الديانة الإيزيدية، بحث في إشكالية طاووس مَلِكْ والشيطان

الأوان:  بقلم: عاصم أمينarto

ماهية الدين:
إن تاريخ الدين الإنساني حافل بالتصورات والأفكار وبالقوى الغيبية المفارقة لعالمنا(ميتافيزيقا) والتي تكمن خلف هذا الوجود وتتحكم بمساره التاريخي الذي نشا نتيجة تأمل الإنسان في تناقضات وظواهر العالم والكون من حوله كالحياة والموت والنور والظلام والخير والشر، الصحة والمرض…الخ.

عالم كامل من التناقضات يفرض نفسه على فكره وذهنه، لا إجابة لها، بيد أنه مع تطور الجنس البشري وتشكل الوعي لديه في جملته العصبية ازداد التفكير والتأمل وأخذت الأنساق الفكرية تتشكل وكانت النتيجة ظهور البذور الأولى للتفكير الأسطوري المجرد لديه (للإنسان) وبازدياد الوعي وتطوره، تقولبت هذه الأساطير في فكرٍ جديد متسق ومنظم يتماشى مع متطلبات الحياة الاجتماعية والروحية والفكرية لهذا الكائن البشري، هذا الفكر الجديد تحول إلى بوتقة صهر لتاريخ الفكر بكامله أنه الدين الوعاء الذي تسكب فيه كل الظواهر والأحداث البشرية والتصورات الواقعية الفيزيقية النسبية التي تفتقر إلى الحقيقة المطلقة،الفكر الذي تحول إلى مفاهيم مجردة او حقائق متعالية ومطلقة لا ينالها أية نقص أو نقد أو شك، يتعاطى مسوغات كالتعجيز والقصور في العقل البشري في تفسير أية ظاهرة مهما كانت نوعها، ومن إدراكه الواقع بكامل ماهيته،ذلك العقل العاجز عن تفسير المشاعر والأحاسيس والدوافع التي تقود الرغبات…الخ.

يعرف ماكس مولر وهو فيلسوف ومؤرخ ألماني الدين بأنه “كدح من اجل تصور مالا يمكن تصوره، وقول ما لايمكن التعبير عنه، أنه التوق إلى اللانهائي”(1).
أما عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم يرى الدين على انه “نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة-متعالية مفارقة-يجري عزلها عن الوسط الدنيوي،وتحاط بشتى أنواع التحريم” (2).

لقد تناول معظم العلوم ظاهرة الدين كالعلوم السيسولوجية والانتربولوجية والفلسفية والسيكولوجية…الخ، وقدم كل علم حسب أدواته ووجهة نظره للدين وكل وجهة نظر تصبّ في خدمة اختصاصه لذلك جاء التعريف غير كامل وغير شاف ونسبيّا لا يخدم سوى منهج وطريق العلم الذي تناوله، كون الدين أولا هو نمط من أنماط التفكر البشري ونشأ للحاجة الروحية والنفسية، وثانيا اختلاف الثقافات والأنماط والتصورات الاجتماعية والفكرية والأخلاقية واختلاف البيئات… لذلك لايمكن الإلمام العلمي الكامل للدين وثالثا ان العلوم الإنسانية هي علوم نسبية بالرغم من أنها تمتلك أدوات وطرائق علمية.

أصول الديانة الإيزيدية:
تذهب المصادر والكتب التاريخية التي تبحث في نشأة الدين الإيزيدي إلى أنها ديانة مغرقة في القدم وهي من بين مجموعة من الديانات الشرقية الهندو إيرانية، التي تسبق الديانات السامية بقرون.

كما أن غالبية معتنقي هذه الديانة ينتمون إلى الشعب الكردي وجذوره الممتدة في أحشاء التاريخ ومنطقة الشرق، حيث يخبرنا الكاتب والباحث الإيزيدي (درويش حسو) أن أصل الإيزيديين يرجع إلى النبي زرادشت، كانوا يسكنون في منطقة اسمها (اليزد) وهي اسم لمنطقة في إيران انتشرت فيها الديانة الزرادشتية وقبل هذا كان اعتقاد الشعوب الآرية في المنطقة بالإله الواحد وهم يسمون أنفسهم بالازداهيين، أي شعب الله وأتباعه المباشرين ومنذ ذلك الوقت يسمون بالعقيدة اليزدانية (الأزداهية)(3).

