الجزء السابع عشر من سلسلة مقالاتي عن سوريا

عندما ينتقل الإنسان من مجتمعه إلى مجتمع آخر مغاير ثقافيا قد يصاب بما يسمى “الصدمة الثقافية”
Cultural Shock
وأنا أصبت بها إلى درجة كادت أن تفقدني توازني, صدقوا أو لا تصدقوا، لم أصب بها عندما هاجرت من سوريا إلى أمريكا،
بل اصبت بها عندما انتلقت من بانياس حيث ولدت وترعرعت إلى حلب حيث التحقت بجامعتها…. كانت بانياس، وربما لم تزل، مدينة صغيرة أشبه بقرية كبيرة، وباعتبارها مدينة ساحلية كانت منفتحة على حوض البحر المتوسط أكثر مما هي حلب. ليس هذا وحسب، بل نسيجها الاجتماعي الذي يشكل العلويون والمسيحيون معظمه كان يمنح سكانها بحبوحة من الحرية لم يحلم بها سكان المدن الداخلية وخصوصا حلب.
……………
بحكم عمل أهلي بالتجارة ارتبط أخي بعلاقة متينة مع تاجر حلبي. عندما سمع أبو أحمد الحلبي بأنني التحقت بجامعة حلب قام بأكثر من واجبه، على عادة أهل حلب السمحين والمضيافين… خلال الست أعوام التي قضيتها في كلية الطب كنت على الأقل أنزل شهرين في بيت أبي أحمد كل عام بانتظار نتائج المدينة الجامعية، وخلال الدورة الصيفية ايضا.
كانت زوجته الشابة، والتي لم تكن أعمر مني سوى ببضع سنوات، من أجمل النساء التي صادفتها في حياتي، من أجملهن خلقا وخُلقا! لديها ولدان: كان أحمد آنذاك في الخامسة من عمره وعمار في الرابعة.
تكرموا علي ومنحوني غرفة في بيتهم الكبير في حارة جب القبة، أحد أكثر الأحياء الحلبية انغلاقا وتعصبا. فيه انصدمت لأول مرة في حياتي وأحسست أنني في كوكب آخر، لا يمت إلى الكوكب الذي جئت منه بصلة. لم أكن عندها أبلغ الثامنة عشر من عمري، غرّة بكل ما للكملة من معنى! فجأة وبدون سابق تحضير وجدت نفسي داخل تجربة كادت تغسلني دماغيا وراحت تشككني بهويتي الثقافية التي كان هشة في ذلك الوقت، وتشككني أكثر بطبيعة علاقتي بالله, وضعتني أمام أسئلة كثيرة، أهمها وأكثرها تعقيدا: من فينا الصح؟؟! حتى كدت أرى الفرق بيني وبين الأنثى في ذلك الحي كالفرق بين عاهرة تبيع نفسها في أزقة الشوارع وبين السيدة العذراء، هذا ماحاول الحلبيون أن يقنعوني به! لكن طبيعتي الريفية العفوية وحدسي الذي كان نقيا يومها أعادني إلى صوابي وأدركت أن خللا في ذلك المجتع أكبر من قدرتي على استيعابه!!

