السوريّون في ظل الأنظمة الأمنية

فايز سارة
كاتب وصحافيّ سوريّ
عاش السوريون أكثر من خمسين عاماً في ظل نظام أمني عميق. ولم يكن سوري واحد بمن فيهم أكبر المسؤولين خارجه، وليس له ملف أمني، تكتب فيه سيئاته قبل حسناته، وتسجل فيه كل حركاته واتصالاته بما فيها حماقاته، إضافة إلى مواقفه وتصريحاته، كما يكتب فيه أسماء أقاربه من الأصول إلى الفروع، وتضاف أسماء بعض الأصدقاء والصديقات. وباختصار، كان الملف الأمني لكل سوري، كما يقول السوريون، يشبه «جراب الحاوي»، يحوي كل شيء، وكل ما يمكن جمعه من معلومات عن صاحب العلاقة.

ونظراً إلى تعدد الأجهزة الأمنية وتنوعها بين الأمن السياسي والجنائي والعسكري والجوي والمخابرات العامة، وصولاً إلى مكتب الأمن في رئاسة الجمهورية، فقد اعتاد كل جهاز أن يضع ملفاته بصورة مستقلة عن ملفات الأجهزة الأخرى، تمييزاً لاستقلاليته، وإبرازاً لعمله ومعلوماته في خدمة النظام، وهكذا صار للسوريين ملفات في أغلب الأجهزة، إن لم نقل كلها، وكانت معاملات السوريين في العمل والسفر، وحتى الزواج وغيرها تتطلب موافقة أكثر من جهاز في غالب الأحوال، تعبيراً عن السلطة الأمنية العميقة لنظام الأسد، الذي كان يرسم سياساته، وينسق جهود أجهزته بصورة مركزية على أعلى مستوى في السلطة.
ومما لا شك فيه، أن وجود وممارسات النظام الأمني حيال السوريين، وتدخله في حياتهم، وصياغتها بما يخدم النظام واستمرار بقائه، كانت بين أسباب ثورتهم عليه، وكان شعار الحرية أبرز شعارات الثورة بما يعنيه من ضرورة الانعتاق من سلطة أجهزة تغولت على حقوقهم وحياتهم وأجبرتهم على العيش وفق أنماط وأساليب وقيم لا تتناسب وأدنى معايير الحياة الإنسانية المعاصرة.


ورغم التحفظات الإقليمية والدولية، التي أحاطت بثورة السوريين لأسباب متعددة ومعقدة، فإن الثورة باعتبارها فعلاً سياسياً مناهضاً للاستبداد والديكتاتورية والنظام الأمني العميق، حازت تأييداً عالمياً واسعاً في العامين الأولين، كان بين تعبيراته اعتراف إقليمي ودولي بتمثيلاتها السياسية، وتقديم مساعدات مختلفة للسوريين، وتعاطف مع موجات اللاجئين الهاربين من جحيم القتل والدمار.
غير أن تطورات سلبية، أحاطت بالثورة، لم تكن معزولة عن سياسات نظام الأسد وحلفائه، ولا عن تدخلات إقليمية ودولية، كانت تصنف نفسها «داعمة للثورة»، سعت إلى عسكرة الثورة وأسلمتها وتطييفها، بحيث تم استغلالها حاضنة لجماعات التطرف والإرهاب من «جبهة النصرة» إلى «داعش» وغيرهما، وتسلل أعضاء منها بين أوساط اللاجئين والمهاجرين إلى دول الجوار والأبعد منها، مما دفع دولاً كثيرة إلى استخدام ذلك حجةً في تحويل ملف الثورة السورية من ملف سياسي إلى ملف أمني، بحيث انتقلت متابعته من الجهات السياسية والدبلوماسية إلى الجهات الأمنية وأجهزة المخابرات في دول الجوار السوري وغيرها، وهكذا تحول السوريون بمن فيهم قياداتهم السياسية المعارضة إلى أسماء وأرقام في الملفات الأمنية الإقليمية والدولية، وصارت متابعتهم مسؤولية مباشرة لأجهزة المخابرات لتجمع عنهم كل المعلومات الممكنة على نحو ما كان يفعل نظام الأسد، لكن بطريقة عصرية، وأكثر تنظيماً وجدوى، وسرعان ما صارت معلومات وتقارير أجهزة المخابرات في مختلف الدول مصدر معلومات ومواقف القادة من السياسيين والمعارضين في اجتماعاتهم مع الشخصيات السياسية والقيادات الأمنية في تلك الدول، وبذلك نزعت الصفة السياسية للقضية السورية، ومما فاقم هذا الوضع تدخل الأجهزة الأمنية والاستخبارية للدول في شؤون وسياسات الجماعات المسلحة للمعارضة، وإخضاع الأخيرة لشروط الأولى في كل خطوة تقوم بها أو تعتزم القيام بها.
إن الآثار الأهم في تحول القضية السورية إلى قضية أمنية بالنسبة إلى دول الجوار والأبعد منها، هو انعكاسها على أشكال التعامل مع السوريين، خصوصاً في ظل أمرين اثنين، أولهما ظاهرة اللجوء والهجرة، والثاني ظاهرة الإرهاب، وكلاهما صار خاضعاً لمتابعة الأجهزة الأمنية والاستخبارية رغم ما بينهما من اختلافات، مما ضيّق على السوريين في نيل ما هو حق طبيعي يقرّه القانون الدولي مثل اللجوء إلى البلدان المختلفة، طلباً للحماية من القتل والاعتقال والملاحقة، حيث أغلقت أغلب دول العالم أبوابها في وجه السوريين، وأخضعت المقيمين فيها للمتابعة الأمنية الشديدة في كل القضايا بما فيها حق الإقامة ولمّ شمل العائلات والتنقل والعمل والسكن والحصول على المساعدات الإنسانية.
وقد أضاف هذا التحول أعباء جديدة على السوريين، وخلق صعوبات متزايدة تضاف إلى صعوبات ما خلفته حرب نظام الأسد وحلفائه عليهم من خسائر وترديات، وصلت إلى حد الكارثة، وبات التحرك في مواجهة هذا التحول أمراً ضرورياً، ليس من جانب السوريين وحدهم، إنما من جانب المنظمات الدولية والإنسانية خصوصاً المعنية بحقوق الإنسان وقضايا اللاجئين والمهاجرين، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني والإعلام، ليس من أجل وقف تدهور وتردي أوضاع السوريين فقط، وإنما للحفاظ على حقوق إنسانية كرسها القانون الدولي طوال عقود مضت، يجري انتهاكها أو منع تطبيقها تحت حجج وادعاءات، لا تستند إلى حقائق وإثباتات في أغلب الأحيان.

المصدر الشرق الأوسط

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.