أما عن سبب هجرة الإيزيديين من منطقتهم (اليزد)فيعود إلى أنهم رحلوا عنها هربا من الضرائب والجزية المفروضة عليهم فقصدوا حلب وسنجار والشيخان وبحيرة وأن و القفقاس، واتخذوا منها مواطن لهم وأطلق على أنفسهم اسم المنطقة التي رحلوا منها “(4).

موقف الإسلام من أتباع هذه الديانة:
أن تاريخ هذه الملة أو الطائفة (الإيزيدية) وما لاحقها من تحريف وتزوير تجعلنا من الصعب التعرف على فلسفتها الروحية الحقيقية الخالصة وصعوبة التعرف على محتوياتها اللاهوتية وطقوسها،كما انه من المؤسف أن أقلام المؤرخين والإخباريين والرواة كتبوا عن هذه الملة… إما بحقد وكراهية وتعصب معاد، أو بإطلاق الأحكام والفتاوى والتأويلات تبعا للعواطف وبناء على ما تواتر وشاع ومنهم من وصف ورسم وتخيل …من أجل التشويق والترغيب”(5).

وبالرغم من سرية هذه الديانة وانتقالها عبر الأجيال شفهياً إلا أنها تطورت كذلك في مناطق واسعة من كردستان على حد تعبير (درويش حسو) وتحوّلت إلى شبه ديانة مستقلة، وقد تعرض أتباع هذه الديانة على الدوام التاريخي إلى شتى أنواع الظلم والاضطهاد من قبل الشعوب والأمم المجاورة لهم وآخرها الإسلام ابتداء من العصر الراشدي وانتهاء بالحكم العثماني الإسلامي، والمعطيات التاريخية المدونة تذكر لنا مصير أتباع هذه الديانة وما لحقها من اضطهاد وقمع طائفي، اذا حاول العقل الإسلام السياسي صهر الإيزيديين في البوتقة الإسلامية وليس فقط الإيزيدية بل كل الأمم والمعتقدات التي كانت تجاورها وتقف في وجهها فالإسلام كدين سياسي كان يهدف إلى سياسة الصهر والعنف ضد الأديان الأخرى التي لم ترفع رايتها… فمن لم يكن مناصرا له كان يعتبر ضدا أو ندا له، وباعتبار الإيزيديين أبو أن ينضووا تحت لواء الإسلام ودافعوا عن معتقداتهم واستقلاليتهم لذلك تم إلصاقهم بكل من خالف الإسلام أو خرج عن طريقهم“(6).

أن القارئ والمطلع على التاريخ الإسلامي مع الإيزيديين لن يغفل عنه أن الغزوات الإسلامية وآخرها الإسلامية التركية قد اتخذت من الدين سياجا إعلاميا ليرتكب أبشع الجرائم والمجازر بحق الإيزيديين كدين وقومية، والتي أدت إلى تشرد شعب وضياع للثقافة والتعاليم الروحية لهذه الديانة واندماجها في معتقدات وثقافات روحية أخرى وإخراجها من مسارها الروحي نافلا على ذلك إحراق كل ما يتعلق بها من كتب ووثائق وآيات ومواعظ من قبل المؤسسات الإسلامية السياسية المتعاقبة وملاحقة شيوخها وقتلهم بتحريض من علماء وفقهاء والأئمة المسلمين وتحت راية الجهاد في سبيل الله.

علاقة الإيزيديين مع بني أمية:
لقد جاءت تسمية الايزيدية بهذا الاسم لاعتقادهم بوجود إله يدعى (يزدان) أو (يزد)” (7)، وهي تعني الله باللغة الكردية، وفي الافستانية فان كلمة (يزت)أو يزد تعني الروح المجردة والطاهرة التي تستحق العبادة وكلمة ( إيزيدي )تعني عابد الله“(8).

لذلك فإنّ الرواية الشائعة التي ترجع أصل الإيزيديين إلى (يزيد بن معاوية) لا صحة لها كون علاقة يزيد مع الايزيديين لم تكن سوى سياسية حاول من خلالها أن يجعلهم درعا في حربه ضد الشيعة في العراق والانتقام لأجداده إذ تولى الخلافة على كراهية الكثير من المسلمين وخصوصا الشيعة منهم”(9).