….
لم تكن أم أحمد ترى الشمس، ولم تكن تعرف الليل من النهار إلا من خلال الساعة المعلقة على الحائط البيت مغلق من كافة منافذه، ولا يسمح حتى لأشعة الشمس بدخوله. وكانت أم أحمد لا تختلف كثيرا عن الغسالة الكهربائية في بيتها تدور وتتوقف من خلال كبس زر، وابو أحمد يقبض ـ مسترجلا ـ على هذا الزر! بدأت تدريجيا ولكن بثبات أتعرف على تفاصيل تلك الكارثة الانسانية شيئا فشيئا
ويوما بعد يوم…… كلما واجهت أم أحمد بسؤال يتعلق بطبيعة حياتها وعلاقتها بمحيطها، كانت تمتد ابتسامتها من أذنها إلى الأذن الأخرى كي تخفي حزنا دفينا في عينيها الخضراوتين الجميلتين، ثم تقول مازحة:
ـ ياخيت ـ تقصد أختي ـ أنتو العلويين عرضكون رخيص!
لم أكن أملك يومها من الأسلحة مايكفي للدفاع عن علويتي إلا بامطارها بوابل آخر من رصاص الأسئلة، وكنت كلما حاصرتها في زاوية تواجهني بقولها: استغفر الله العظيم من فجوركِ!! ثم يغرق كلانا في نوبة ضحك، ضحك هستريائي يخفي حقيقة مُرة…..
…………….
شهدت في بيتها حوادثا مفجعة كثيرة، أهمها وأكثر حفرا في ذاكرتي عندما كانت تضرب الأطفال لسبب أو آخر، فينبري أحمد الكبير ـ ابن الخامسة ـ ليهددها وهو يبكي: (دا قلو لابوي ـ سأقول لوالدي ـ فتحت الباب لعمي عدنان) وكانت عندها تصرخ: يا وفاء…يا وفاء اريدك أن تكون شاهدة، هل رأيتيني يوما أفتح الباب لعدنان؟؟
عدنان هو أخو الزوج ويجلب لها كل يوم حاجات البيت من الطعام، كان يقرع الجرس ويفر هاربا وتاركا الأغراض أمام الباب، وكانت أم أحمد وبعد أن تتأكد من اختفائه تفتح الباب وتمد يدها خلسة لتلتقط الأغراض… طفل في الخامسة من عمره تشرب حتى نخاع عظمه قناعة مطلقة من أن العلاقة بين الانثى والذكر خطيرة جدا وشديدة السميّة، وتعلم تماما كيف ينقر على هذا العصب الحساس في محاولة للسيطرة على والدته!!!
….
مرة وفي بداية عطلة الصيف قرر أبو أحمد أن يضرب عصفورين بحجر، يوصلني بسيارته إلى بانياس ويستمتع مع عائلته برحلة إلى البحر. سافرت معنا أخت أم أحمد وكانت حاملا في أشهرها الاخيرة، وزوجها يخدم عسكرية في شرقي سوريا
لكي تتجنب شيطنة الأطفال في المقعد الخلفي جسلت بجانب أبي أحمد في المقعد الأمامي.
قبل أن ننطلق، اجتمعت بي أم أحمد وأختها وحذروني تحذيرا شديد اللهجة من أن أتفوه بحرف أمام العائلة ـ لأن زوج الأخت هو ابن العم ـ كي لايعرف الزوج أن زوجته جلست في المقعد الامامي بجانب صهرها، علما بأنها كانت مبرقعة من شوشتها حتى أخمص قدمها! ورحت أتساءل في سري، وببراءة: ما الخلل في أن تجلس امرأة في المقعد الامامي بجانبي صهرها؟؟؟ وأين الجريمة في هذا السيناريو؟؟
………………
مرة طرقت الباب حفصة جارة أم أحمد وطلبت منها أن تساعدها في تحضير طبقا من الكبة بعد أن أكدت لها أن لا أحدا في البيت سواها. دخلتُ مع أم أحمد بيت حفصة ورحتُ أراقبهن وهن يجبلن دراويش الكبة…. لم يطل الوقت حتى سمعنا صراخ أبي أحمد (رويده…رويده، فينك يا شرموطة، والله لألعن ابوكِ يا أحبي ـ قحبةـ)!! راحت أم أحمد ترتجف كعصفور داهمته عاصفة مطرية هوجاء، وعرفت أن نهايتها قد اقتربت.
