الجزء الثامن عشر من سلسلة مقالاتي عن سوريا

من صلب الثقافة العلوية أنهم يؤمنون بالمزارات، والمزار هو قبة تُبنى فوق قبر شخص ما، شخص يؤمن العلويون أنه
روح مقدّسة، وتستطيع أن تتواسط بينهم وبين ربهم. ليس هذا بيت القصيد في هذه المقالة، وإنما كتبته في سياق شرحي
للبعد الفلسفي لأفضل مثل شعبي تعلمته من ستي أم علي ـ على روحها السلام ـ وما أكثر الأمثال التي تعلمتها منها! كانت ستي وكلما تطرق الحضور إلى ذكر رجل شرير لا يخاف الله في عرفهم كانت تقول لي: (ياعين ستك، قلو يا ها المزار ياااااااما حلفت فيك كذب، فرد المزار: وأنا ياااااما عاقبتك ماعرفت) المقصود هنا، أن رجلا كان يمر بجانب مزار فالتفت اليه مستهزئا يقول: أيها المزار، كثير من المرات حلفت بك كذبا ومرت الكذبة، ها ها ها فأين البرهان على قدسيتك؟؟؟ فردّ المزار: انظر مايحدث في حياتك ترى فيه برهان قدسيتي!
….
ليس شرطا أن تؤمن بالمزارات، فهذا أقل ما يهمني، لكنني، ورغم عدم ايماني بها، التزمت حرفيا بالمعنى الروحاني لهذا المثل منذ أن بدأت أعي الكون وحتى تاريخ كتابة هذا السطر. لقد تعلمت منه أن كل خطوة نخطوها في الحياة نرى نتائجها في الخطوة التي تليها، وآمنت بأن كل لحظة نعيشها هي عقاب أو مكافأة لما فعلناه في اللحظة التي سبقتها! إنها فلسفة “الكارما” التي تعتبر من صلب الديانة الهندوسية والبوذية، والتي يؤمن بها العلويون أيضا. لقد تعلمت في البيت أنه لا يوجد جنة ونار، وكلا المفهومين نعيشهما على الأرض، سواء في هذه الحياة أو في حيوات سابقة أو لاحقة….. لم يستطع العلويون أن يشرحوا بالتفصيل كيف ولماذا، لأن الخوف قد اسقط من أرشيفهم الكثير من التعاليم التي آمنوا بها عبر تاريخهم، والتي على مايبدو أنها مزيج من الفلسفات التي سبقتهم.
بقيت الفكرة ـ عموماـ عالقة بأذهانهم، وفقدوا تفاصيلها تحت وطأة الخوف من سيف الإسلام لكنني، وعندما هاجرت إلى امريكا وبدأت أطلع على كل الديانات والثقافات، عثرت على تلك التفاصيل وبطريقة ممتعة جدا. لم أعثر عليها وحسب، بل عززت موقفي من الحياة!

……
في بداية التسعينات دخلت محلا لتغيير زيت سيارتي، كان المالك من أصل سوري، أعرفه وأعرف عائلته تماما، وكان دخله اليومي آنذاك لا يقل عن ألف دولار. بدأ يشتم أمريكا ويدعو لها بالهلاك.
قلت له: لم يمضِ على حصولك للجنسية الأمريكية سوى أشهر، ألم تقسم أمام القاضي بأن تكون مخلصا للبلد الذي آواك وأعطاك فرصة للعيش الكريم؟؟
رمقني بنظرة حادة وقال مستهزاأ: ها..ها..ها لقد اقسمت بيسوعهم الناصري!! قلت: ليس مهما بمن أقسمت، المهم على ماذا أقسمت!
اليوم، لن أدخل في تفاصيل حياة رجل لا تهم أحدا، ولكنني أرى في كل ماحدث ويحدث في حياته برهانا على قدسية “المزار” الذي أقسم به. احلف بالحجر كذبا وستفج رأسك لاحقا!!!
….
لكل فكرة، لكل كلمة، لكل نيّة، ولكل تصرف طاقة خاصة بها، هي طاقة ايجابية أو سلبية وفقا لمقدار الخير أو الشر الذي تحمله.
