الكون و الكونية و بينهما العشق..

قبل أيام قليلة كتبت خاطرة على موقع ألفيسبوك و كالعادة جاءتني تعليقات مختلفة و قد كان احد هذه التعليقات هو الأساس في كتابة هذه المقالة…. و لكي اعطي القاريء صورة أوضح عن الموضوع لذلك لابد أن أبداً في عرض الخاطرة…. و هي كانت ….

قالت… أنا مهمومة…
قلت… و هل للدنيا مذاق دون هموم..
قالت… همي كبير …كبير…
فساًلتها… و هل تدعين الله..؟؟..
قالت… ربي .. انك حملتني هماً ليس كمثله هم..
أدركت ما تعنيه…
قلت لها…العشق أعظم الهموم..
و لكن العشق… يا سيدتي… حاضنة الحياة… نأخذ منه و نعطيه..

التعليق المهم الذي جاءني كان من صديق اسمه نور الدين و كان نصه… ( العشق هو آخر الأشياء التي يمكن أن تطرح مشكلا للإنسان الكوني… هناك مشاكل أعظم بكثير..!! ) فكتبت له ما يلي… (شكرًا عزيزي نور الدين… تساؤلك مشروع و مهم جداً و اتفق معك أن هناك أشياء كثيرة تحتل أهمية كبرى في حياتنا كأفراد و حياة مجتمعاتنا… لكن سأكتب قريبا مقالة عن العلاقة بين العشق و الكونية… تحياتي)…

الملاحظة الأولية في تعليق هذا الصديق… كما افهمه و قد أكون مخطأ … هي أن مفهوم العشق هنا قد تم اختزاله الى علاقة حب بين رجل و امرأة … و ربما تم اختزاله بشكل خاص الى علاقة عابرة بين شاب و فتاة تعبر عن فائض في الوقت و الموارد أكثر مما تعبر عن ترابط روحي…

و رغم أن الخاطرة تصف العشق بانه … ( حاضنة الحياة… نأخذ منه و نعطيه..) … اي انها تتحدث عن العشق بمفهوم اعمق إلا أننا يمكننا أن نبدأ مناقشة الموضوع على أساس مفهوم الحب كما فهمته من تعليق الصديق…

و عليه نفترض بانه اذا اختزلنا قضية العشق الى علاقة حب و غرام بين شخصين فربما في لحظات معينة ننسى قيمة هذه العلاقة العظيمة لأننا نجد انفسنا أمام تحديات قد لا نستطيع مواجهتها… تحديات الفقر و الظلم و الدمار و الحروب و البطالة و الحاجات التي تزداد عموديا و أفقيا… تحديات الكوارث البيئية و نقص الموارد الطبيعة و الاستغلال الرأسمالي للشعوب و الحرمان الذي يزرعه في اغلب المجتمعات و تشريد الناس و الهجرات الجماعية و التصحر ونضوب المياه… تحديات ضياع الشباب أمام مغريات المخدرات و انتشار الجريمة و الضياع الأخلاقي و دور التطور التكنولوجي الهائل في كل ذلك…

و لا ننسى الصراعات بين البشر على الموارد و الاقتصاد و على السلطة و النفوذ السياسي و الاجتماعي بين الكبار … و مثلها صراعات على لقمة العيش و حصيرة متهرئة و أشياء تافهة لكنها تمثل لولب دوران الحياة للفقير… و أحيانا على امرأة أو رجل أو سيارة و موبايل و فيلم سينمائي أو اسم ممثل أو ممثلة عند الشباب… أو على قيم الشرف و الرجولة و الحفاض على العرض للتقليديين… أو على الفروق بين اليسار و اليمين و الدين و الأخلاق و الصلاة و التكفير و الإلحاد و الإيمان بين مجموعات تبني قليلا من جهة و تهدم أكثر من جهة ثانية…

نعم وسط هذا الضباب و الفوضى و الصورة المشوهة للمستقبل و معاناة الحاضر التي تعلن عن حضورها في مكان و اًلام الماضي و جروحه التي لا مهرب منها… وسط كل هذا ..اين هو العشق… تساؤل منطقي و احتجاج شرعي…

و لكن هل يمكن أن نتصور أن هذا الكون قد تم بناؤه على شيء آخر غير العشق… و هل يمكن أن يكون الانسان كونيا و إنسانيا دون أن يكون عاشقا…؟؟..

