخلاقكم.
هل تعتقدون ان هناك حقائق ثابتة على الارض اذا كان كذلك فهذه هي احدى خطاياكم الكبيرة. لم تتعلموا بعد كيف تصغوا. تمارسون لعبة الكلام وتجبرون الاخربن على الاصغاء ، تعتقدون انكم الوحيدون الانقى والاعفف في هذا العالم.
احس بلهاث قريب منه ربما كان كلبا ، نعم انه كلب، هاهو يشعر به وهو يلحس اصابع قدميه. كان الظلام ثقيلا جدا وكان من المستحيل ايضا ان يرى ماهو هذا الذي كان يلحس اصابعه.

 

استلقى على الاسمنت الرطب، دخلت برودة لزجة الى جسمه تسربت من رجليه الى الاعلى تماما كما تفعل الحية الرقطاء ، اختض قيلا، احتضن صدره بيديه ظل يرتجف زمنا لايعرف مداه.
وعاد الصوت يفح مرة اخرى:
” كما تعرف ان العالم اصبح صغيرا جدا بفعل القوة ولكنها ليست القوة التي كان يتغنى بها بروسبير او فرانكو او هتلر او غيرهم. انها قوة جديدة ليس لها شعار محدد بل انها تنطلق من مبدأ التعامل بالمنطق ونشر الحقيقة مستعينة بالتاريخ. والمنطق عندنا هو الاصغاء لما يقول العقل … العقل  المجرد غير المنحازالى احد نحن ياصديقي نؤمن بديمقراطية القوة، ةالقوة لاتعني اجبار الاخرين على الانحياز لنا، لا، بل حثهم على اتباع المنطق والصورة ايهما يكون فعالا اكثر. لقد رأيت نتفا مما نريد قوله او عرضه لك، وكنا نريدك ان تعرف ان زمن التعذيب الجسدي والاعتراف على الاخرين بما يصحبه من كذب سافر او بطولة زائفة قد ولى، اصبح اسلوبا محنطا لافائدة منه. اننا الان في عصر جديد، عصر يعتمد على مخاطبة العقل وتهديم كل الاخطاء المعشعشة فيه. اننا نريد  تحريره من كل الشعارات المعلبة والجاهزة واقناعه بتركها وراءه والبحث معنا على ثوابت المنطق الجديد الذي نسعى لترسيخه.
لم يستطع فلاح ان يغمض عينيه رغم الظلام الدامس حوله، انه لايرى شيئا ولكنه يحس بجسمه يرتعش, هل من الخوف او الغضب… الخوف من تلك الحية الرقطاء ام الغضب من هذا الصوت المسجل.
ماذا يريدون هؤلاء؟ هل هي نظرية جديدة في التعذيب او هذيان من رجل لايعرف ماذا يريد سوى المحافظة على سلطته؟ اي منطق واي حقيقة يتحدث عنها ولسان هذا الكلب يلحس اصابعه. انه يسمع نباحه الخافت ولابد ان لعابه سال حين لحس يده. لقد بدأ يزمجر وهو يعرف ان هذه الزمجرة لاتصدر الا من كلب ضخم ازبد البوز ذي لسان احمر قان يمتد خارج الفم وعينين بؤبهما ثابتين على مكان ما.
لايدري كم من الوقت مضى عليه وهو منبطح على الاسفلت البارد ولكن هذا الشخير المنتظم لم ينقطع بل هناك شخير آخر.. نعم هناك شخير منتظم آخر، انه بالتأكيد لكلب اكثر ضخامة من الكلب الاول . اصبح هناك كلبان وربما سيرمون اليه الحية الرقطاء من مكان ما . كل هذا والصوت المسجل يتحدث عن نظرية تضم منطقا وتاريخا جديدين. يبدو ان احدا مازال يعيش في زمن مختلف.