روح الإنسان تتشرب طاقة الأفكار والكلمات والنيات والتصرفات التي يملكها ويقوم بها. بناء على ذلك، المخزون الروحاني عند الانسان يشبه في دينامكيته إلى حد بعيد مخزونه البنكي. الخير في أعماله يتراكم على شكل طاقة ايجابية في مخزونه الروحاني،
والشر يتراكم طاقة سلبية. ومايحدث في حياته على أرض الواقع يعكس حصيلة الفرق بين النوعين من الطاقة اللذين امتصتهما روحه. ايماني هذا ساعدني على ان أتعايش مع الحرب السورية، رغم ما أحدثته في وجداني من جروح وما تركته من ندبات، وساعدتني على أن أتفهم اسبابها ونتائجها، الأمر الذي خفف عني وطأة آلامها!
……..
الموالون في سوريا يعتبرونها حربا كونية، وأنا أتفق معهم بالمطلق…. ولكن مفهومي لكلمة “كونية” يختلف أيضا بالمطلق عن مفهومهم! هم يؤمنون بان كل الدول على سطح الأرض تكالبت على سوريا، ولست هنا لأدحض أو أعزز هذا المفهوم ، فالسياسة لا تعنيني! أما مفهومي لكلمة كونية فيختلف، الكونية عندي لا تعني مجموعة الدول على سطح الأرض التي شاركت وتشارك في هذه الحرب المجنونة، لكنها تعني القدرة الكونية الكلية والمطلقة في حجمها وفي خيرها! أحسها ولا أستطيع أن أجسها، ولذلك لا يمكنني وصفها! سمها ماشئت: الله، الكون، الضمير، الذكاء الكوني، العقل الكوني، الذات العليا للكون لا تهم التسميات طالما المقصد واحد.
المفكر الروحاني الأمريكي (واين داير) يطلق عليه اسم “المنبع”، وهو الاسم الذي يسحرني، وعلي بن أبي طالب يعرفها بطريقة لم يستطع أحد على سطح الأرض أن يعرفها بأفضل منها، يعرفها من خلال تعريفه لله، فيقول: (الله هو الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه والباطن فلا شيء تحته) بهذه الطريقة هو لا يعرفه وإنما يزيده لغزية، وعظمته ـ من وجهة نظري ـ تكمن في لغزيته هذه القدرة هي لغز الحياة وهي منبعها…. هي خيرة بالمطلق، تجذبك إليها عندما تكون طاقتك ايجابية لأنها تنناغم مع طبيعة طاقتها وبالتالي توصلك بمنبعها فتصبح معبرا لدفقها، وتنبذك عنها عندما تكون طاقتك السلبية, لأنها تتنافر مع طبيعة طاقتها، فترميك بعيدا عن منبعها ومحروما من دفقها…..
……
أول تجربة عشتها بهذا الخصوص كانت حادثة أثرت على حياتي وتحكمت بتصرفاتي أكثر من أية حادثة اخرى، وقعت عندما كنت في منتصف العشرينيات من عمري وكان ابني مازن في الرابعة من عمره. استضفت طفلة ماتت أمها لمدة ثلاثة شهور في بيتي، وكانت آنذاك بعمر مازن تماما. كان ذلك في منتصف الثمانينيات، يوم كانت سوريا محاصرة اقتصاديا وتمر بمجاعة حقيقية وكان سعيدا من يحصل على كيلو غرام تفاح من المؤسسة. كنا نسميه تجاوزا “تفاحا” فهو ليس متماثلا لا بشكله ولا بلونه، ومبعجر كالوجه الأجرب! مرة ناولت الطفلة بشرى تفاحة ومازن تفاحة أخرى وخرجت من المطبخ باتجاه إحدى الغرف، ثم فجأت توقفت وأحسست أنني اقترفت جريمة، شيء غريب حدث في تلك اللحظة، شيء غارق في لغزيته…… احسست أن قوة هائلة ضربتني بعرض الحائط وافقدتني توازني. تمالكت نفسي وجلست على صوفا في غرفة الجلوس، ثم وعدت نفسي أن لا أفعلها مرة أخرى في حياتي…. لقد أعطيت وقتها التفاحة الأكبر والأجمل منظرا لمازن. قد تكون غريزة الأمومة، لكنها ليست غريزة الخير المزروعة في اعماقنا… بعدها بدأت أضع تفاحتين على الطاولة في المطبخ وأصيح بالأطفال كي يذهبوا ويلتقط كل منهما تفاحته! منذ يومها وأنا أحاول أن لا أحلف بالمزار كذبا لكي لا تضربني الكذبة بعرض الحائط، وكلما اصطدمتُ بحائط أعيد النظر في التصرفات التي سبقت تلك الصدمة. لكل منا مزاره، والبرهان ليس في المزار نفسه وإنما في التصرف وما آل إليه أو لكي أكون أكثر دقة، المزار ـ أيا كان مزارك ـ هو بالنهاية تلك القدرة الكونية الكلية واللامتناهية بحجمها وخيرها. هي وحدها تحاسبك، وتحاسبك بناءا على ما ترسله باتجاهها…. نعم أنا موصولة بمنبعها، ولذلك نبعي لا ينضب……
…….
