العراقي حي ما خلصان ..ميت ما خلصان

محمد الرديني

عجيب امر العراقي ما يخلص من القهر والضيم حتى في موته.
تعالوا نشوف كم تكلفة ميتة العراقي وكم يكلف وهو حي.
يوجد عادة في الشركات التجارية الكبرى قسم حيوي جدا يطلق عليه “خدمة ما بعد البيع” وهو كما تعرفون يتولى الاهتمام بالسلعة المباعة ان في صيانتها الدورية او تبديلها في حالة وجود خلل فني فيها او” هسه انتو تعرفون كل هذا ليش جاي اتفلسف برأسكم”.
ولكن خدمات “الدفانة” في العراق تنتهي حالما يوضع الميت داخل قبره المظلم.
والدفانة اجلكم الله اخطبوط ممتد بمباركة المرجعيات واعضاء مجالس المحافظات وشركات رجال الدين التي لا تعد ولا تحصى.
سيقول احدكم لماذا المرجعيات؟ يعني انت ما عندك شغل ولا عمل بس اتجيب طاري المرجعيات بالشين؟.
نعم ايها الاخوة.. المرجعيات التي تعرف ان العراقي حين يموت يكلف اهله مابين 4-5 ملايين دينار.. صحيح ان هذا المبلغ “مصروف” جيب لاولاد المنطقة الخضراء لأسبوع واحد ولكن ملايين العراقيين من الفقراء لا يستطيعون ابدا توفير هذا المبلغ في الوقت المناسب.. فهل تعجز هذه المرجعيات التي اتخمت بالخمس والسدس والسبع عدا اموال الزكاة والنذور التي ترفع برافعات “مكيسة” أي باكياس من المزارات المقدسة من تقديم العون لهؤلاء ام ان الامر لايقع داخل اختصاص شرعتهم؟.
ارض الله لله فقط ولكنهم جعلوها “طابو” لهم حين يبيعوها كما يحلو لهم وبسعر السوق.
ان شركات الدفن ليست بمعزل عن “اللفط” والنهب ولا بمعزل عن دور صغار المرجعيات فيها.
ومادامت التفجيرات على قدم ورجل.. ومادامت ارض العراق تستقبل كل يوم عشرات القتلي ان كان في كواتم الصوت او السيارات المفخخة والعبوات “النافسة”.. اقول مادام الامر كذلك فلابد من وجود شركات شرعية وبمباركة هذه المرجعيات من ممارسة النشاط الدفني وبالسعر المحدد.
احد التنابلة اقترح ان نعيد الحياة الى تجربة المقابر الجماعية حتى “نخلص” من ديون الدفن.
هذا التنبل استشهد اخوه في الاسبوع الماضي فاقترض من احد معارفه 5 ملايين دينار ليودع شهيده الوداع الملائم.. وذاك استشهد ابوه فلم يجد بدا من الاقتراض من البنك وبفوائد ألله وحده يعرف كم هي..اما الذي لايملك شروى نقير فقد تبرع له اصحاب الخير بتكاليف دفن قريبه.
شركات دفن الموتى لاعلاقة لها بخدمة ما بعد البيع وليست مسؤولة امام الله ونبيه وآل بيته عما يحصل بعد ذلك.. المهم قبض المعلوم وليذهب المتوفي الى مثواه الاخير حيث الحساب والكتاب من عند رب العالمين.
الحكومة التي تنام على اكثر من 120 مليار دولار سنويا، والتي عقدت الدهشة لسانها وسال لعابها لهذا الرقم الفلكي بحيث باتت عاجزة عن معرفة منافذ صرفها، حتى انها استعانت بعدد من الخبراء في جزر تاهيتي ليساعدوها على حل هذه المشكلة.
هذه الحكومة ظلت حتى كتابة هذه السطور عاجزة عن النظر في رواتب المتقاعدين فكيف لها ان تظر في امر الموتى وهي التي ركضت بل وتسابقت مع البرطمان في اقرار منح المخصصات المالية وغير المالية لمن يهمه الامر والكل يعرف ذلك.