كان أبو أحمد قد غادر البيت باكرا بعد أن أوهم أم أحمد بأنه مسافر إلى حمص، ثم عاد ليتجسس عليها، وكانت الواقعة!!
وجدت نفسي بين وحش شرس مفترس ودجاجة تتفانى لتحمي بجناحيها صيصانها, نلتُ من الضربات أكثر منها في محاولة لدحره ولو قليلا… في غمرة غضبه طلقها بالثلاث، فعادت إلى بيتها والدها، ومكثت هناك شهورا لكنه استعادها لاحقا بعد أن جحّشها سمان الحارة أبي خالد مقابل ليلة واحدة وثلاثة آلاف ليرة سورية!!!!
……
اصطحبتني العائلة أكثر من مرة إلى عرس في إحدى القاعات، وطبعا النساء يدخلن قاعة والرجال قاعة أخرى…. شهدت خلال تلك المناسبات حوادثا لم يستطع عقلي الغض يومها أن يستوعبها بالكامل!
كانت النساء ـ وفور انفرادهن بأنفسهن ـ تنتفض خارج عباءاتهن كأفاعي تسلخ جلدها فتبدو من زينتها مالم أره يوما في محيطي الثقافي، فجور وتبرج لا يمكن أن يصدقه عقل…. ولطالما لمحت إحداهن تركض إلى أم أحمد ـالأجمل من أن توصف ـ
وتعقصها من ثديها أو تدفش أصابعها في مؤخرتها.
كانت أم أحمد تضحك وهي تقول بدلال: يؤرف عمرك، إشو هاد؟ لأول مرة في حياتي تعرفت يومها على تعبير “بنات عشره”
وبدت لي كل امرأة في ذلك المحيط بنت عشره… أعرف اليوم “إنه الشواذ الناجم عن التصدي لعفوية الحياة” ـ وسأشرح لاحقا ما أقصده بعبارتي تلك ـ
………….
لم تقتصر تجاربي مع المجتمع السني في حلب على عائلة أبي أحمد, بل عززتها التجارب وأنا أسمع قصص المرضى في المشفى الذي خدمت به، وأثناء ركوبي لباصات النقل الداخلي، وتعاملي مع الناس في الشارع. كانت أقصى هذا التجارب ماكنا نواجهه نحن الطالبات من تحرشات وكأننا ـ وفقا لثقافتهم ـ مشاع! كنا نتحاشى ركوب الباصات يوم الجمعة كي لا نواجه الوحوش الخارجة من الجوامع والتي كلما التصق أحدهم بفتاة في زحمة الباص يغرز قضيبه الحديدي في ظهرها ويبدأ عندها الدفش والصراخ….
….
أحد الأيام وبعد الظهر كنا نحن طالبات المدينة الجامعية نتناول طعام الغداء في مقصف المدينة الجامعية ، وكان عبارة عن قبو المبنى. فجأة انقطعت الكهرباء فانطفأت أضواء المقصف وبدا الجو عاتما بعض الشيء، إذ مازالت اشعة الشمس تتسرب من النوافذ… ماهي إلا ثوان حتى هبط الدرج باتجاه المقصف حارس المبنى، وكان طبعا رجلا حلبيا وبيده عصا غليظة وهو يصيح بالطالبات: اخرجن وبسرعة وإلاّ سأضرب كل بنت لا تمتثل لأوامري! عندما وصل إلى طاولة كانت تجلس عليها فتاة من جبلة ـ الساحل السوري ـ مع بعض من زملائها الشباب في الكلية، تصدت له بقوله: لماذا؟ ماذا تريد منا؟
فرد: أخاف من هؤلاء الشباب أن ينطوا فوقك!
هنا كادت الطالبة أن تفقد عقلها، وراحت تصرخ: لو انطفأت الكهرباء في بيتك وأنت مع أختك في الغرفة هل تنط فوقها، أيها القذر؟؟؟؟ وتابعت تقول: لو اقتربت مني سأهشم راسك بحذائي!
مازلت أذكر كان اسمها “جلاء ميّا “، (من يعرفها من أهالي جبلة ليبلغها سلامي وليطبع قبلة على جبينها)
يومها هربتُ بسرعة البرق ولم استطع أن أساندها خوفا من أن أسمع عبارة “العلويين عرضهم رخيص”، أما اليوم فأعرف وبكثير من التفصيل سرّ صدمتي الثقافية!!!!
……
