الحلم الأوروبي الأميركي

خافيير سولانا: الجريدة الكويتية

اليوم، هناك ثلاث دول أوروبية من بين أضخم سبعة اقتصادات على مستوى العالم. وبعد عشرة أعوام من الآن، سيقل هذا العدد إلى اثنتين فقط. وبحلول عام 2030، فلن تظل على القائمة سوى ألمانيا، ثم بحلول عام 2050، لن تظل على القائمة أي دولة أوروبية. بل وبحلول ذلك الوقت ستكون الولايات المتحدة الممثل الوحيد للغرب بين الدول السبع الكبار.

وهذا يعني أن الدول الأوروبية أصغر حجماً من أن تنافس كل منها بمفردها في عالم القرن الحادي والعشرين. والأمر بهذه البساطة. فوفقاً لتقارير البنك الدولي سيزيد عدد سكان العالم مليارين إضافيين بحلول عام 2030، وأغلبهم آسيويون، وينتمون إلى الطبقة المتوسطة. وستكون الضغوط المفروضة على موارد الكوكب، والسلع الأساسية، والمياه، والغذاء بالغة الضخامة، الأمر الذي يجعل إعادة التوازن إلى العالم ضرورة حتمية. وفي عالم يتسم بالترابط المتبادل والتغيير المستمر، فإن أوروبا ستدرك أن الاتحاد قوة.

وما لم يعمل الأوروبيون من أجل تحقيق هدف التكامل، فإنهم قد يجدون أنفسهم وقد تجاوزتهم الدول الناشئة من حيث التطور التكنولوجي، وخلق فرص العمل، وتكاليف الإنتاج، والموهبة، والإبداع.

إن الاتحاد الأوروبي لايزال المكان الذي تضمن فيه المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية نوعية حياة أفضل. وبهذا المعنى فإن المطالبة بصوت أوروبي في العالم واضحة -تحدث رئيس البرازيل السابق لويز ايناسيو لولا دا سيلفا عن الاتحاد الأوروبي بوصفه «تراثاً دولياً فريداً»- لأنه يضمن القيم التي تمثل الإنسانية في أفضل صورها.

وتتجسد هذه القيم جزئياً في نظام الرفاهية الاجتماعية الأوروبي، الذي يشكل عنصراً بالغ الأهمية في تكوين الهوية الجمعية الأوروبية ومصدراً أساسياً للفخر في آن. صحيح أنه من ناحية التفاوت الاقتصادي لا يتجاوز الفارق في نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي اثنين إلى واحد بين أكثر الولايات الأميركية ثراءً وأكثرها فقراً (باستثناء مقاطعة كولومبيا)، في حين تبلغ النسبة في الاتحاد الأوروبي 6.5 إلى واحد. ولكن من حيث الظروف داخل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي فإن الأمور مختلفة تماماً.

ويبلغ متوسط «معامل جيني» (حيث يعني الصفر المساواة المطلقة ويعني الرقم واحد التفاوت المطلق) في أوروبا 0.30، في حين يبلغ في الولايات المتحدة 0.45. وفي الصين يبلغ المعامل 0.47. وهذا يعني أن المجتمع الأميركي متفاوت للغاية (والمجتمع الصيني أيضاَ بدرجة أعلى قليلاً). أما في أوروبا فالعكس هو الصحيح. فالمجتمعات الأوروبية أكثر عدالة، في حين لايزال التقارب فيما بينها بعيداً (وهذه حقاً المهمة الكبرى التي تواجهها أوروبا).

وليس من الصعب من هذا المنظور أن نفهم السبب وراء الجاذبية التي تتمتع بها أوروبا دولياً. ولنتأمل هنا التجربة الفكرية التالية (شكل مختلف من «حجاب الجهل» استحضره الفيلسوف جون راولز في إطار جهوده الرامية إلى تصميم مجتمع عادل): إذا وضعنا في الحسبان مستوى ونوعية الحماية الاجتماعية، والتعليم العام، والرعاية الصحية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومن دون التعرف مسبقاً على موقفك الاجتماعي في أي من المجتمعين، ففي أي منهم كنت تود أن تولد؟

ولكن إذا كانت أوروبا تريد الحفاظ على مؤسسات تقاسم الازدهار، فيتعين عليها أن تعمل على توليد النمو الاقتصادي من أجل تغطية تكاليفها. وهذا يعني زيادة الإنتاجية وتعزيز القدرة التنافسية، وعلى نفس القدر من الأهمية، التأكيد على مكانة أوروبا في العالم.

إن الأوروبيين لديهم الآن من الأسباب ما يجعلهم يتمسكون بالأمل في سعيهم إلى تحقيق هذه الأهداف، أو اتفاقية تجارة حرة عبر أطلسية. وقبل وقت ليس ببعيد، كانت أوروبا في ثمانينيات القرن العشرين توصف (من قِبَل المحافظين الأميركيين بشكل خاص) بمصطلح «التيبس الأوروبي». وكانت العقود التي أعقبت أزمة النفط عام 1979 تتسم بارتفاع مستوى البطالة، والشلل المالي، وتجمد مفاوضات الانضمام بالنسبة إلى إسبانيا والبرتغال. وكانت الاقتصادات الأوروبية راكدة، في حين كان الاقتصاد في الولايات المتحدة واليابان آخذاً في النمو.

في ذلك الوقت، لم تكن السوق الأوروبية المشتركة قد تحولت بعد إلى سوق موحدة. وآنذاك، حدث تقارب تاريخي في المصالح الوطنية والمواقف الإيديولوجية (من اشتراكية فرانسوا ميتران إلى محافظة مارغريت تاتشر إلى ديمقراطية هيلموت كول الاجتماعية). وبقدر عظيم من التبصر، استنتج زعماء أوروبا أن افتقار اقتصادات بلدانهم إلى التكامل هو الذي منع أوروبا من النمو بنفس قوة النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة واليابان.

وكان الحل يتلخص في إنشاء سوق أكبر كثيراً؛ سوق موحد. ثم توجت هذه الجهود بالقانون الأوروبي الموحد في عام 1986، الذي أرسى أساس الدورة الحميدة المتمثلة في النمو القوي وانخفاض معدلات البطالة في تسعينيات القرن العشرين.

واليوم أصبحت اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي مطروحة على الطاولة أخيراً، وهي تَعِد بتعزيز النمو في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على السواء. وفي عام 2012، بلغ مجموع صادرات الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي نحو 206 مليارات يورو (272 مليار دولار)، في حين بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة نحو 300 مليار يورو. وتعتمد 30 مليون وظيفة في أوروبا (نحو 10 في المئة من إجمالي قوة العمل) على التجارة الخارجية. والكميات ضخمة، وهو ما يشير إلى أن اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي قد تخلف تأثيراً لا يقل عن تأثير السوق الموحدة في أوروبا.

بيد أن تحقيق إمكانات اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي يتطلب إتمام مشروع التكامل الأوروبي. وهي عملية طويلة وبطيئة، ولكنها الوسيلة الوحيدة للحفاظ على أهمية أوروبا باعتبارها لاعباً دولياً، لديها ما تقدمه للعالم. والواقع أن هذه العملية -في عقدها السابع الآن- هي التي مكنت الأوروبيين من التمتع بأعلى مستويات المعيشة على مستوى العالم.

* كان وزيراً لخارجية إسبانيا، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، والممثل الأعلى لشؤون السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي. ويشغل حالياً منصب رئيس مركز إيساد للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية، وهو زميل متميز لدى معهد بروكينغز.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.