و لنبدأ بالسؤال الأول….لو اخترنا أن نبتعد قليلا عن التفسير الديني لوجود الخلق… القصة التقليدية للعلاقة بين ادم و حواء… و قمنا بتوسيع رؤيتنا حول آليات تكون أي نواة فإننا نجد في اغلب النظريات العلمية …. سواء كانت أنثروبولوجية أو فيزيائية أو كيميائية أو إلكترونية أو بيولوجية… أن الأشياء تتكون نتيجة تلاحق أو تصادم طاقتين مختلفين في خواصهما .. و في هذه الجزئية فمن الضروري و الأمانة العلمية التأكيد على حقيقة أنني هنا اعني اغلب التكوينات و لم اقل كلها لان هناك نظريات عن التطور الاحادي في بعض الكائنات لكن هذه النظريات ظلت محدودة و لم تتطور كثيرا لحد الآن…

الآن… إذا وضعنا العشق في صيغة علمية فانه يعني التلاحم التواصلي بين كائنين… و التلاحم التواصلي معناه أما التواصل الفيزيائي أو الكيمياوي أو الإلكتروني أو البيولوجي أو الاجتماعي التاريخي أي الأنثروبولوجي … و هذا التواصل قد يكون ماديا مباشرا أو تأثيرا تاريخيا أو نفسيا سيكولوجيا… و أن هذا التواصل هو الذي يؤمن ديمومة حياة الكائن الجديد و يحدد علاقاته مع الكائنات الأخرى… هذا النوع من التواصل … سواء كان روحيا ام ماديا …هو الذي يمكن أن نطلق عليه في اللغة الشاعرية و الصوفية العشق..

بكلام أكثر دقة أن العشق بهذا المعنى هو الذي ينتج تواصلنا مع الحياة…. هذا يحصل بغض النظر عن وعينا من عدمه بأهمية هذا الأساس الذي يشكل نسميه في لغة الوصف الشاعرية… حبنا للحياة… و الذي هو النواة التي نجمع حوله أشياء أخرى حتى يصبح حصنا يحمينا… و سواء اتفقنا أم لا مع فلسفات وجودية و عبثية وغيرها مما تفترض أن الحياة ليست خيارا بل هي مفروضة علينا….. و سواء احببنا الحياة ام لا في وعينا إلا أن النتيجة هي واحدة و هي أننا طالما ما زلنا على قيد الحياة فان هناك شيئا … أو اًصرة قوية تربطنا بها… و هذه الآصرة هي الحب… أو العشق بمفهومه الأعمق …

و لان الخاطرة قالت… أن العشق هو حاضنة الحياة نأخذ منه و نعطيه… فإننا يمكننا ان نتصور ان هذه الآصرة هي علاقة تبادلية… و هذا بالضبط هو ما يحصل … بغض النظر عن رؤيتنا الوعيوية للحياة.. نحن جزء من الحياة و الحياة هي إطار وجودنا … كما انها جوهر وجودنا..

هذه الآصرة توضح علاقاتنا مع الكون…. فالكون الذي هو الإطار المادي لتطور الحياة … هو ايضا يشكل في أذهاننا و وعينا إطارا هلاميا… قد نسميه الدنيا أو أية تسمية أخرى … لتواصل حياتنا مع كل الكائنات الأخرى … سواء هذه الكائنات بني بشر أم حيوانات أو أشجار أو عالم البحار أو الحشرات و حتى الكائنات غير المرئية بالعين المجرة مثل الجراثيم أو حتى تلك قد نشعر بها في لحظة خوف أو ضعف أو استقصاء علمي مثل الجن..

هذا المفهوم للعلاقة بين حياتنا و وجود الكون ينقلنا الى التساؤل الثاني الذي طرحنا في بداية هذه المقالة… و هو مفهوم الكونية أو الإنسانية … التي يتحدث بها الكثيرن و هذا شيء رائع في ذاته و ان كانت تحتاج الى ضوابط حول المفهوم العام و علاقته بخطوط التفرعات…

و لنبدأ بمدخل بسيط الى مفهوم الكونية…. اعتقد أن هذه الكلمة … اي الكونية… هي ترجمة لمفهوم

Universalism

و ليس لمفهوم

Globalism

أو

Globalization

كما توحي كلمة الكونية للوهلة الأولى …. لكني لا استطيع الجزم بذلك كون الكثير من الشباب و حتى البعض من مثقفينا قد يقعون في معترك التشابه في المفاهيم بسبب عدم الدقة في فهم مصطلحات تطرحها الأوساط الثقافية و السياسية في الغرب…

مفهوم

Globalization

يشير الى محاولة التوسع و الهيمنة تحت شعار نشر آليات التطور الاقتصادي و الثقافي … فيما يشير مصطلح

Globalism

الى توحيد الإدارة السياسية و الأيديولوجية للعالم في نظام موحد… في كلا الحالتين فان الغرب و خاصة الولايات المتحدة الأميركية هي منبع طرح المصطلحات و هي التي تستخدم هذه المفاهيم لكي تبني عليها هيمنتها على العالم في هذه المرحلة الراهنة عن طريق آليات السوق و إزالة … على الاقل قضم…سلطة و سيادة الدولة و أسس البنى الثقافية للمجتمعات الأخرى ..