ونتيجة تعرّض الايزيديين للظلم والاضطهاد من قبل المسلمين اضطروا في عصر الهجمات الإسلامية والغزوات العربية… للبحث عن حلفاء لهم في الدولة الإسلامية التي تطورت وازدهرت بعد ظهور الخليفة يزيد بن معاوية في دمشق وقد حاول أمراؤهم الاتصال به وقد طلب يزيد العون منهم(الإيزيديين) مقابل الحرية الدينية لهم، وبمساعدتهم تمكن يزيد من الانتصار العسكري على أبناء على بن أبي طالب وقتل الحسين ومنذ ذلك الحين يسمى باللغة العربية باليزيديين وبأتباع يزيد بن معاوية(10).

عدي بن مسافر:
تختلف الروايات عنه بكثرة ولا يسعنا ذكرها نظرا لتناقضاتها واختلافاتها ولكن أغلبية الباحثين يتفقون على انه كان أمويا يعود بأصوله إلى عائلة مروان بن الحكم رابع خلفاء بني أمية، جاء إلى (لالش) ليغير التركيب الخارجي للإيزيدية وذلك بوضع نظام هرمي لتقسيم هذه الديانة إلى مراتب دينية دون أن يتمكن من تغيير محتواها وفلسفتها اللاهوتية”(11).
اذا، أفكار الشيخ عدي كانت معادية للإسلام ورأى في الدين الايزيدي وملته مخرجا لنشر تلك الأفكار (الطريقة العدوية) وبحسب الروايات فانه مختلف تماما عن ( الشيخ عادي) الأب الروحي للديانة الإيزيدية اذا أن ابن مسافر لم يكن إلا سلفيا لأجداده الأمويين وكان يريد تبجيل معاوية وابنه يزيد، وصبغهما بصبغة ذهبية “(12).

طاووس ملك ومكانته عند الله والإيزيديين:
طاووس ملك هو اسم لكبير الملائكة يعبده الإيزيديون ويأخذ مكان الله نفسه، ومصطلح طاووس ملك تختلف حوله الآراء: فالبعض يرى أن الصيغة الكردية الايزيدية لاسم الإله (دموزي)هو(تاووسي ملك)وهي كالتالي (دوموزي-تاموزي-تاووزي-تاووسي ملك وفي الصيغة البابلية والعبرية لاسم دموزي –تاووسي ملك هو (تموز)”(13).

وهناك رأي عربي إسلامي يرى أن كلمة طاووس ترجع إلى كلمة الطوس أي حسن الوجه ونظارته ومنه اشتق طاووس“(14)، أو أن هذه التسمية تعود إلى ما ورد في رواية غواية إبليس لآدم وحواء واشتراك الطاووس فيها كواسطة بين الشيطان والحية”(15).
أو ربما تكون مشتقة من كلمة (لوغوس)اليونانية من مذهب هيراقليطس الذي هو قانون العالم (النار المبدأ الأول الذي صدر عنه كل الموجودات) أما المؤرخ محمد أمين زكي بك فيرى أن مصطلح طاووس هو من أصل يوناني محرف من كلمة (تيئوس-theos) بمنى الله“(16).

وهذا الرأي هو اقرب إلى الصواب وذلك بسبب التراتبية الدينية إذ تيئوس هو نفسه زيوس عند اليونانيين وهو كبير ورئيس مجمع الآلهة والملائكة، ويقابله طاووس ملك عند الإيزيديين وهو رئيس المجمع الملائكي أو الآلهة الستة، وعند الإيزيديين هو متحد مع ذات الله الواحدة وهو ممثلها فهو يتصف باللاتناهي والمطلق والكلية والشمولية، وهو بمثابة الله نفسه وذلك بدليل أن الله خلقه قبل كل شيء، قبل كل الكائنات كلها، وكلفه (الله) بإدارة شؤون الكون وجعله حاضرا في كل الجهات، فيرسل خدامه وأعوانه لجميع النواحي للتفريق بين الضلالة والهداية، بين الكفر والإيمان”(17).

وفي (مصحف رش) أي الكتاب الأسود وهو الكتاب المقدس عند الإيزيديين وهو بمثابة القرآن عند المسلمين والإنجيل عند المسيحيين، مذكور فيه بأن الله خلق العالم يوم الأحد، وخلق ملكاً اسمه عزازيل، وهو طاووس ملك رئيس الجميع “(18).