قصة أخرى لا أعرف لماذا انحفرت على جدران ذاكرتي، كنت يوما أتمشى مع مازن ابن الخامسة في شارع ٨ آذار في اللاذقية،
دخلت محلا لبيع الحلويات واشتريت له قطعة كييك، لم يكن معي مايكفي لأشتري واحدة لنفسي. وقفت من وراء الزجاج في المحل اراقب السيارات والمارة، بينما راح مازن يقضم حلواه بنهم….. وإذ بسائق طرطيرة ـ البعض في سوريا يسمونها طرازينا ـ وهي سيارة صغيرة على شكل عربة، لها ثلاثة عجلات وتسير بمحرك على الوقود. إذ به يقف أمام مدخل البناية المقابلة فيترجل منها راكب وحمولته. ساعده السائق في نقل الحمولة إلى بيته الذي كان بابه مقابلا تماما لمحل الحلويات. مد الراكب يده وناول السائق اجرته ثم أغلق الباب. وقف السائق في مدخل البناية وهو يظن أن لا أحدا يراه، ثم قبل النقود وأخفض رأسه لمدة أقل من دقيقة، وبعدها رسم اشارة الصليب على رأسه وكتفيه. أدركت عندها أنه قدم صلاة يشكر بها خالقه على حصاده. سرت في جسدي قشعريرة امتدت لتستعمر كل خلاياي حتى وصلت إلى نخاع عظمي، أمعنت النظر فيما تبقى من قطعة الحلوى بيد مازن، وغريزة الأمومة تتصدى لشهيتي بالمرصاد، ثم نظرت إلى السماء: يارب ليس معي أشتري لنفسي قطعة حلوى، ولكنني أشكرك من أعماقي لأنني امتلكت اليوم مايكفي لاشتري لطفلي قطعة! منذ ذلك الحين وأنا أشكر الله حتى على باقة البصل في ثلاجتي،
ولأنني أشكره صارت حياتي امتداد لقطعة الحلوى في يد مازن…..
………
في جامع العجان الذي لم يكن إلا على بعد ضربة حجر من شارع ٨ آذار، ذلك الجامع الذي طالما تفاديت المرور من جانبه في طريقي من حي المارتقلا إلى المشفى الوطني، كي لا تقتلني رائحة مراحضيه، حيث يتوضئ المصلون فيغسلون أقدامهم قبل أن يغسلوا قلوبهم، فالصلاة هي انعكاس لطهارة القلب وليس لما يعلق على القدمين…. في ذلك الجامع كان خطيب الجمعة يزعق
لاعنا المغضوب عليهم والضالين، أحفاد القردة والخنازير، ومبتهلا إلى ربه كي يدمر بيوتهم ويرمل نسائهم وييتم أطفالهم
ويحرق زرعهم وغرسهم!! كان هذا المغفل يجهل أن الله لم يسمع يوما صلاته لأنه كان مشغولا بالانصات إلى صلاة
ذلك الرجل ـ من المغضوب عليهم ـ الذي قبل النقود ورسم اشارة الصليب على رأسه وكتفيه، ثم غادر ليجني مزيدا من خبزه “كفاف يومه”…..
من ينتظر كي يبني بيته على أنقاض بيوت الآخرين سيظل مشردا، ومن ينتظر كي يلبس حذاء غيره سيظل حافيا!
…..
المسلم يصلي خمسة مرات في اليوم، ويتلو في كل صلاة فاتحته عدة مرات، وخلال تلاوتها يشتم غيره بالمغضوب عليهم والضالين… هل أحد فيكم يدرك كمية الطاقة السلبية التي تنجم عن تكرار هكذا آية؟؟؟ هل أحد فيكم يجيد العمليات الحسابية، فيقدم لنا تصورا معقولا عن الشحنات السلبية التي احتقن بها العقل الجمعي من خلال تكرار ذلك اللعن والشتائم على مدى ١٤٠٠ عام؟؟؟
ناهيك عن، ـ فضرب الرقاب…. ـ وقودها النار والحجارة اعدت للكافرين…. ـ ترهبون عدو الله وعدوكم…. ـ يا آيها النبي حرّض المؤمنين على القتال….. ـ أن يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف… ـ حتى يأتوا الجزية عن يد وهم صاغرون….