وفي العراق العظيم نجد ان الميتات انواع وصدق من قال”ان لم تمت بالسيف مت بغيره”.
هناك تفاصيل قد تكون “سخيفة” وياما السخف بعون الله مفيد في هذه الايام.
فحين يموت شيخ العشيرة فيجب ان يودع باطلاق الرصاص من مختلف الاسلحة الاوتوماتيكية وغير الاتوماتيكية ولا يهم ان تذهب رصاصة طائشة الى رأس احدهم او عينه و”تفقسها”.
وينقلب المأتم الى مباراة لأستعراض ما بالحزام من ذخيرة حتى ان بعض المتبارين لايعرفون من هو الميت وكيف مات، فقط انهم سمعوا بوفاة احد شيوخ عشيرة “علان” وعليهم واجب الاستعراض فقط وهذا يومهم.
وهذا ماحدث امس في مدينة الصدر، الثورة سابقا ثم مدينة صدام لاحقا،حين اثار وفاة شيخ احد العشائر بمنطقة الداخل في مدينة الصدر شرقي بغداد الى مصدر رعب وخوف لاهالي المنطقة .
وذكر شهود عيان ” ان مجلس العزاء الذي اقيم على روح احد شيوخ الافخاذ باحد العشائر،شنو افخاذ يابه، تحول الى مصدر قلق وخوف ورعب للبيوت القريبة منه بفضل العراضة واطلاق النار المتواصل الذي لم يهدأ طيلة ايام العزاء الثلاثة التي انتهت امس “.
واضافوا ” ان اطلاق النار بدأ بالاسلحة الخفيفة في باديء الامر لكن قوة من الجيش المكلفة بحماية المجلس هي من فتحت الباب حين قامت باطلاق النار من الرشاش الموجود اعلى الهمر “.
حلو ..لا والله ربحنه.
واضافوا ” ان العشائر المعزية تمادت حتى وصل الامر الى اطلاق النار بواسطة اسلحة الـ[بي كي سي ] ويقابلهم جندي الهمر لتكون جبهة دون التفكير اين يسقط هذا الرصاص في هذه المدينة المكتظة بالسكان “.
واشار الشهود الى ان ” اللامبالاة من قبل المعزين ازعجت اهالي المدينة بالاضافة الى الموقف اللامسؤول من قبل الجيش العراقي الذي كان من واجبه ايقاف هذه الظاهرة حفاظا على ارواح المواطنين في هذه المدينة “.
هذا عيني شيخ فخذ بالعشيرة!
ولكن اذا توفي احد اولاد الملحة فاقاربه يبحثون عن سائق تاكسي شريف يتبرع بتوصيله معهم الى النجف او كربلاء مجانا او بسعر معقول وهناك تبدأ دورة البحث عن الدفان الذي يعلن ويقسم ان اسعاره منافسة و”شرط السكين”.. ولابد بعد ذلك من اقامة مجلس العزاء واستقبال الاهل والاقارب وما يلحقه من تفاصيل الضيافة التي يظل قريب المتوفي يدفع ضريبتها سنوات طويلة.
ولا تسأل عن مراسم دفن وفاة احد اعضاء البرطمان او القريب جدا من الحكومة المظفرة اذ سرعان ما تفتح خزائن كنز سليمان ويقف سائقوا سيارات موديل 20014 على اهبة الاستعداد لمرافقة الميت الى مثواه الاخير عارفين انه حتى الرب حين يرى هذا المشهد الطابوري سيرق قلبه ويسامحه عن المليارات التي سرقها من افواه الاطفال وآخرهم فطومة.
ولا تسألوني حين يتوفى احد قادة الكتل السياسية لسبب بسيط هو ان هؤلاء القادة يموتون بالسر خوفا من الشماتة بحيث يروحون الى بارئهم عبر الابواب السرية التي تدربوا عليها بمعونة الشيطان الاكبر باعتبارهم من المستضعفين في الارض.
فاصل هادىء جدا: في أي دولة من دول العالم يجكم فيها بالاعدام على احد المواطنين وتستمر الدولة في صرف راتبه؟ هل تعرفون الجواب بدون الاستعانة بصديق؟.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.