الراعي الكذاب

كان فلان الفلاني يقف على باب المؤسسة الاستهلاكية ينتظر دوره ليلتقط كيسا من البندورة لو شاء القدر وابتسم له، وكان ذلك في منتصف الثمانينيات. بعد انتظار دام ساعتين حصل على كيس فيه مايشبه اقراص البندورة المهروسة تسبح في سائل شاحب مصفر لم يستطع أن يواجه احباطه فرمى بكيس البندورة على الأرض وراح يدوسه بقدميه، وهو يصيح:
بالدم ….بالروح…نفديك يا حافظ!!!
ذاك المساء اقتادته زبانية “القائد” من غرفة نومه إلى أحد الأقبية المظلمة في مبنى للمخابرات السورية، ولم يعد!
……………………..
فلانة كانت معلمة ابتدائي، وكنت أعرفها عن كثب. أحد الأيام دفعها، ربما احباطها وثقتها العمياء ببعض زميلاتها، إلى
أن روت نكتة تناولت بها سيادة “القائد”. في نفس القبو حلقوا لها شعرها ـ عا الصفرـ وأذاقوها مر العذاب،ثم عادوا بها إلى بيتها وأجبروها على أن تلتحق بالمدرسة في اليوم التالي وبرأسها الأصلع دون أدنى مراعاة لمشاعرها ومشاعر طلابها!
……
أبو سنان كان جارنا، وكان جارا هادئا ودمث الأخلاق. قادوه تحت جنح الليل وأخته من بيته إلى ذلك القبو المظلم،
ليس إلا بتهمة انتمائه لرابطة العمل الموحد. لا تسألوني، فأنا لا أعرف عن تلك الرابطة إلا اسمها!
زرته في بيته بعد عدة أيام من اطلاق سراحه وبعد مكوثه أشهرا في المعتقل. كانت قدماه متورمتين وبحجم بطيختين من القياس الكبير، ومع هذا لم يكن قد آلمه الضرب المبرح بقدر ما آلمه أنهم كانوا قد عصبوا عينيّ اخته بقطعة قماش، وقادوها إلى غرفته، ثم راحوا يعقصونها من ثدييها وهي تصرخ وتولول أمام ناظريه. لم تكن تعرف أن أخيها يشهد عملية تعذيبها، ولم يشأ هو أن ينبس ببنت شفا كي لا يزيد في عذابها!!
……………..
قريبي أبو يحيى جروه من رقبته وهو يشيع أمه إلى مثواها الأخير, ولم يخرج من ذلك القبو إلا بعد ثمان سنوات عجاف ذاق وعائلته خلالها الامرين. لم يكن هناك أية تهمة موثقة، فقط كنا نسمع وفي كل حالة من الحالات السابقة نفس العبارة: “يهدد” الأمن القومي!!!
….
كل نكتة تتناول سيادة “القائد” تهدد الأمن القومي، وأي انتماء حتى ولو لجماعة لا يتجاوز افرادها الثلاثة ويلتقون ليلعبوا “الطرنيب” كان تهديدا للأمن القومي!! هل هناك سوري على سطح الأرض لا يعرف شخصا آخر قضى ولو ردحة من حياته في ذلك القبو بتهمة تهديد الأمن القومي؟؟؟؟؟
……………..
بالمناسبة: كل الحالات التي ذكرتها سابقا هي لأشخاص من الطائفة العلوية، فالطاغية لا يميز بين سواد عينه وبياضها،
يقلع تلك العين عندما يتوهم أن ما تراه يهدد كرسيه ومنصبه!
……
هذا هو الوطن الذي عشناه في سوريا، والذي صنعه لنا “القائد” في زمن السلم. ولذلك، عجزنا أن نحميه في زمن الحرب!
……………
هل سمعتم بقصة الراعي الذي أراد يوما أن يستهزأ بأهل قريته، فصاح ملئ صوته: اجيروني…اجيروني الثعلب هاجمني!
ركض اهل القرية لحمايته فاكتشفوا أنه كان كذابا. عاد مرة أخرى بعد زمن وصاح نفس الصيحة، فركض أهل القرية لحمايته، واكتشفوا أيضا أن صياحه كان كذبا واستهزاءا بهم. في المرة الثالثة جاء فريق من الثعالب وهاجموا الراعي وقطيعه, صاح وصاح وصاح…… لكن القرية فقدت ثقتها براعيها ولم تأبه لصراخه, فأكلت الثعالب الراعي والقطيع!
…..
على مدى حوالي نصف قرن، حاول الأب والابن وزبانيتهما أن يقنعونا بأن مجرد “نكتة” ترويها سيدة في لحظة احباط “تهدد” الأمن القومي. لذلك، عندما هجمت الثعالب على ذلك “الوطن” الذي حولوه إلى ماخور في قبو مظلم في مبنى للمخابرت،
لم يصدق أحد كذبة “الأمن القومي” وسقط الوطن فريسة للثعالب!!
