الليالي الخمسة 6

الليالي الخمسة 6

محمد الرديني

الليلة الخامسة

خرجت الفاتنة من فتحة الجبل فيما كان صراخ رجل الظل يعلو شيئا فشيئا.
حانت لفلاح التفاتة للرجل الانيق الذي بدا مسحورا بالمشهد وقد علت وجهه ابتسامة طفل حاز على لعبته اخيرا.
قال الرجل الانيق:
” والان كيف ترى المشهد.
اي مشهد هذا الذي يتحدث عنه هذا الرجل المعتوه، هل ينوي اخافته بهذه المشاهد المضحكة ام انه يرغب يالتسلية فقط.
بالحقيقة انها ليست مشاهد مضحكة، انه يقول ذلك من باب المكابرة او تهميش الاشياء كعادته… هل يعرف هذا الرجل الانيق حقا انه يخاف من الافاعي .. هل يعرف انه ما من ليلة ينام فيها الا ويرى الحية وهي تزحف من مكان ما تريد  قدميه، تقف ثوان عندهما، ثم تبدأ الزحف بين ساقيه الى الاعلى حتى اذا وصلت الى بطنه استقرت هناك فيما يكون بطنها المنفوخ قد غطى كل وجهه بعدها يبدأ رأسها المدبب في التمايل يمنة ويسرة ثم سرعان مايبدأ يلطم وجهه بضربات تبدو رتيبة بادىء الامر ثم تتوالى سريعة فيما لعابها يغطي كل وجهه. لهاثها هذه المرة يهدأ قليلا فيما لهاثه هو يزداد سرعة ونبضات قلبه تكاد تطفر الى خارج جلده.
تطوي الافعى نفسها لتجعل من جسمها حلقات تستقر على صدره بعد ذلك فيما يرتفع وجهها المثلثي نحو وجهه. يقولون ان الافعى لاترى وانها تملك حواس اخرى تعوضها عن ذلك ولكن من يصدق ان هذه الافعى التي يراها كل يوم منذ ثلاثين عاما او اكثر تراني بوضوح حتى ان عينيها تبدوان صغيرتين غير مكترثتين باي شيء عدا النظر الي.
مرة رآى افعى في الحمام ، كانت طويلة جدا ، توقف عن غسل وجهه – كان عمره آنذاك سبعة اعوام- وبالكاد استطاع ان يصرخ. جاءت امه مهرولة – وكانت حاملا آنذاك- وقفت امامه غير مبالية بعد ان عرفت السبب.
قالت له وهي تبتسم:
” ان الافعى لاتؤذي مادامت بجانبها امرأة حامل.
لم يعرف لحد الان مدى صحة هذه المعلومة، ولايدري لماذا لم يكترث في البحث عنها بعد ذلك، ربما لم يكن الامر على هذه الصورة لان الاساس في ذلك هو انها ترعبه ان وقفت بجانبه امرأة حامل ام لا… لايدري لماذا، ولكن هذا هو الواقع.
سمع الرجل الانيق يقول له بصوت ساخر:
” من حسن الحظ انك لم تر المشهد كاملا لقد كنت متسامحا معك الى حد كبير ، هناك الكثير الذي يجب رؤيته.
لقد اقتنع اخيرا – او هكذا خيل اليه – ان هذا الرجل معتوه بما لايدع مجالا للشك او ربما يكون من هؤلاء الذين غسلت ادمغتهم السلطة وباتوا يتصرفون مثل الرجل الآلي .
قال الرجل الانيق:
“لا تعتقد ان سكوتك سيفيد بشيء، ان الامر لايستاهل منك كل هذه المكابرة.. الاترى معي ان الامر لايحتاج كل هذه المكابرة؟
اي مكابرة واية قوة. اني مازلت ارتجف من هذه الافعى التي تلتف حول ذلك الرجل البائس في الكهف. لم تعد عندي مكابرة. لقد امتصت هذه الافعى كل طاقتي ، لم اعد ارغب في شيء سوى باحتضان ذلك الوجه الجميل الذي احلم به منذ عشرات السنين.
