الشيخ محمّد وظاهرة اللسان الداشر!!- 7

نحن نعيش في زمن لم يعد فيه من الثوابت إلاّ التغيير نفسه!

في هذا الزمن وجد الرجل المسلم بثوابته، وجد نفسه بين كفيّ كمّاشة، ولم يبق من عمره سوى ثوان معدوادت كي يختار بين أن يتحرك، أو أن يواجه حكما بالفناء!

في هذا الزمن لم يعد بإمكان أبي هريرة أن يكون سيّد القرار!

لقد فسدت بضاعته، ولم يعد بإمكانها أن تنافس بضائع اليوم!

الأفكار القديمة لاتستطيع أن تقودنا إلى أوضاع جديدة.

السير باتجاه وضع جديد أكثر أمانا من البقاء في وضع قديم. إذا تجمّد الإنسان ورفض أن يتفاعل مع التجديد ستتحكّم به كمّاشة التغيير، تلك الكمّاشة التي تحيل كلّ جامد يقع بين فكيّها عصفا مأكولا!!

يؤكّد علم السلوك: أنّ السلوك البشري، في أغلبه، عبارة عن عادات متأصّلة ترسّخت مع الزمن وصارت تتمّ بطريقة اتوماتيكيّة تقاوم التغيير.

الإنسان بطبعه يشعر بعدم الراحة عندما يجد نفسه في وسط يختلف عن الوسط المألوف. هذا الشعور يدفعه للتمسك بثوابته ورفض كلّ جديد!

السكون إلى الوضع المألوف قد يعطي إحساسا كاذبا بالأمان، ولكنّه يلغي كل فرصة للتحسين!

لقد وقعنا كمسلمين في تلك المصيدة! مصيدة العيش في الماضي الغابر الذي لن يعود!

لقد منحنا الوقوع فيها إحساسا كاذبا بأننا في مأمن من رياح التغيير، ذلك الإحساس الذي فوّت، ويفوّت علينا دائما، إمكانية السير نحو مستقبل أفضل.

ويتابع علم السلوك: كي يسير الإنسان باتجاه الأفضل عليه أن يتجاوز أتوماتيكيّة التكرار في سلوكه، وأن يصبح هذا السلوك خيارا شخصيا يتخذه بكامل وعيه، دون أن يكرره بلا أدنى تفكير.

متى يصبح السلوك البشري خيارا شخصيا؟!

عندما يرتقي الإنسان بمستوى وعيه إلى الحد الذي يدرك عنده أن وضعه بحاجة إلى تغيير، وعندما يقبل أن يكون هو سيّد التغيير!

يترافق التغيير دائما مع الشعور بالخوف والقلق، الخوف من الجديد. ويتفاقم هذا الشعور كلّما ضعفت ثقة الإنسان بنفسه.

كلّما ازدادت ثقة الإنسان بنفسه كلّما ازدادت رغبته في اتخاذ مواقف جديدة.

كلّ موقف جديد هو مواجهة جديدة، وكلّ مواجهة جديدة هي عبارة عن تحدّ جديد!

ولكي يواجه الإنسان أيّ تحدّ عليه أن يتسلح بالمهارت اللازمة للمواجهة.

تسلحنا بالمهارات اللازمة لمواجهة التحديّات التي تفرضها رياح التغيير ترفع من ثقتنا بنفسنا، وبالتالي تزيد من فرص انتقالنا من اتوماتكيّة التكرار إلى حسن الخيار!

عندما نتجاوز اتوماتيكيّة السلوك التي فرضتها مصيدة الوقوع في الماضي، سيعيد الطبيب المسلم النظر في رأيه عندما يُسأل عن فوائد الصيام.