لقد جئت إلى حلب من كوكب آخر….. كان الفلاح أبو محمد يدق أبواب البيوت في حينا بابا بابا… وهو يحمل كيسه المليء بالسبانخ والهندبة والفجل والبصل والجرجير محاولا أن يبيع محصول يومه، وكانت أبوابنا كلها مفتوحة ومشرّعة على مصاريعها….
فيدخل أبو محمد ـ الملقب بالشنتا ـ بيتنا ويجلس على كرسي مقابل باب المطبخ ويفتح محادثات “هنري كيسنجر المكوكية”
مع أمي ولأكثر من ساعة. يخبرها عن كل شادرة ووارده في بيته وفي قريته، وهي تخبره عن بيتها وحيها…. لم يخطر بباله يوما أنه قد انفرد بامرأة بنفسه، ولم يكن يخطر ببال أمي ذلك, إذ كانت علاقته بها علاقة نقية صافية طبيعية كعلاقة الغصن بنسمة تمازحه، لم يتسرب إليهما يوما فكرا شريرا خبيثا ومريضا!!!
….
في عطلة الصيف كنا نسافر إلى قرية أمي، ولم يكن الطريق إلى بيت جدي معبدا، فنترجل من السيارة على مفرق الضيعة،
ونمشي مسافة ميل أو أكثر…. لم تلتق أمي يوما برجل في طريقنا إلا وعانقته وطبعت قبلة على جبينه, وهو بدوره يطبع قبلة على جبينها وجبين كل منا نحن الأطفال. كانت تقدمه امي بقولها: هذا ابن خالي علي…هذا ابن خالتي محمد…هذا ابن عمتي ناصر, هذا ابن عمي اسكندر، لأكتشف لاحقا أن ابن اخت زوجة ابن خال أمي ـ في عرفها وثقافتها ـ هو ابن خالها، وبأن زوج أخت زوجة ابن عمتها ـ في عرفها وثقافتهاـ هو ابن عمتها، وابن خال ابن عمها ـ في عرفها وثقافتها ـ هو ابن عمها.
كانت أمي ووفقا لأعرافها وثقافتها العلوية، ـ والتي تنساب مع الدفق العفوي للحياة ـ كانت تعتبر ابن عمتها وابن خالها وابن خالتها وابن عمها، وبالتالي جميع رجال قريتها اخوتها وأهل بيتها، فهي سيدة متزوجة وملتزمة بزوج وأولاد! نعم إنه الدفق العفوي للحياة، ذلك الدفق الذي تصدت له الثقافة السنية, وهو اليوم ينفجر براكينا وأعاصير!!
….
العلاقة بين الرجل والمرأة في الثقافة السنية علاقة مكهربة…مضطربة…مريضة، لأنها لا ترى في المرأة إلا فرجها! يتبجح المسلمون بأن مريم العذراء قد ذكرت في القرآن، وكُرمت بسورة فيه. لقد جاء تكريم القرآن لمريم من خلال تكريمه لفرجها ، فهي ليست سواه، ولأنها حافظت عليه نفخ الله فيه…. نعم، لم ير القرآن في مريم إلا فرجها، غير عابئ بسلامة عقلها، قلبها، سلوكها، وعلاقاتها بالناس من حولها!! هذه الفكرة الجهنمية عشعشت في بواطن اللاوعي عند الرجل السني وتحكمت بحياته،
حتى كهربت علاقته بنساء محيطه… كل امرأة من حوله ـ حتى اخته ـ ليست سوى فرجا، لذلك هو ملزم بأن يبني جدارا بينه وبين ذلك الفرج مادام ليس ملزما بضبط شهواته ونزواته، ولهذا تخلخلت مفاصل حياته وانعكس ذلك سلبا على كل جوانبها!!
….
في عصر الانترنت تعرفت أخيرا على خفايا تلك الثقافة، وعرفت سرّ العلاقة المكهربة بين الرجل السني والأنثى في محيطه،
وصعقني ما تعرفت عليه! وفقا لخفايا تلك الثقافة الفتاة يجب أن لا تنفرد بأبيها لأنه قد يشتهي عليها… يحل للرجل أن ينكح أمه طالما لف قضيبه بقطعة قماش…. يحل للرجل وطء البهيمة إذا اشتهاها…. يحل للمجاهد أن ينكح أهل بيته كي يفرغ شهوته…. يحل للرجل أن يستمتع بالرضيعة على سنة الله ورسوله… يحل للرجل أن ينكح ابنته بالزنى، وللمرأة أن تنكح ابنها بالزنى, وهكذا دوالييك…..