إن عزازيل الإيزيدي مختلف تماما عن عزازيل في التوراة، فالأخير عنيد ومتمرد ومقاوم للرب، والإله (يهوه)يدفعه لعمل الدسائس بالأنبياء والبشر، وقد توهم المؤرخون الإسلاميون في اتخاذ عزازيل دلالة على عبادة الإيزيديين للشيطان، لأن دور عزازيل التوراتي شبيه بدور الشيطان في القرآن على ما يبدو، فقد خلط هؤلاء المؤرخون بين عزازيل وطاووس ملك واخذوا يفسرون تفسيرات تتماشى مع مواقعهم عند الخلفاء الإسلاميين وسياساتهم وتتماشى مع ما يحملون من كره وحقد وانجراف ودونية للدين اليهودي، ونتيجة التشابه اتجهت جبهة الحقد إلى الدين الايزيدي وبذلك تكونت وتشكلت صورة مشوهة للديانة الإيزيدية في كتب التاريخية وفي الأواسط الإسلامية وكذلك المسيحية وغيرها.

ومن المعروف في الفكر اللاهوتي الديني أن تشابه الأسماء لا علاقة له بنظرية كل دين في الخلق والتكوين والعبادة وحتى في تصور الإله، فاللغات تتشابه والشعوب الشرقية تتشابه في القيم الروحية والأخلاقية الى حد كبير، فليس هناك كتاب سماوي نزل على قوم وخاطبهم بلغتهم الخالصة فالقرآن مثلا يحتوي لغات ولهجات غير عربية مثل اليونانية والعبرية والسريانية والفارسية بالإضافة إلى العربية، رغم خصوصيته الروحية ونظريته في الخلق والتكوين المنبعثة من شبه الجزيرة العربية، يبقى لكل دين خصوصية تفسيرية ولغوية للبيئة والجغرافيا التي تخاطبها.

وطاووس ملك كما أسلفنا هو المخلوق الأول الذي خلقه الله في البدء وقد امتحنه بعد أن أوصاه، وهذه الرواية يحدثنا بها (مصحف رش)”خلق الله طاووس ملك من سره العزيز نوره.. لأول مرة قبل أن يخلق الإله الملائكة الستة الآخرين.. أنه مخلوق من نور ذاته… فكان لا بدّ أن يتمسك بوصية(الله) وألا يسجد إلا له.. وبعد أن خلق الله الآلهة الملائكة الستة الآخرين وسلم أمرهم إلى طاووس ملك ….حينها أمر الله طاووس ملك كي يهبط إلى الأرض ويجلب منها حفنة من التراب ففعل ذلك… ثم صنع الملائكة منه هيكلا فنفخ الله فيه الروح وسماه آدم فسجدوا لآدم كلهم ماعدا طاووس ملك ..حينها سأله الله عن سبب عدم سجوده فأجاب كيف اسجد لغيرك وأنت الذي أوصيتني ألا اركع إلا لجلالتك ثم كيف اسجد لآدم الذي هو من تراب وأنا مخلوق من نورك“(19).

يبدو أنها نتيجة منطقية بعقل ديني، فطاووس ملك هو من نور الله وليس من مارج من نار، فنور الله مختلف تماما عن النار المدنسة المادية، وبذلك يكون طاووس ملك متحدا مع ذات الله ومع نوره، وبهذا كافأه الله بأن جعله رئيسا لمجمع الملائكة وجعله أيضا وكيلا على العالم والخلق وزوده بالقدرة الإلهية الكلية… ووسيطا بينه وبين عباده فبات أزليا في مملكة الله”(20).

كما أننا نجد أن طاووس ملك لا يمثل الشر هنا، بل يمثل الخير المطلق والمحض لأنه من ذات الله لذا فهو المهدي إلى الطريق المستقيم إلى عبادة الله تعالى… وبما أن الملك طاووس هو رسول الله المباشر والصلة المباشرة مع الله سبحانه وتعالى فهو إذن يتصل بالإيزيديين ويوجه أعمالهم وتصرفاتهم وينقذهم من الأزمات والكوارث المختلفة ويهديهم إلى الطرق الصحيح“(21).

وبالتالي أن من خلق من نور الله هو شبيه الله وطاووس ملك هو ظل الله ونوره وهو ملازم لحفظ العوالم والخلق وصيانتها وله القدرة الإلهية الكلية على الملائكة والجن والناس فهو اله ابدي أزلي ابدي كأزلية الله نفسه”(22).

