الازدهار الياباني والملائكة السبعة 1

د خليل حسن

من مفكرة سفير عربي باليابان

 في زيارة استطلاعية إلى مدينة كيوتو التاريخية والثقافية لفت نظري تحفة للملائكة السبعة اليابانية، وحاولت من خلال هذه التحفة أن أتفهم علاقة التطور والازدهار الياباني بالمفاهيم الأسطورية والروحية اليابانية. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن الازدهار في أي بلد ما مرتبط بكفاءة موارده البشرية، وغزارة موارده الطبيعية. وتنعكس كفاءة الموارد البشرية في دقة الوقت، ومهارة الأداء، مع مستوى علاقات التناغم في العمل وأخلاقياته، وجميعها صدى لثقافة المجتمع التاريخية والأسطورية مع مفاهيمه الروحية. وبينما تعتبر اليابان متميزة في مواردها البشرية، فهي تجابهه تحديات كبيرة في مواردها الطبيعية. فمع أن عدد سكان اليابان لا يزيد عن 127 مليون نسمة، ولكن مجموع مساحة جزرها الكثيرة لا تتجاوز 350 ألف كيلومتر مربع، وحوالي 80% من أرضها جبال وغابات، والتي يقدسها الشعب الياباني، ولا يحاول المساس بطبيعتها وجمالها. كما تعاني اليابان من كثرة الزلازل والطوفانات، بالإضافة لشح الموارد الطبيعية، كالمعادن، والنفط، والغاز. والسؤال المحير: كيف استطاع الإنسان الياباني أن يتعامل مع التحديات الطبيعية والتاريخية ليحول بلاده دولة التعليم والتصنيع في القرن السابع عشر، ودولة التكنولوجية المتطورة في القرن التاسع عشر؟ وكيف استطاع هذا الشعب أن يتجاوز مأساة دمار الحرب العالمية الثانية، لتتحول بلاده خلال عقود قليلة إلى ثاني أعظم اقتصاد عالمي؟ وما علاقة كل ذلك بالروحانيات اليابانية وأساطيرها؟

لنستطيع عزيزي القارئ الإجابة على الأسئلة السابقة سأحاول أن أقسم الحوار في هذا المقال إلى ثلاثة أجزاء، وسنناقش في الجزء الأول مفهوم العام للأسطورة وتطورها مع تطور الجنس البشري، بينما سنتدارس في الجزء الثاني خصوصيات الأسطورة في التاريخ الياباني، وبعدها سنخصص الجزء الثالث لدراسة تأثير ثقافة الأسطورة والدين على تطور الإنسان الياباني ومجتمعه. 

لنتفهم تاريخ بدأ الأسطورة وتطورها في المجتمعات البشرية، شدني مؤخرا مراجعة كتاب يبحث علاقة الأساطير بالأديان وضرورة خلق توازن فهمهما، لتطوير التجربة الديمقراطية لتلعب دورا في استقرار المجتمع وازدهاره، مع المحافظة على القيم الإنسانية الروحية الدينية، والوقاية من استغلال الدين للعب السياسية الطائفية المقيتة. وقد كتبته المؤرخة والكاتبة البريطانية كارن أرمسترونج، التي عاشت كراهبة بالكنيسة البريطانية، وقررت بعدها أن تترك الكنيسة، وتتفرغ لدراسة الأديان، والبحث في أعماق مفاهيمها وفلسفتها. وقد كتبت الكثير عن الإنسان والآلهة والأديان، وتتحدث في كتابها، الأسطورة، عن أسباب نشأة الأساطير في التاريخ البشري، ومدى تأثيرها في سلوك الشعوب وارتباطها بالأديان، ومدى أهمية تفهم هذا الارتباط لتحقيق أحلام الإنسان المستقبلية في الرقي والإزدهار.