اي وجه..؟ ماهذا الذي تقوله، ان الرعب كلمة مغرية ازاء ذاك الذي تحلم به، اي وجه؟ عشرات الوجوه مرت عليك وانت كما انت لم تتغير.
مرة قال لك الوجه:
” ماذا تريد؟ كن معي فقط وانا البي كل رغباتك ، نعم انا اعرف انك مجنون، مجنون بحب وكره الحياة . هذا انت، لاتعرف حتى نفسك، اذن دعني اقودك الى نفسي لعلك تجد ملاذا.
وفي ذلك اليوم ضحكت كما لم تضحك من قبل، وقفت امام المرآة صفعت وجهك اكثرمن عشرين مرة وكنت تعلم ان هذا العدد هو مناصفة بين وجهك وذلك الوجه.
وجه آخر اتاك في يوم آخر وقال لك:
” هل تحب ان تنام معي وتكسر كل قوانين الدنيا؟ اذن هيا ، تعال.
وجئت وياليتك لم تأت فقد اكتشفت انك عديم الفائدة، عديم الاهمية، انك لاتصلح لشىء ، المغامرة عندك لاتتعدى ذهنك فقط تمارسها بالضبط كما يمارس المراهقون عادتهم السرية. تسقط، وتسقط ياصديقي في غياهب الجب لا احد يعرف عنك شيئا، وتعزي نفسك بالقول ان الحلم وحده هو الذي يخلق لك بعض الوجود.
انا اعرف تماما انك جثة متعفنة تمشي بدون حياة. انا اعرف – وعذرا لهذا الاسترسال- انك ضعيف الى حد انك لن تقاوم رؤية الافعى وستجيب عن كل شيء يطلبونه منك.
قال الرجل الانيق:
” والآن ماذا تريد ان تقول ؟
” ماذا تريدني ان اقول؟
بالكاد استطعت ان اقول له ذلك.
” قل كل ما عندك، هناك الكثير يجب عليك قوله.
لم افهم بالضبط ماذا كان يعني ، لكنني كنت مستعدا للاجابة على كل سؤال ، هذا ما توصلت اليه بعد ان كانت الافعى في هذه اللحظة تتلمس رقبتي وانا ارى الرجل الاتيق يتكلم.
سمعت صوته مرة اخرى:
” بايجاز لاسياسة ولا دين.
مرت ثوان ثقيلة كان صوت الصمت فيها يطن باذني.
اخيرا سمعت صوتي يقول له:
” لم انخرط في السياسة ايها الرجل الانيق حبا فيها، التقيت مرة فتاة في بيت احد الاصدقاء . نظرت الي بدلال ، نظرت اليها مستفسرا لم تبال بنظراتي، ظلت تسلط علي اغراءات الدنيا كلها – اوهكذا خيل الي – تخيلتها تنام الى جانبي ، تقبلني، كان لسانها يمتد داخل فمي يلوكه يعصره يمتص ما فيه . تأوهت ، رفعتني كقشة ونامت فوقي، كان وجهها كله يغمر وحهي . لاول مرة اشعر ان الاختناق لذيذ. اي اوكسجين هذه الذي يتحدثون عنه، تعالوا انظروا ، انها الجنة التي تتحدثون عنها، لست ضعيفا كما تتصورون انا اقوى من معظم المتحركات حولكم ولكنها القناعات، القناعات التي تذوب الواحدة تلو الاخرى وتترك النفس سائبة.
حينما تتعود على رؤية اللون الابيض طيلة سنوات وسنوات وتستيقظ فجأة ذات صباح لتجد الحية قد ماتت متعفنة واللون الابيض انقلب الى لون آخر ومعاقبتك هي ان  تقفل باب غرفتك عليك وتنظر في المرآة  وتسأل نفسك:
” ماذا جرى؟
وكالعادة لاتعرف الجواب، تسكت على مضض، تغمض عينيك تنكس رأسك وتذرع الغرفة جيئة وذهابا.. لاتفكر ، انا اعرفك جيدا فانك لاتجيد  هذه اللعبة، كل ماهنالك انك تبحث عن وجه، وجه يمضغ فمك جيدا، يجيد لعبة قطع الاوكسجين عنك، وتظل لعبة بيديه يديرها كما يريد.