وفي اللاهوت الإيزيدي لاوجود للأنبياء أو الرسل يبشرهم برسالة الله كبقية الأديان السماوية، وطاووس ملك هو رسول الله إلى الملة الايزيدية من خلال الملائكة الأخرى ومساعدتهم، تقول رواية إيزيدية بأن الزمن الذي نزل فيه جبريل وهو ملاك إلى الأرض لأول مرة قبل خلق البشر حيث نزل في (لالش) وهي قبلة الإيزيديين وهي البوابة الأولى إلى السماء حيث أن الله تعالى يرسل دائما الملك طاووس عن طريق أعوانه إلى الناس ليهديهم إلى الطريق السليم وأن كل إنسان صالح ذا أعمال خيرة يمكن أن يتصل بالملك طاووس“(23).

ومن هنا ربما الذين يتصلوا بالملك هم المتصوفون الإيزيديين، ومن هنا يمكن القول أن الإيزيديين يعبدون طاووس ملك باعتباره وكيل الله على العالم والملائكة والناس والجن وأن عبادته هي عبادة الله نفسه كونه من نور الله وذاته والله هنا لا يتدخل بشؤون الخلق (إله أرسطو) – الفرق هو أن طاووس ملك أوكل إليه شؤون الخلق أما إله أرسطو قد حرك العالم لمرة واحدة فقط والعالم يتجه نحو غايته- لذا نجد أن أهل الملة الايزيدية يرون أن هذا الملك يستحق العبادة أولا لأنها تفضي إلى عبادة الله على عكس ما ذهب إليه بعض المفكرين والباحثين المسلمين بان هذه الملة يعبدون طاووس ملك خشية إيقاعهم بالشر وإيذائهم وان عبادته ماهي إلا تجنب لذلك الشر، ويعود هذا الخطأ إلى خلطهم بين طاووس ملك كرمز ديني ايزيدي والشيطان كرمز ديني إسلامي بالإضافة إلى وجود مجموعة من التماثيل في التراث الايزيدي كرمز لإلههم طاووس ملك وبقية الملائكة وهي منتشرة بين هذه الملة وهذه الرمزية ليس محرمة كونها لا تمثل الله مباشرة وإنما ترمز إلى ممثله ونائبه في الإلوهية وهذا النائب هو مخلوق يعمل بأمر من الله وقدرته.

الشيطان، مكانته عند الله والمسلمين:
الشيطان في الموروث الديني الإسلامي هو منبع الشر وسبب الشقاء ومصدر الألم الذي يلحق بالبشر وهو الذي يقف عائق في وجه سعادة الإنسان وهو حاجب للذة وسبب سقوط البشر من فردوس الله إلى جحيم المادة المتدنسة، هذا المخلوق الجبار هو الذي يحرك دوافعنا باتجاه الرذيلة والرغبات والشهوات الدنيئة هو مهلك الإنسان منذ هبوطه الأخير إلى عالم الأرض الفانية.

الشيطان كمصطلح مشتق من الجذر العبري (شَطَنَ) الذي يتضمن معنى المقاومة والمعاندة، وكذلك (إبليس) فهو من الأصل اليوناني (ديابولوس) الذي يعني المشتكي زوراً… ويدعى أيضا بالتنين وبالحية القديمة”(24).

كلمة الشيطان ليست عربية وإنما (عبرية) دخيلة وكما هو معروف أن هذا المخلوق إسلاميا يضلنا عن الخير باتجاه الشر وهو مصدر الفتن والعداوة والبغضاء بين الناس وهذا ما يخبرنا به القرآن “إنما يريد الشيطان أن يوقع بكم العداوات والبغضاء”(25)،“أن الشيطان كان للإنسان عدوا مبيناً”(26).

وفي الديانات السامية الثلاث الشيطان هو الشر في مقابل الله الخير المحض والمطلق الذي لايمكن ان يصدر الشر.

الله إسلاميا قد أعطى الحرية للشيطان المعاند والمقاوم، في حق الاختيار، وشره ناتج عن حريته الموهوبة له من قبل الله، وقد أراد الله أن يمتحنه لغاية في نفسه أو ربما قد رأى غرور مخلوقه أو أنها خطة إلهية مرسومة من قبل كما يقول (نصر حامد أبو زيد)، فقد خلق آدم ومن ثم دفع الشيطان إلى السجود لآدم كاختبار لطاعته بحكم الأمر“ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين… قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين”(27).