……………
هذه السياسة التعسفية والإجرامية التي تجاوزت، وما زالت تتجاوز، كل عرف أخلاقي، قضت على قدرة الانسان السوري على التفكير السليم، وسلبته لاحقا كل فرصة ليتعلم أبجدية الفكر النقدي! فإذا كان مجرد “نكتة” تهدد الأمن القومي فما بالك بفكر
يكشف حقيقتهم؟ هم كانوا ـ وبحدسهم ـ يدركون أن السماح لتلك النكتة بأن تمرّ، سيؤدي لاحقا إلى فكر نقدي يكشف المستور ويفضح المطمور. لذلك، قصوا أصابع “القط” منذ ليلة الدخلة، ظنا منهم أنهم في مأمن من مخالبه. دون أن يدروا أن القهر والظلم يُنبت للحمام مخالبا، ويجرد الإنسان من العقل الذي يتحكم بتلك المخالب. وهنا تكمن الكارثة!!
…………..
صديق فيسبوكي من الموالين، لا يملك ذرة واحدة من االقدرة على الفكر النقدي, لأنه تربى ونشا في حضن النظام معصوب العينين ومسلوب الإرداة. كتب تعليقا على إحدى بوستاتي، يحاول من خلاله أن يبرر مسؤولية النظام وجرائمه، يقول فيه:
ألم تسمعي ماقاله وزير الخارجية البريطاني؟؟ لقد قال: (عندما يتهدد الأمن القومي لا وجود للديمقراطية)
يا للعار!!!! كيف فاتتني تلك الحقيقة؟!!! فعلا تجاوز النظام السوري لكل عرف أخلاقي مبرر، نعم مبرر كما هو مبرر تجاوز الحكومة البريطانية للديمقراطية عندما يتهدد الأمن القومي! لكن مع اختلاف بسيط….. بسيط جدا!
الحكومة البريطانية لم تحلق لامرأة راسها، ولم تعقص اخرى من ثدييها بحجة أنهما تهددان الأمن الوطني! بل قدست ومازالت تقدس حرية الرأي وحق الإنسان في التعبير عن مشاعره، وحقه أيضا في قص أصابع كل مسؤول تسول له نفسه أن يتطاول
على أي من حقوقه! الحكومة البريطانية صنعت وطنا حقيقا أثناء السلم، ولذلك تستطيع أن تحميه أثناء الحرب!
لو هي ضحت بالديمقراطية عندما يتعرض الخطر القومي للخطر, حتما سيتفهم الشعب موقفها، بل وسيقدر لها هذا الموقف في سبيل حماية وطن يستحق الدفاع عنه. أما الراعي الكذاب والذي لا يقيم وزنا لأهل قريته، فهو عاجز على أن يبني وطنا حقيقيا، ناهيك عن الدفاع عن هذا الماخور!
………..
أكثم نعيسة (علوي) ناشط حقوقي ومفكر سوري ومدافع عن حقوق الانسان. قضى سنينا طويلة من عمره بلا محاكمة في زنزانة النظام، ذاق خلالها الويلات وخسر عافيته وصحته وانتهى منفيا في بقاع الأرض!
عادل نعيسه (علوي) كان عضوا في القيادة القطرية . قضى ٢٣ سنة في السجن دون محاكمة وخرج أيضا منتهيا نفسيا وعقليا.
مَن مِن جيلي لا يعرف الدكتور عارف دليله (علوي)؟؟؟ الذي كان عالما في الاقتصاد ومحاضرا بارعا؟؟ كنا نتهافت على محاضراته نحن طلاب كلية الطب كما يتهافت عليها طلابه من كلية الاقتصاد. قضى عشر سنوات من حياته في ذلك القبو المظلم، بحجة تهديد الأمن القومي!
مَن مِن جيلي لا يذكر زهير سكرية (مسيحي) الذي اصيب بسكيزوفرينا داخل السجن من شدة التعذيب، وانتحر بعد أن أطلقوا سراحه؟؟!
مَن مِن جيلي لا يذكر وجيه غانم (علوي) الذي كسروا ظهره من شدة الضرب؟؟؟
ومَن مِن جيل اليوم، نعم جيل اليوم، لا يذكر الطفلة طل الملوحي (سنيّة) التي ساقوها أمام ناظري والديها وهي في الرابعة عشر من عمرها بحجة أنها نشرت على الفيس بوك بوستا “يهدد” الأمن القومي؟؟؟ لا أريد أن أفكر باحتمال ماحصل لها داخل ذلك القبو، لأن مجرد التفكير بذلك يُسقمني!!
هؤلاء غيض من فيض….. هؤلاء المفكرين كانوا يهددون الأمن القومي؟؟؟؟ وحده الراعي الكذاب كان حاميا له؟؟؟؟؟؟
*******************
أعزائي وأصدقائي القرّاء: من أعماق قلبي أشكر تجاوبكم مع كتاباتي… يسعدني كل مرور ويشجعني على أن استمر…
كذلك، أشعر اليوم بأن الفكرة لم تكتمل، ولكن لا أحب أن أزيد عليكم.. تابعوني…. أحبكم

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.