الغياب فكرة كثيفة الحضور ‎

فكرة الغياب، فكرة تبدو لي رومنسية بطريقة أنيقة ومثيرة، فكرة مغرية، تحمل بداخلها إغواء لا يقاوم، وخاصة حين أدقق إلى كل التفاصيل التي نجدها فاتنة فقط لأنها غائبة وبعيدة. هذه الفكرة تجعلني أقع في حيرة لا تقاوم، حيرة يخلقها ذلك النوع من التناقض العكسي الذي يخلقه حضور الغياب بدواخلنا، كثافته، رصانته، اسطوريته، سحريته.. كل هذا يجعلني أفكر -وبطريقة لا يمكن تبريرها تماماً- بالغياب.
أفكر بكل ما قاله الأصدقاء عني حين كنت غائباً عنهم، كل ما قاله المعارف، فأجده فاتناً أكثر من آلاف قصائد المديح أو المقولات الخالد.
أفكر بأحديثنا عن الغائبين غياب الجغرافيا، أو غياب الموت فأجدها مثارة بشهوة ما، بطلاسم ما تجعلهم في كلماتنا عنهم أكثر حضوراً وخلوداً، أكثر وقعاً، تجعلهم يبدون كأشخاص لا نعرفهم رغم معرفتنا بهم، تجعلهم يبدون أكثر بعداً عن بشريتنا الغارقة في إعتياد الحضور المطلق.
أكتشف أن سحر الغياب وحضوره ذاك يكون أعمق وأكثر طغياناً في كل مرة يكون الغياب أبعد وأكثر استحالة، في كل مرة يتجاوزنا، يتجاوز جغرافيتنا، يتجاوز ممكناتنا، يتجاوز جغرافية الحياة ذاتها، لذلك أجد الموتى، والبعيدين أكثر فأكثر في الموت هم الأكثر حضوراً وسحراً، هم الأكثر نفوذاً في أقاويلنا، واذهاننا بعكس الغائبين عنا جغرافياً فقط. بعكس من سنراهم غداً، أو في الشهر القادم، أو في المصادفة القادمة.
إن الغياب يصنع وجوديته الأسطورية والسحرية تلك من خلال تلك المسافات العميقة والبعيدة، من خلال ذلك التناقض الفج، العنيف، الحزين، المرهق، المربك، المدهش، المثير ، الذي يسكننا ككائنات غارقة في تعقيداتها النفسية والفلسفية وحتى الطفولية. لذلك ولكل ذلك لا تفزعني فكرة الغياب، فكرة غيابي أنا لأنها فكرة متوازية مع الحضور ذاته، مع ما يحققه الإنسان من حضور، فقط علي التركز على ما سيجعل هذا التوازي قوياً وموجوداً ، من خلال تلك الفكرة التي تقول لي باستمرار عليك أن تخلق وجودك الذي يتناسب مع غيابك، بل مع ما يجعل غيابك أكثر تجاوزاً، مع ذلك الأثر السحري والوجودي الذي سيخلقه. هذه الفكرة الغارقة في الرومنسية الوجودية هي الأكثر إثارة ربما بالنسبة لي، إنها المرادف المعنوي والنفسي والفلسفي للخلود ذاته.

womentalalqasem

About طلال قاسم

طلال قاسم، كاتب وروائي وباحث عربي من اليمن تحديداً، ينشد الحرية والسماء الواسعة للفكر الحر للإنسان بشكل عام وللإنسان العربي بشكل خاص.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.