وتخبرنا القراءة السطحية لهذه الآية بأن الشيطان فشل في الامتحان بسبب تكبره وغروره، لكن عند التمحيص سنجد أن الشيطان لم يفشل وإنما نجح بامتياز كونه أدرك تماما بأنه لايمكن السجود إلا لله وحده لان الله خالقه ويرى الدكتور (صادق جلال العظم) أنه“لا شك أن إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم غير أنه كان منسجمًا كل الانسجام مع المشيئة الإلهية ومع واجبه المطلق نحو ربه. ولو وقع إبليس ساجدًا لخرج عن حقيقة التوحيد وعصى واجبه المطلق نحو معبوده. أراد الله للملائكة أن يقدسوه وأن يسبحوا باسمه، لذلك كان السجود لآدم وقوعًا في ما يضيفه أهل الشرك إلى الذات الصمدية مما هي منزهة عنه، إذ أن السجود لغير الله لا يجوز على الإطلاق لأنه شرك به” (28). نافلا على ذلك أن الله لم يوصيه بان يسجد أولا يسجد لغيره مسبقا على عكس (طاووس ملك الإيزيديين) الذي أوصاه الله مسبقا بان لا يسجد لغيره، وإسلاميا لم يكن الشيطان على دراية بان الله يمتحنه، لكنه كان يعلم ان السجود لغير الله هو شرك، ورغم دهائه وقوة حجته إلا انه وقع بشكل غير عادل في مصيدة الإغواء هو نفسه، مصيدة “وقع بين براثن الامر والمشيئة الإلهية”(29)، قبل أن يغوي هو آدم وحواء “فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم”(30)، كذلك “قال ربِّ بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين”(31)، وعند القراءة العميقة لهاتين الآيتين سنجد أن الشيطان فعلا قد تعرض للإغواء (ربِّ بما أغويتني) وان الله هو الذي أغواه وضله لغاية ما، وفق دراما إلهية، وسبب المعصية الشيطانية هي عقلية محضة إذ يقول الله “ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي”(32)، فيرد الشيطان “أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين”(33). هنا يبدو أن منطق الشيطان وحجته قوية فله أولوية الخلق وأفضلية طهارة المادة وبالتالي له الحق قبول السجود او الرفض كونه حرٌ- لو فرضنا أن الشيطان سجد لآدم هل كانت هذه المعضلة والدراما تنتهي كما آل إليه التسلسل الزمني ؟- لذلك نجد أن قرار الشيطان كان فيه جزء من الحكمة كونه أدرك مسبقا ما معنى الحرية وما معنى المسؤولية وأنت حر والنتيجة وقوعه في المصيدة رغم تعقله.

حتى الآن لا يوجد أي تشابه واضح بين الدراما والرواية الإسلامية والإيزيدية سوى فيما يتعلق بموضوع السجود لآدم وقصة الامتحان، وتأتي مرتبة الشيطان في الموروث الإسلامي وان ما يشد انتباهنا أكثر هو مفهوم التراتبية الخلقية، إسلاميا الله خالق كل شيء ومبدعها الملائكة والكون بنجومه وكواكبه والجن والإنسان… الخ وكل مخلوق خلق من شي ما معين فالملائكة خلقت من النور، والنور تختلف عن النار طهارة وتكويننا، والجن خلقوا من النار المادة الكونية والأرضية كي يعبدوا والإنسان خلق من طين والتراب، والشيطان خلق من النار كونه من الجن وهو ليس ملاكاً “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه…..بئس للظالمين بدلا”(34).

ونتساءل هنا ماذا يفعل هذا المخلوق من النار والذي يحاوره الله على انه ندٌّ له، وفي مملكته وبين ملائكته رغم طبيعته الدونية وبذلك ينتج لدينا:
أولا أن الشيطان الإسلامي مختلف تماما عن طاووس ملك الايزيدي الذي هو من نور الله نفسه ورئيس مجمع الملائكة الستة، في حين أن الشيطان ذو طبيعة مادية من نار، وهو ليس بملاك وليس له مرتبة بين الملائكة والإلوهية فهو من (الجن) والجن والإنسان مخلوقات للعبادة اذا أن مكانتهما عالم المادة ولا يمكنهم الوجود إلا تحت رحمة المادة.
ثانيا أن طاووس ملك الإيزيدية هو وكيل الله على العالم والكون وهو سيده، فهو مركز والبؤرة التي تدور حوله العبادة في الديانة الإيزيدية، وليس بمصدر للشر، كما اعتقد بعض الكتاب وهو نور الله وظله الذي يخيم على هذا الكون المرئي فهو الغاية من خلق الله للوجود، وعبادته هو عبادة الإله نفسه عكس الشيطان الذي هو مصدر الرغبات والغرائز والشهوات والكوارث والويلات واللذة والنشاط انه عدو الإنسان إلى يوم الدين.