…….
الأنثى والرجل هما افراز طبيعي ، والعلاقة بينهما يجب أن تكون طبيعية وشفافة، وإلا تفقد الحياة جوهرها ومعناها! العلاقة بينهما ليست علاقة جنسية بالمطلق، وعندما يتعلق الأمر بالعلاقة الجنسية الإدراك العام عند كل منهما، والذي يميّز بين الخطأ والصح، يحدد لهما شروط وأخلاقيات تلك العلاقة! أما ما تبقى من تلك العلاقة (وهو ما يشكل جلها)، فهو دفق طبيعي وعفوي،
دفق يحلق بالانسان روحانيا وطاقويا!! لم يستطع الرجل السني أن يحلق بعلاقته بالانثى في محيطه فوق مستوى بهيميتها،
ولذلك انحدر بنفسه وبها وبكل مجتمعه إلى مستوى تلك البهيمية. ويبقى السؤال: لماذا يستطيع الرجل السني أن يرفض طبقا شهيا محضرا من لحم الخنزير، حتى وهو يحتضر جوعا، ولا يستطيع أن يكبح جماح شهوته ويمنع نفسه من أن ينط فوق امرأة تجلس بجانبه في غرفة، لو انطفئ الضوء فجأة في تلك الغرفة؟!!
أليس الجواب: لأن تعاليمه حرمت لحم الخنزير تحريما قاطعا، بينما أباحت له أن ينكح ماطاب له من النساء، حتى ولو أمه بشرط أن يلف قضيبه بقطعة قماش؟؟؟ إذن، تلك التعاليم هي المجرم الحقيقي!
…..
لا أريد أن “يتمضرط” علي قارئ بقوله: ليس كل رجال السنة هكذا!! نعم كلهم، وليس فقط هم، بل رجال العلويين والدروز والمسيحيين وكل الطوائف التي عاشت في ظل الأكثرية السنية أيضا. تأثر الجميع ـ بشكل أو بآخر ـ بتلك الثقافة المريضة،
وكلهم بلا استثناء دفعوا ـ بدرجات مختلفة ـ ثمن تلك العلاقة المرضية!! عندما تلقي حجرا في بحيرة، تتشكل دوائر حول المركز، كلما اقتربت الدائرة من المركز كلما توضح محيطها، وكلما ابتعدت عنه خفّ وضوحها حتى تتلاشى كليا!! هكذا هي طريقة تأثر الناس بثقافة الأكثرية، كلما تمسكوا بها، أو جاوروا من يتمسك بها كلما ازداد تأثيرها… العائلة العلوية التي تسكن المدن الكبرى كدمشق وحلب أكثر تأثرا بالثقافة السنية من العوائل العلوية في القرى، وهكذا هو الحال مع بقية الطوائف.
عندما زرت سوريا لأول مرة بعد أن هاجرت وكان ذلك عام ٢٠٠٣ وجدت إحدى بنات أخي ملتحفة بغطاء أكبر من شرشف تختي! ولما سألتها عن السبب، ردت: دخيلك ياعمتي أعيش في حي سني مغلق في إحدى ضواحي دمشق، ولو لم أفعل ذلك
يتهمونني بالعهر! وتابعت: لا أستطيع أن أمشي في زقاق الحي إلا بصحبة زوجي، يتحرشون بنا ونحن ملتحفات فكيف إذا خرجنا بزينا العادي؟ أليس وجود أعلى نسبة للتحرش الجنسي في مصر وباكستان دليلا صارخا على اضطراب العلاقة
بين الذكر والأنثى في المجتمعات السنيّة؟
……….
عندما هاجرت إلى أمريكا، وفي بداياتي هنا وقبل أن أتخذ موقفا واضحا من الاسلام، ارتبطت بعلاقات صداقة وعمل مع الكثير من العوائل السنية… كانت كلها متحررة إلى حد ما ومنفتحة العقل… لكنني لاحظت حتى لدى هؤلاء المتحررين ورغم بعدهم عن مجتمعات القيل والقال، ظلت العلاقة بين الرجل والمرأة مكهربة، إذ لم نستطع يوما أن نجلس نساءا ورجالا في غرفة واحدة نناقش بعفوية هموم الحياة، الأمر الذي أفقدنا الكثير من المتعة وجمالية التواصل الانساني….