فبدلا من أن يكرّر كالببّغاء: عن أبي امامة عن حصين بن محصن عن قيس بن سعد عن أبي عيّاش عن عبد الله بن عمرو عن جابر بن سمرة عن أبي عمر عن أبي سعد الخدريّ عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صوموا تصحوا!.. .. سيختار ماجاء في كتبه الطبيّة، فيقول: أفضل الأنظمة الغذائيّة تلك التي تعتمد نظام الوجبات اليوميّة الخمس، ثلاث وجبات رئيسيّة واثنتان خفيفتان تنظمان الزمن الفاصل بينهما.

وعندما يتسلّح الشيخ محمّد بمهارات جديدة ـ كأن يتعلّم أدب الحوارـ مهارات تؤهله لمواجهة تحديّاتي، سترتفع ثقته بنفسه إلى الحد الذي يسمح له أن يعيد النظر في لسانه الداشر، ذلك اللسان الذي لم يستطع أن يجد تفسيرا لاختلافي معه سوى اتهامه لي بأنني “محتضنة” من قبل أعداء العرب والمسلمين.

عند تلك النقطة، وعندها فقط، سيكون قادرا على أن يقرأني ويحاورني دون اتهامات، وقد يقودنا هذا الحوار إلى وضع جديد!

*************

لم يكن الشيخ محمّد الوحيد الذي أمطرني بوابل اتهاماته، ولم أكن الوحيدة التي نالها ما نالها من تلك الإتهامات. فلقد جرت العادة المتأصلة في سلوك المسلم أن يتّهم كلّ من يخالفه بالخيانة أو الكفر!

مواجهته لتحديّات الذين يختلفون معه تتمّ بطريقة اتوماتيكيّة، طريقة فرضتها مصيدة الوقوع في الماضي، تلك المصيدة التي برمجت سلوكه وعلمته أن يواجه المتحديّن له عن طريق تكفيرهم وتخوينهم!

في عالم اليوم، المهارات الوحيدة التي تسمح للإنسان أن يواجه تحديّات العصر بنجاح، هي مهارات الحوار.

متى نستطيع أن نعلّم الشيخ محمّد فن الحوار ونقوده بسلام إلى طاولته؟!

نستطيع أن نفعل ذلك عندما نحرره من اتوماتكيّة السلوك ونرتقي به إلى مستوى التفكير!

عندما هاجرت إلى أمريكا لم أكن أقلّ شكا وريبة في الآخرين ممّا هو عليه اليوم الشيخ محمّد، فأنا لا أستطيع أن أنكر أنّ كلانا قد جاء من نفس الحيّ ونهل من نفس البئر.

المهارات التي اكتسبتها في أمريكا ساعدتني على أن أتجاوز الآلية الأتوماتكيّة التي اعتدت أن أقيّم بها الآخرين، ورفعت مستوى وعيي إلى الحدّ الذي ساعدني أن أعيد النظر في ثوابتي وأقرر التغيير!

ربطت لساني بدماغي وفتحت في جمجمتي نافذة بعرض هذا الدماغ.

صار سلوكي خياراً أتخذه كلّ يوم بوعي وتفكير، وليس مجرّد عادة وجدت آبائي عليها عاكفين!

*************

عندما هاجرت إلى أمريكا، سكنت في بيت مجاور لعائلة أمريكيّة من العرق الأبيض.

أحد الأيام تقدّم مني جاري مصافحا ومعرفا بنفسه. سألني عن اسمي، ولم يكد ينهي سؤاله عن بلدي حتى كدت أبلل ثيابي!

تضاعف خوفي منه عندما أعلمني أنّه رجل بوليس، مضى على خدمته في سلك الشرطة ثلاثون عاما وسيستقيل العام المقبل.

صرت أفسّر كلّ حركة من حركاته وحركات زوجته وأولاده على أنها تهدف لمراقبتي ومراقبة أفراد اسرتي، وتولّدت لديّ قناعة مطلقة على أنّه يكتب تقريرا مفصّلا عن حياتي يسلّمه كلّ يوم للـ إف بي آي!