أما مفهوم

Universalism

فهو يشير الى طرح قيم تتجاوز الحدود الضيقة سواء كانت انانية فردية او جماعية مرتبطة بتجارب محلية اثنية او قومية او دينية او ما شابه لكي تشمل جميع الناس … تاريخيا اغلب الديانات و الفلسفات الكبرى طرحت قيمها على هذا الأساس و حققت بعض النجاح لكنها عجزت عن التجاوز الحقيقي للأسس الذاتية… و الأسوأ من ذلك هو أنها حاولت فرض رؤيتها الخاصة على الآخرين تحت عنوان نشر القيم الكونية ….

لكن في العقود القليلة الأخيرة ظهرت تيارات تهدف الى خلق أرضية جديدة لمفهوم و تطبيقات

Universalim

مبنية على أسس توافقية ترابط كل الاختلافات الثقافية بين المجموعات البشرية عن طريق الاحترام المتبادل و قيم حق الإنسان في أن يكون مختلفا عن الآخرين في الشكل و اللون و الرأي و الإيمان …

و في هذا اطار حركة هذه التيارات الجديدة يمكن وضع مفهوم الكونية كما اعتقد… أو على الأقل أتمنى … لكن السؤال المهم هو كيف يمكن ربط هذا المفهوم للكونية بمفهوم العشق ..؟؟..

في المدرسة الصوفية فان مفهوم العشق يشمل كل هذا … أي كل الناس و كل الكائنات … في ترابط مخيالي محوره هو الله .. أو الخالق… لان الله هو الوحيد الذي يمكن لكل الكائنات أن ترتبط به… كما انه هو الوحيد الذي يعرف سر الخلق و سر الحياة و سر معرفة الطريق الى الترابط مع الآخرين بغض النظر عن الاختلافات في الشكل و اللون… الخ من العوامل التي ذكرناها سابقا…

ألان … بعيدا عن التقسيمات الكلاسيكية… فان المفهوم الكونية… يقترب كثيرا من هذا المفهوم باختلاف بسيط و هو عدم وضع الله كقيمة مركزية أو محورية… لكن المهم هو الجوهر أي قيمة الترابط بين الناس … و بناء على أساس هذا الترابط يتم الاهتمام بالمشاكل الواقعية للناس كما ذكرناها أعلاه … و هذا يشكل أيضاً اختلافا آخر عن الصوفية الكلاسيكية التي يفهمها الكثيرون على أساس أنها محاولة للتهرب من الواقع…

الخلاصة الأولية … أن هذا الترابط هو ما يمكن أن نطلق عليه العشق… لان هذا الترابط هو الذي يضمن احترام الجميع و التضامن بين الناس…. بل العمل الجدي على أسس بناء ارضية لمستقبل مشترك للناس جميعا… و هذا المفهوم الذي حاولت الخاطرة أن تقدمه بالقول …( العشق هو حاضنة الحياة… نأخذ منه و نعطيه..)… أن هذا الترابط هو الحاضنة أو الإطار الذي يضمن حياتنا بينما تساهم مشاركتنا الروحية و الفعلية فيها في ديمومتها..

آخر الكلام هو …أن حاجات الناس اليومية… سياسية كانت ام اقتصادية ام اجتماعية ام اي شيء اخر …. هي ضرورة مباشرة لا يمكن تجاوزها…. و في هذه الحقبة الزمنية حيث ينتشر التكفير و شيطنة الاخر و القتل على الهوية … يبرز اهمية العشق … ليس فقط بين الرجل و المرأة كما نفهمه عادة… و لكن أيضاً بين كل الناس بشكل ذلك الترابط الضروري من احترام الآخر و المشاركة الفعلية بهدف خلق عالم … او كونية…مختلفة تحمي سر وجودنا و حياتنا…

اعتذر من القراء كون المقالة اصبحت طويلة لكن أرجو أن أكون قد ساهمت و لو بشكل بسيط في مناقشة موضوع غاية في الاهمية و العمق يحتاج الى مئات المجلدات لتوضيحه و هو العلاقة الجذرية بين العشق و الحياة… أو بين الكون و قدرتنا على أن نكون فاعلين في ديموته… لكن في كل الأحوال الموضوع مطروح للنقاش و أتمنى أن يساهم الجميع فيه… و مساهمتي البسيطة ترحب بكل نقد أو تعليق او تساؤل أو غيره…

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.