وتوضح الكاتبة بشكل جميل بأن الإنسان ملهما منذ بدأ نشأته بخلق الأسطورة، فمن خلالها يرضي غرائزه، ويحقق أحلامه، وينقل خبراته وحكمه للأجيال القادمة. وتعتقد الكاتبة بأن تصنيف التاريخ البشري واكب ثلاث مراحل من خلق الأسطورة، وتمثلت المرحلة الأولى بتداول الأساطير لأسرار الكون وأحلام الإنسان، بينما انتقلت في مرحلة التقدم الحضاري والعمراني إلى تفهم العقائد الدينية، وأما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة تطور المجتمع المدني وبداء الاكتشافات العلمية، أي مرحلة بدأ الإنسان البحث في العلوم المادية مع تخيلاتها العلمية. وقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة بأن حياة الدنيا ليست إلا بداية لحياة أخرى، وقد أكد رجال الآثار هذه الحقيقة، بكشف ما تحوي قبور الأقدمين من كنوز جمعوها في قبورهم لأخذها لحياة الآخرة. ويعتقد الذهن البشري بأن هناك الكثير من الأشياء التي لا يستطيع المخ المادي أن يفسرها ويقتنع ماديا بوجودها، لذلك تطور التخيل في العقل البشري، وبرزت الأساطير، والتخيلات العلمية، وتطورت معها فلسفة ومفاهيم الأديان المختلفة.

و تعتبر الأساطير في عالمنا المادي اليوم خرافات غير معقولة، مع أن مخيلة الأساطير هي التي مكنت الإنسان أن يحلم في المستقبل، ويكتشف علوم جديدة، ويبدع باختراعات حديثة. فمخيلة العلماء هي التي حملتنا إلى عالم الفضاء الخارجي فمشينا على القمر، وزرعنا المريخ، وسحبنا الطاقة الكهربائية من على سطح الشمس. فالأسطورة، والتخيلات العلمية، مع العلوم المادية، توسع مدارك ذهن الإنسان، وتحلقه على سحابة أحلام مستقبلية عجيبة، كما تساعد الإنسان لان يعيش ويتفهم الواقع الحياتي باعماقة، ويحلم بتغيره، وتطويره. وقد مزجت الأساطير قديما بين الإنسان والحيوان والطبيعة بتناغم جميل، كما تعرضت للقوانين الأرضية، والقيم الإلهية بشكل متوازن، ولم يوجد في بداية التاريخ البشري شرخا بين عالم الآلهة والعالم البشري، كما لم يفصل الإنسان وجود الآلهة عن قوة الرياح، وحيوية الأنهار والبحار، ولا عن العواطف الإنسانية في الحب، والكراهية، والانتقام. وقد خلق الإنسان الأساطير لتساعده للتعامل مع معضلات الحياة والطبيعة بشكل حالم سلس، كما ساعد البشر أن يعرفوا موقعهم في هذه الحياة، ويتساءلون من أين أتو، وكيف بدأت الحياة، وماهي سرها، وإلى أين هم ذاهبون.

وتعتقد كيرين أرمسترونغ بأن الأسطورة هي فن ينظر الإنسان من خلاله لما وراء حوادث التاريخ ودراسته، فقد كانت خبرة السمو لما وراء الواقع المادي رغبة ونشوة إنسانية دائمة، كما أن الإيمان الديني يرفع الإنسان لهذا السمو النفسي، المترافق بنشوة روحانية، تطير بالإنسان لما وراء واقعه الحياتي. وحينما فقد بعض البشر نشوة الإيمان في واقعه المادي، توجهو للإحساس به من خلال الأدب والشعر والموسيقى والرياضة. فالأسطورة هي كالقصة والأوبرا والباليه، وهي تصور يمجد عالمنا المنقسم والمأساوي، وتساعدنا أن نتأمل احتمالات وتساؤلات جديدة، وقد تؤدي لاكتشافات علمية وتكنولوجية مهمة. فالأسطورة هي حقيقة، ليس لان وقائعها حقيقية، بل لأنها مؤثرة في أعطائنا العمق للنظر للواقع المادي، والاستلهام للإبداع لخلق مستقبل أفضل. كما ان الأسطورة هي دليل يوجهنا للتعامل مع الحياة بتناغم وغناء روحي جميل، ويساعدنا على اكتشاف خبايا العقل الإنساني، الذي قد لا يمكن إدراكه، وكبداية لعلم النفس. فقصص الإبطال والإلهة الموجدة ما وراء عالمنا، والتي تحارب الجن والأشباح، أبرزت خفايا سيكولوجية الإنسان، وعلمتنا كيف نتعامل مع أزمات الإنسان النفسية الداخلية.