تنغّصت حياتي بجواره فبدأت البحث عن بيت آخر! وإذ بي أفاجأ به ذات يوم يطرق بابي:

ـ أسعدت صباحا ياجارتي العزيزة! أريد منك خدمة وأشكرك سلفا عليها. هل تستطيعين أن تقومي بالتحدّث إلى عامل الحديقة وتبلغيه بعض الإرشادات فإنكليزيّته محدودة وأنا لا أتكلّم الإسبانيّة!

ورددت بسرعة: وأنا لا أتكلّمها أيضا!

تحجّرت عيناه في مقلتيه: ألست من أمريكا الجنوبيّة؟!

تنفست الصعداء: بل أنا من سوريّا!

ـ أنا آسف! معلوماتي الجغرافيّة ضحلة للغاية! لقد ظننت أن سوريّا في أمريكا الجنوبيّة وبأنّك تتكلّمين الإسبانيّة!

الغالبيّة الساحقة من الشعب الأمريكي، إن لم أقل كلّه، لاتعرف أين تقع سوريّا على خارطة الكون، ناهيك عن فلسطين!

لكنّ صديقتي أمّ عمر ما زالت مصرّة على أن مدير المدرسة التي تشتغل فيها قد تخلّص من خدمتها عندما اكتشف أنّها فلسطينيّة الأصل!

قبيل عيد الشكر بيوم واحد دخلت أمّ عمر بيتي كي تسلّم عليّ، فوجدتني أحضّر الديك الرومي كوليمة لهذا العيد، نظرت اليّ مستغربة: لقد أفرطت في غسله!!

ـ أنت على حقّ، ولكنني قرأت مقالا البارحة في جريدة لوس أنجلوس تايمز يحذّر الناس من جرثومة الإيشريشيا التي تسبب عادة أمراض قاتلة قبيل هذا العيد. هذه الجرثومة تنمو بسرعة على اللحوم المثلّجة أثناء تذويبها وعلينا أن نتخّذ اجراءات النظافة المطلوبة.

وتردّ أم عمر، وهي سيّدة حاملة ماجستير في التعليم من جامعة أمريكيّة: خففي من قلقك! هذه الإجراءات لهم وليست لنا، فهم شعب لايعرف الطهارة من النجاسة!

وأتساءل: عجبا! هل طردها المدير لأنّها فعلا فلسطينيّة، أم لأنها تقيّم شعبا بكامله من خلال منظار أضيق من فتحة أنفها؟!!!

الشعب الأمريكي المهووس بنظافته حتّى الجنون لايعرف الطهارة من النجاسة!! يعرفها المسلمون في أحياء غزّة وأزقة القاهرة ودهاليز بنغلاديش والباكستان وسراديب الصومال حيث لاتستطيع أن تتبين ملامح وجه طفل رضيع من كثرة الذباب الذي يغفّ عليه!

سيّدة حاملة ماجستير في التعليم لا تستطيع أن تميّز بين نظافة محلات رالفس وسميث وألبرتسون وبين الصينيّة التي يحملها بائع الحلوى أمام أيّة مدرسة في عالمنا العربي أو الإسلامي!!

سيّدة حاملة ماجستير في التعليم تدفعها اتوماتيكيّة سلوكها إلى تقييم الآخرين وفق مقياس متحجّر ورثته بالتواتر دون أدنى تفكير!

المسلمون وحدهم يعرفون الطهارة من النجاسة، حتّى ولو شمّر الواحد منهم دشداشته وشخّ في مياه النيل!

مسح الرقبة أثناء الوضوء باليدين المبللّتين بالماء يكفي لتطهيرها وقتل كلّ جراثيم الإشريشيا التي تعشعش عليها.

فما بالك بمسح الديك الرومي بتلك اليدين الطاهرتين؟!!

تقول الدراسات في علم السلوك بأنّ الإنسان لايستطيع أن يكون داخل حمّام بيته مختلفا كثيرا عنه عندما يكون على قمّة عمله في أرقى المستويات الوظيفيّة أو الإجتماعيّة!