وقس على ذلك، في كتاب احتقن ـ إلى حد الانفجار ـ بالأنا البشرية المحمدية المدججة بكل أصناف العنف والقتال، والمجردة من أي أثر للذات الإلهية…. نحتاج إلى فيثاغورت كي يأتي بتقرير حسابي تقريبي وليس حرفيا، لأنه لا يوجد رقم حسابي يستطيع أن يجسد تلك الشحنات بدقة…..
………….
مارادونا لاعب كرة قدم ارجنتيني مشهور، منذ أكثر من خمس وثلاثين عاما كان يلعب مع فريقه المباراة النهائية لكأس العالم،
في آخر لحظة ضرب الكرة من نصف الملعب، فأدخلها في مرمى منافسه ليسجل بذلك هدفا يحسم النتيجة لصالح فريقه…. أختلف حكام الكرة في العالم حول تلك الضربة، بعضها قال أنه ضربها بيده والبعض الآخر أصر أنه ضربها بقدمه… كنت استمع مرة لمقابلة مترجمة معه، سأله خلاله المذيع: لقد ربحتم الكأس، ولكن قلي بصراحة هل ضربتها بيدك أم بقدمك؟ فرد مارادونا: ضربتها بيد الله! جميل أن تؤمن بأنك تحمل يد الله وهي ستساعدك لتضرب كرة في المرمى فتربح مباراة، ولكن ليس لتضرب بها رقبة غيرك حتى تثخنها فتربح الجنة….
…………….
كاثي صديقة أمريكية طيبة ومن ذوي الدخل المحدود، هجم كلب الجيران على كلبها فمزقه وسبب له نزيفا داخليا… خلال أقل من عشرة دقائق كانت قد نقلته سيارة الاسعاف إلى المشفى خضع لعملية جراحية، ونجا باعجوبة! وصلت فاتورة المشفى إلى كاثي تحمل رقما خيالا ثلاثة آلاف دولار… لا شك أنها لو رفعت دعوى ضد الجيران سيحكم لها القاضي بكل التكاليف و “حبة مسك”….
عندما فاتحتها بالأمر قالت وهي تطبع قبلة على رأس “غوتشي”: لا لن أذهب إلى المحاكم سأدفع الفاتورة ولو بالتقسيط على مدى سنوات! ـ لماذا؟ ـ هل تعلمين يا وفاء أن المحاكم هي الأماكن الأكثر احتقانا بالطاقة السلبية، كل واحد هناك ضد الآخر، ويتطلع ليسحق غريمه! وتابعت:
أفضل أن أدفع الفاتورة على أن أمتص تلك الطاقة!!
….
آخ…..آخ….آخ يا كاثي! لو أستطيع أن اقنعك بزيارة الحرمين “الشرفين” لا لتمتصي طاقاتهما السلبية التي نجمت عن أربعة عشر قرنا من شتمك وشتم أبائك وأجدادك، وتسفيه معقتداتك، بل لتعمديهما ببعض من طاقتك الايجابية…. علّ ذلك يخفف من سعير تلك الحروب التي تبيد المنطقة…
….
…..
نعم إنها حروب كونية!!! لا علاقة لأمريكا ولا لاسرائيل ولا لروسيا ولا للصين ولا لاردوغان ولا لبشار الاسد بها إنها يد الكون التي أدخلت كرة مارادونا في المرمى، تقتص اليوم من العقل الجمعي المحقون إلى حد التخمة بالطاقة السلبية! هذه الحروب بدأت في سوريا لكنها لن تنتهي هناك، ستمتد حتى تصبح مكة غوطة السعودية، أو يحالفهم الحظ، فيتعظون ويتعرون من آخر ورقة توت في محاولة لدفع تعويضات عن الجرائم الدموية والنفسية التي ارتكبوها بحق الغير، منذ أن رفع محمد أول سيف في وجه “المغضوب عليهم والضالين” وحتى تاريخ اليوم.
…. …. وإن غدا لناظره قريب!!!!!
**********************************************************
أعزائي القراء: للموضوع صلة فتابعوني…. عندما اصطحب جازي في زيارة للأسواق، تستنزف مخزوني البنكي، لكنها
كشلالات نياغرا ترفد مخزوني الروحاني، فأشعر بالحاجة لأصب روحي المشبعة بالطاقة الايجابية، لأصبها على صفحاتي…..

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.