أخير ليس الغاية من هذا البحث التقليل من الشأن الإسلامي وليست دعوة تبشيرية للديانة الايزيدية وإنما هي غاية فلسفية للبحث وإبراز توضيح فكري اختلف عليه الباحثون والكتاب والمؤرخون، وربما يكون بحثنا صائبا او خاطئا.

الهوامش:
1- سواح (فراس)، دين الإنسان، منشورات دار علاء الدين،دمشق الطبعة الثالثة،1998 م، ص23.
2- نفس المرجع السابق، ص27.
3- الجراد(خلف)،اليزيدية واليزيديون،الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، الطبعة الأولى 1995، ص16.
4- بروكا(هوشنك)، دراسات في ميثولوجيا الديانة الإيزيدية، الطبعة الأولى، ألمانيا،1995، ص26.
5- الجراد (خلف)، مرجع سابق، ص8.
6- بروكا(هوشنك)،مرجع سابق، ص21.
7- بروكا(هوشنك)،مرجع سابق، ص26.
8- زكي بك (محمد أمين)، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان، ترجمة محمد علي العوني نقلا عن اللغة الكردية،مطبعة زين العابدين،لبنان القرية،1985م،ص293.
9- بروكا(هوشنك)، مرجع سابق، ص26.
10- نفس المرجع السابق، ص18.
11- حسو(درويش)،الأزداهيون اليزيديون، ألمانيا، بون، الطبعة الأولى 1992م، ص8-15، وهو من المثقفين الإيزيديين البارزين حيث يرى حس وان الإيزيدية هي بقايا زرادشتية، وان كتاب الإيزيديين ليست مصحف رش ولا كتاب (الجلوة) وإنما هو (أفستا الزرادشتية ).
12- ممو(فرمان)مقالة في الثقافة الجديدة، العدد 243، عام 1992م، بعنوان(ضوء على فلسفة الديانة اليزيدية).
13- بروكا(هوشنك)، مرجع سابق، ص18.
14- اليوسف(مرشد)، دموزي طاووس ملك، بحث في جذور الديانة الكردية،الطبعة الأولى 1999م،ص8.
15- سعيد الأحمد(سامي)، اليزيدية أحوالهم ومعتقداتهم، بغداد، الجزء الثاني،1971م،ص43-44.
16- سيد كيلاني(محمد)، ذيل ملحق،الجزء الثاني،الملل والنحل،بيروت،دار المعرفة،1984،ص17.انظر خلف جراده.
17- زكي بك(محمد أمين)، مصدر سابق،ص296.
18- نفس المصدر السابق، ص296.
19- الجراد خلف، مرجع سابق،ص51.
20- مصحف رش، نقلا عن هوشنك بروكا،مرجع سابق،ص46.
21- بروكا(هوشنك)، مرجع سابق، ص 46.
22- حسو (درويش)، مرجع سابق، ص58.
23- بروكا(هوشنك)، مرجع سابق، ص43.
24-حسو(درويش)، مرجع سابق، ص56.
24- سواح (فراس)، الرحمن والشيطان، منشورات دار علاء الدين،دمشق،الطبعة الثانية،2001م، ص241.
25- القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية رقم (91).
26- القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية رقم (53).
27- جلال العظم (صادق)، مأساة إبليس، مقدمة
28- جلال العظم (صادق)، مرجع سابق.
30- القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية رقم (11-12).
31- القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية رقم (16).
32- القرآن الكريم، سورة الحِجْر، الآية رقم (39).
33- القرآن الكريم،سورة الأعراف، الآية رقم (12).
34- القرآن الكريم،سورة الكهف، الآية رقم (50).

عاصم محمود أمين كاتب وباحث كردي سوري.

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.