انبثقت الجدران الملساء عن موسيقا ناعمة دخلت جسده الرطب ، احالته الى كتلة واهنة … آه من تلك الموسيقا انها نفسها التي كان يسمعها منذ سنوات طويلة.. نفسها التي كان يهيم ويسبح فيها بالفضاء، يذهب بعيدا نحو تلك النجمات الست اللواتي كن يشكلن حزاما فضيا مع بعضهن وهو يتوسطهم قاعدا القرفصاء.
تحدثه النجمة الاولى:
” وجهك ينبىء عن حزن عميق هذه المرة.
تقول النجمة الثانية:
” يبدو كأنك ولدت مع الحزن.
يسمع صوت النجمة السادسة وهي اصغرهن تقول:
” تحتاج الى حضن دافىء.
يقول:
” لاادري ماهو الحزن ايتها النجمات. يقولون لي ان وجهك يقطر حزنا عميقا ولاادري لماذا، فانا لااعرف الحزن ولا الاسى . كنت طفلا طبيعيا ثم شابا احب الحياة بكل قوة. في كل صباح انظر الى وجهي بالمرآة لا ارى علامة حزن انه وجه حنطي اللون كما مدون في جواز السفر، لا علامات فارقة، العينان بنيتان، الخدان مترفان في الصباح فقط والحاجبان سوداوان وشعرهما مبعثر بين الاعلى والاسفل. لاادري ماهو سبب الحزن ربما لاني ضعيف الى الحد الذي  لا استطيع فيه تغيير ما اريد تغييره . كلا لا تفهموني بشكل معكوس فانا لا اريد تغيير العالم ولا قيادة الانقلابات الثورية . اني فقط اريد ان اقود حياتي ، ان اقول ما بداخلي عن الاشياء التي تدور حولي.
الحزن ايتها الناس هو اني مثالي، هذا على الاقل ما قالوه بعض الاصدقاء . انتظر من العالم ان يتغير من حولي دون ان افعل ما يجب فعله. لم اهضم اية تجربة مهما كانت بسيطة  في حياتي ، جعلتها تمر كانها لغيري. لهذا مازلت طفلا في داخلي… طفلا ساذجا لايعرف مايجب فعله في هذا العالم، هل ربما انا ملعون من السماء والارض ، لاادري، لماذا انا بالذات، هل احاول ان ابالغ في تصوير الاشياء من حولي، هل لذلك علاقة بالضحك. منذ ان فتحت سمعي على هذا العالم والكل يقول ان الضحك يجلب المصائب. اسمع ابي اذا ارتفعت ضحكاته مع اصدقائه يقول: اللهم اجعله خيرا، واذا صفر احدنا خصوصا في المساء فان الطامة الكبرى ستنزل عليه لان الصفير يوقظ الملائكة – كما تقول جدتي – ويجعلها تنزل الى الارض.
اسمع امي تقول لابي:
” افرد وجهك يارجل امام الاولاد.
يصرخ في وجهها:
” وهل تريدين مني ان اعلمهم الميوعة ، اريدهم عبوسين دائما حتى يخافهم الجميع.
سمع صرير المفتاح يدور في باب الغرفة وصوت بدا طبيعيا او حاول ان يكون كذلك.
” استعد.
فتح عينيه، نظر الى الجدران الملساء، بحث عن اثر الكلاب ، لم يجد سوى الجدران الملساء ومكبرات الصوت في اعلى السقف وبطانية شديدة السواد رميت في احدى زوايا الغرفة التي تشبه الى حد بعيد غرفة رجل لايهمه سوى الاستلقاء على ارضها والبحلقة في السقف طول اليوم.
ادخلوه الى غرفة الرجل الانيق الذي استقبله بضحكة مجلجلة.
جاءه صوت الرجل الانيق:
” هل انت مستعد للحديث؟
” ماذا تريدني ان اقول.
سمع ضحكات عديدة انطلقت في حزمات متفرقة ولكنها انشدت كلها في حزمة واحدة بعد ذلك لتدخل اذنيه وتعصر مخه لتحيله الى كتلة هلامية ملساء تماما مثل جدران الغرفة التي كان فيها قبل قليل.
نعم ، ليضحك ويترك العبوس ولكن اية ضحكة ستكون.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.