هذا التصدي للدفق العفوي لأجمل العلاقات البشرية قطع التواصل بين الإنسان السني ذكرا كان أم انثى وبين نقطة الربط ـ التي تناولتها في بوستي السابق ـ وهي النقطة التي تربط حبله السري برحم أمه ـ وتجسد من خلال المنظار الأكبر نقطة ربطه بكونه ـ فضاع هذا المخلوق وهام على نفسه وحيدا لا يشعر بالانتماء إلى ذلك الكون، وما موقفه المشبع بالحقد ضد الجميع إلا نوعا من الاحتجاج على فقدانه لانتمائه. تعلقه اليوم بالاسلام لا ينبع من حب نقي وقناعة مطلقة بتعاليمه، وإنما ينبع من شعوره العميق بالانسلاخ عن عالمه! هو يتساءل في اللاوعي عنده: لو خسر هويته الإسلامية من سيبقى ومن سيكون؟ يعطيه تعلقه الوهمي بالاسلام إحساسا كاذبا بالانتماء…. ذلك الإنتماء الذي فقده عندما بنى جدارا من حديد يفصله عن المرأة في حياته،
عن المرأة ـ ليس فقط كزوجة ـ وإنما كأم وأخت وصديقة وجارة وزميلة عملية وشريكة مجتمع. الأمر الذي جرده لاحقا من هويته الكونية، التي تضمن استمرارية وجوده كمخلوق كوني عاقل… لا يمكن أن يشق رجل على سطح الأرض صدر رجل آخر ويأكل قلبه كما فعل ذلك الداعشي، إلا عندما تضطرب علاقته بالمرأة في محيطه! وما رأيناه من جرائم من حيث الكم والنوع، هو ثمرة حتمية لطبيعة العلاقة المكهربة والمضطربة والمريضة بين الرجل والمرأة في المجتمعات الاسلامية!
….
لكل حرب في التاريخ مؤامراتها واسبابها السياسية ولعسكرية والاقتصادية والثقافية ومليون سبب آخر…. لكن لتلك الحروب التي تجري اليوم في منطقتنا اسبابها الروحانية والطاقوية، منها وأهمها اضطراب العلاقة بين الذكر والأنثى. ذلك الاضطراب الذي وصل في استفحاله مراحلا متقدمة، لم يعد علاجه عندها سهلا فجاءت الحروب ـ كما هو العلاج الكيماوي للسرطان ـ الخيار الأخير والوحيد، وربما الأنجع!!
…………….
تقول الكاتبة والناشطة السياسية الأمريكية
ِAngela Davis
To understand any society functions you must understand the relationship between the men and the women
(لكي تفهم فعاليات أي مجتمع وطريقة حياته يجب أن تفهم طبيعة العلاقات بين رجاله ونسائه)
وتقول ايضا الكاتبة الأمريكية
Pearl Buck
The basic discovery about any people is the discovery of the relationship between men and women
(أهم اكتشاف يتعلق بخصوص مجموعة بشرية ما هو اكتشاف طبيعة العلاقات بين الرجال والنساء في هذه المجموعة)
بينما ـ ومن ناحية أخرى ـ يقول المفكر الروحاني الأمريكي ـ واين دايرـ في كتابه “غير أفكارك تغير حياتك
Change your thoughts, Change your life
(عليك أن تنساب مع عفوية الحياة كما ينساب النهر بعفوية إلى مجراه)
….
لقد تصدى الإسلام ـ بشكله السني الأصولي ـ لعفوية العلاقة بين الذكر والأنثى، فنصب الطبيعة عدوا له! لذلك، يبدو أن الطبيعة اليوم تجرف في طريقها المجتمعات التي تصدت لانسيابها العفوي، كما يجرف النهر كل الحجارة التي تتصدى لمجراه!!!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

2 Responses to الجزء السابع عشر من سلسلة مقالاتي عن سوريا

  1. س . السندي says:

    ١: صدق من قال { كل إناء بما فيه ينضح ، وكل عفن بما رسخ في عقله ينصح} ؟

    ٢: ما جرى في العراق ويجري في سوريا والمنطقة هو بسبب تلك الثقافة الذكورية المترسبة في العقول المتعفنة والمريضة ؟

    ٣: كان في منطقتنا كنيسة قديمة لم تسلم أبوابها الخشبية من الحرق ولا حتى الحديدية التي أبدلوها على أيدي دواعش الاسلام وفي عهد عبد السلام وَعَبَد الرحمن وحتى صدام ؟

    ٤: وأخيراً …؟
    صدق من قال {من يزرع الشوك يحصد العاقول} فحاشا لله أن يظلم قوماً يعرفه وللحق يستجير وعنده ضمير ، سلام ؟

  2. الحكيم says:

    لقد عبرتي عن مكنوناتنا باحسن مما نستطيع. ان السرطان الاسلامي والسني خاصه هو العاصفه التي تحمل ا لدمار ،الشر،المرض،البهيميه،والموت أنا حلت.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.