الطبقة الوسطى: الثورة و الحكم و شرعة الفساد ..1

يكثر هذه الأيام الكلام عن مفاهيم الثورة و ادارة الدولة او الحكم و انتشار الفساد … في هذه السلسلة من المقالات نحاول ان نناقش هذه المفاهيم و علاقتها الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية … و نبدأ من مفهوم الفساد الذي زاد الحديث عنه ليس فقط في المجتمعات العربية و الفقيرة عموما و إنما ايضا في المجتمعات الغنية التي تحكمها نظم مؤسساتية “متماسكة”..

اشكالية انتشار الفساد في المجتمعات ظاهرة تاريخية تتوسع و تضيق وفق اليات المناخ العام في العلاقة بين القيم الاخلاقية و الواقع اليومي للفرد و الجماعات … وفِي الدولة الحديثة فان العامل الاكثر تأثيرا هو العلاقة التفاعلية بين الدولة و المجتمع… و رغم ان الحماس الذي يبديه بعض الباحثين لهذه النظرية او تلك الاطروحة الا انه ليس من اليسير ابدا تحديد المسؤول المباشر عن انتشار الفساد .. هل هو النخبة الحاكمة ام المجتمع أوشيء اخر ؟؟.

اعتقد ان الملاحظة الاولى في هذه الاشكالية هي استحالة وضع حدود قسرية بين النخبة و المجتمع بشكل قاطع… رغم طروحات الطبقية و خاصة التركيز على البعد الاقتصادي في الحدود بين الطبقة الأرستقراطية القديمة و بين عامة الشعب .. و مثيلات العلاقة الطبقية بين النخب السلطوية المهيمنة … السياسية و الدينية و القبلية و غيرها… الا ان هناك دائما مساحة تتوسع و تضيق في ترابط المصالح و التواصل التفاعلي بين أفراد و جماعات من هذه الطبقة او تلك… و لعل هذه المساحة هي التي تمثل الحاضنة الاكثر اهمية في انتشار الفساد و تطوير آلياته اكثر مما يحدث داخل كل من هذه الطبقات … و ربما ايضا اكثر من العلاقة القسرية المباشرة بين الطبقة العليا او المهيمنة و الطبقة الفقيرة التابعة و المغلوبة على امرها..

ثانيا… بناء على هذا المنطلق النظري فان وجود ما سمي لاحقا تاريخيا بالطبقة الوسطى .. هي نمذجة هذه المساحة من التفاعل في علاقات الفساد و تأصيلها و منحها شرعة اجتماعية و اقتصادية و سياسية …

الطبقة الوسطى هي في كثير من الاحوال المجال الحيوي لعقد الصفقات و بناء شبكات المصالح و تمرير خطط الهيمنة دون ان تضطر الطبقة العليا في إظهار قوتها المباشرة و مدى هيمنتها الواقعية .. و في المقابل فان وجود الطبقة الوسطى و تفاعلها يقصي حق الفقراء في الوقوف المباشر ضد مصالح الطبقة العليا المهيمنة…

الطبقة الوسطى تمثل إذن بشكل ما الحالة التجارية او سيولة السوق التي يلتقي فيها الغني و الفقير و هذا ما يفسر لنا مفهوم اليات السوق التي بنت عليها الإمبراطوريات الحديثة اسس هيمنتها خاصة في العقود الاخيرة في ظل العولمة…

لكن لو عدنا الى الوراء فإننا نرى بوضوح ان ظهور الطبقة الوسطى … او المطالبة بإيجادها و دعمها … كان من احد مظاهر بناء الدولة الحديثة في اوروبا و من ثم اصبح ايضا احد اهم الأعمدة السياسية في التغيير المجتمعي في فترة تراجع الاستعمار القديم و بناء الدولة القومية او الوطنية في المستعمرات القديمة و منها افريقيا و العالم العربي ..

و قد تم فعلا بناء اليات و اسس شيء هلامي يسمى الطبقة الوسطى… لكن هذه الطبقة لم تنجح ابدا في تحرير الانسان من الفقر و علاقات الهيمنة الداخلية و لا استطاعت تحقيق اية درجة فعلية في بناء صرح الاستقلال او السيادة للبلدان الحديثة التي نادت بها كل الأنظمة بغض النظر عن طبيعتها … جمهورية او ملكية .. تقدمية او رجعية… دينية او ليبرالية.. او دكتاتورية او ديمقراطية مدنية… الخ من التسميات و الايديولوجيات التي خدمت و شرعنت علاقات الهيمنة و القضاء و الانسلاخ المنهجي عن الإحساس ببؤس الفقر و الانحدار المتسارع نحو دائرة الفساد…

فالواقع الاستعماري ظل جاثما و ان تغيرت حالته في مراحل تاريخية متسارعة التغيير … .و الدولة و مؤسساتها و النظم الحاكمة اصبحت بشكل ما بؤراً للفساد المستدام و ترسيخ آليات الظلم الاجتماعي التاريخي ضد الفقراء…. هذه الملاحظة تقودنا الى دراسة علاقة الطبقة الوسطى بالدولة و النخبة الحاكمة و طبيعة الفساد… و هذا سيكون موضوع المقالة القادمة … حبي للجميع

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.