فالإنسان أينما تواجد يكون عموما نفسه!

إذاً هل تستطيع السيّدة أم عمر أن تكبح جماح جهلها، وتسلك في مدرستها سلوكا مغايرا عن السلوك التي تسلكه داخل مطبخ صديقتها؟!!

هل تستطيع أن ترفع مستوى وعيها في عملها، لتتجنّب الآلية الأتوماتيكيّة التي تقيّم بها شعبا بكامله أمام صديقة ترتاح لها؟!!

لاأعتقد، فالإنسان نفسه مهما حاول أن يلّمع تلك النفس ويخفي حقيقة لونها!

قد يحاول ولكن لابدّ من زلة لسان تكشف يوما حقيقته!

إذاً يطرح السؤال نفسه: لماذا طرد مدير المدرسة السيّدة أم عمر؟! هل لأنه اكتشف أنّها فلسطينيّة، أم لأنها عبّرت بطريقة اتوماتيكيّة، متأصّلة في سلوكها، عن رأيها بقضيّة ما دون أن تعير المنطق والفكر أيّ انتباه؟!!

توارثنا طريقة تقييمنا للآخر كما ورثنا لون جلدنا وشكل عيوننا وطول قاماتنا. تبرمج عقل المسلم ونمط تفكيره بطريقة تناسب عقيدته، تلك العقيدة التي ترفض الآخر وتلغي وجوده وتكفّر من يتعامل معه!

يقفز المسلم، عندما يواجه الآخر، إلى الاستنتاج بأن هذا الآخر أدنى من مقياسه بكثير، وهو عندما يفعل ذلك يلغي كلّ فرصة قد تجبره للتعامل معه، ويحمي نفسه من أن يتهم بالخيانة أو الكفر!

عندما تدخل أمّ عمر قسم بيع اللحوم في أيّ محل تجاري هنا في أمريكا، يختلط عليها الأمر فتظنّ نفسها في محل لبيع الزهور، لكنّها تصر على أن تكذّب عينيها، فهم لايعرفون الطهارة من النجاسة!

وإذ كتبت لها الصدفة، أن تمرّ من جانب أيّ جامع في مدننا وقرانا الإسلاميّة ستقتلها رائحة مراحيضه، لكنّها ستصرّ على أن تكذّب انفها. فالمصلّون فيه، وحدهم، يعرفون الطهارة من النجاسة!

*************

لقد غيّرتني أمريكا، وأنا مدينة لها بهذا التغيير!

غيّرتني نحو الأفضل، رفعت ثقتي بنفسي عندما سلّحتني بالمهارات اللازمة لمواجهة أيّ تحد يفرضه التغيير.

لم أعد رهينة وضعٍ يفرض عليّ أن أفكر وأسلك واتكلّم بطريقة اتوماتيكيّة مبرمجة تفتقر إلى الوعي والتفكير.

حذفتُ من قاموسي طقوس الوضوء، لأنني اكتشفت أن جراثيم الإشريشيا لاتموت بالمسح، ونحتاج في مكافحتها لطرق التعقيم! واكتشفت أن ملايين الأطفال في بلادي تموت من الإصابة بالجراثيم رغم الإلتزام الاتوماتيكي بفريضة الوضوء!!

لقد تغيّرت، والسؤال: كيف استطيع أن أقنع صديقتي أمّ عمر بضرورة التغيير؟!

لقد تجاوزت ماض مقيت، ماض يضرّ الإلتزام به ولا ينفع. لقد تجاوزته إلى حاضر أفضل، أفضل لي ولعائلتي ولكلّ قرائي.

والسؤال: كيف أستطيع أن أقنع أمّ عمر على أن تتجاوز هي الأخرى السكون إلى هذا الماضي المقيت؟!

يتبع لاحقا!وفاء سلطان (مفكر حر)؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.