سمعت الرجل الانيق يقول:
” هل سمعت منك شيئا.
لم اقل شيئا بعد، بل لم ولن يكن عندي شيئا لاقوله فانكم تعرفون عني كل شيء انا رجل مهووس بالحب، ليس الحب الذي تتصورونه، انه ذاك الذي حين تنظر اليك المرأة يرتد اليها طرفها قرفا من ذلك الوجه العبوس وتلك التعابير.
هل سمعتني اقول شيئا ايها الرجل الاتيق، نعم سأقول لك، لا السياسة تغريني ولا الدين، انا رجل مسكون بنفسي … بنفسي فقط ، تلك التي تزحف من عند قدمي وتأتي الى بطني  تستقر فيها لثوان ثم تزحف الى وجهي وتحنق كل مساماته، ثم يأتيك ذلك الصفير: اغمض عينيك لترى الوجه، الوجه الذي ينادي لتمارس معه لعبة الجنس.
حين كنت اسأل امي وانا ابن الخامسة:
” كيف اتيت الى الدنيا ياامي.
تضحك امي وهي حينما تضحك تبرز وجنتاها السمراواتان:
” من صرتي طبعا.
ولسنين طويلة ظللت اعتقد ان الصرة حين تنتفخ فهي علامة الولادة ولكن لماذا صرة المرأة  وليس صرة الرجل؟ لم اعرف الجواب حتى جاء اليوم الذي بكيت فيه طويلا، فقد رأيت كيف يخرج الطفل من ( رحم ) امه مبللا ، مغمض العينين يصرخ ضاما كلتا يديه بيديه.
لم يكن ذلك اليوم هو اليوم المشهود الوحيد في حياتي بل كان هناك يوم آخر:
كنا نقتعد جلستنا المألوفة عند قدمي السياب حينما دندن محمود كعادته، جرع كاسه الاول بسرعة تلاه بالثاني ، كنا ننظر اليه باستغراب وعند الكأس الرابعة قال:
” اي بشر نحن” ليس هناك اي تعريف لنا في القواميس الوضعية. نحن ايها السادة لانفقه شيئا. قرأنا عدة كتب وكتبنا عدة خواطروتقمصنا ما قرأناه واصبحنا كتابا بين ليلة وضحاها.
خمط محمود حشيش الحديقة  بين يديه واستطرد:
” هل يعرف احدكم كيف يضاجع امرأة ، هل رفستكم امرأة من قبل كما رفستني الليلة قبل الماضية وكنت حينها نائما فوقها. صاحت بي : قم ياهذا اما زلت لاتعرف اين تضع عضوك. زررت لباسي ونهضت من فوقها وانا اتصبب عرقا ليس خجلا منها ولكن…..
اكمل فلاح في سره:
” من امي التي كانت تقول ان  الطفل يأتي من الصرة. لقد كذبوا علينا، ليست الصرة هي الكذبة الوحيدة بل هناك عشرات الاكاذيب بل هناك المئات من قصص العشق الخالدة ولأكن دقيقا قصص الحب العذري، هذه القصص التي كتبها وقرأها اناس مازالوا يظنون ان الطفل جاء من الصرة.
سمع الرجل الانيق:
“هل تريد ان تقول شيئا.
صرخ فلاح:
” نعم اريد ان اقول كل شيء، كل شيء عن خيباتي. انا رجل جئت من الصرة، لااحد يجرؤ على القول عكس ذلك. لااحد دلني او دلكم من اين ياتي البشر. عورة تلك التي اتيت منها ونحن عوران ايها السادة.
من خلال دموعي رأيت الرجل الانيق يضحك ثم يومىء لاحدهم وغبت عن الوعي.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.