وقد بدأت حياة الإنسان بعصر الصيد منذ أكثر من عشرين ألف عام، واعتقد الإنسان بآلهة السموات المراقبة، والمحاسبة لاخطاءه بالكوارث الطبيعة، كما تمثل السمو الروحي بالسماء والجبال المقدسة. وانتقلت البشرية لعهد الزراعة في الألفية الثامنة قبل الميلاد، فعرف الإنسان فائدة الأرض والري، وبرزت مع العصور الزراعية آلهة السماء، فعرفت في سوريا إلهة الاشيرة، وفي بلاد ما بين النهرين إلهة اينان، وفي مصر إلهة البايسس، وفي اليونان آلهة هيرا وديميتر وافرودايت. ومع بداية عصور الحضارة العمرانية في بلاد ما بين النهرين ومصر والصين والهند وجزيرة كريت، بداء العمل على بناء المدن وتشكيل الولايات. كما أستمتع الإنسان بنشوة السيطرة والقوة، فبدأت الخلافات بين الولايات، ونزلت لعنة الطمع والعنف والحروب.

وقد اعتبر أهالي الهلال الخصيب بأن مدنهم هي المكان المناسب لملاقاة الآلهة فحولوها لجنان الأرض. فبداءت تقطن الآلهة المعابد في داخل المدن، بجانب البشر فتقرب الإنسان من آلهته. وقد عانت حضارة ما بين النهرين وحضارة مصر من فيضانات الأنهار، واعتبر المواطنين غضب الآلهة، فقدمت القرابين لتهدئتها. كما برزت الآلهة في المادة المقدسة الغير محددة، فامتزج الملح مع الماء المر، ولم تكن السموات والأرض والبحار مفصولة عن بعضها، كما كانت الآلهة بدون شكل أو اسم أو مستقبل. وقد كانت أوائل آلهة التي برزت من هذا المزج غير منفصلة من المادة المبهمة، فإبسو كان إلهه الماء النهري، وتيمت إلهه البحر المالح، والمومو إلهه السحب الضبابية. وقد تشكلت من هذه الآلهة المبهمة آلهة جديدة، توضحت معالمها، وبداءت تنفصل أجزاء الكون عن بعضها البعض، فانفصلت السماء عن الأرض، وبدأت تنفصل اليابسة عن البحار والأنهار، كما بدأت الآلهة من مزيج من الماء والطين، وسميت لاهمو والاهامو، وبعدها انشير وكيشار، أي أفق السماء والبحار، ومن ثم آلهة السموات انو، والهة الأرض إياه. وقد كانوا الآلهة الجدد أكثر نشاطا، فابسو غطس في قاع الأرض، واينو وإياه بنو قصورهم بين المعابد وقاعات المدن. وقد تحولت آلهة التيمت إلى آلهة خطرة، وخلقت وحش ممسوخ، للانتقام من إيبسو، كما برزت آلهة مختلفة في بلاد الهند والصين، واليابان. ومع التطور العلمي والصناعي والتكنولوجي بدأت الآلهة تبدو بعيدة عن البشر، وبداء الإنسان في العمل للتعامل مع التحديات الطبيعة، بدل تركها فقط لآلهة السماء. كما أخذ الإنسان في التعبير عن عواطفه وأفكاره المختلفة من خلال القصص والقصائد والأشعار، ومن أشهر القصائد في التاريخ البشري هي ملحمة جلجامش، والتي يعتقد بأن تاريخها يرجع لعام ألفين وستمائة قبل الميلاد.

ومع تطور التاريخ البشري استمر تطور مفهوم الآلهة والدين عند الإنسان، فبرزت الهندوسية، فالبوذية، فالأديان السماوية، اليهودية فالمسيحية فالإسلام، كما بداءت تنتشر المؤسسات الدينية وتزداد قوتها المادية والمعنوية. وبدأ التطور السياسي في المجتمعات البشرية، وحاولت القوى السياسية الاستفادة من الدين كقوة سياسية جديدة. فالتفتت القوى الحاكمة لخطورة اللعبة الجديدة من خلط السياسة بالدين، مع بداء سيطرة المؤسسات الدينية المسيسة على عقول الإفراد، فبدأت بالعمل لفرض سيطرتها على هذه المؤسسات، والاستفادة منها لتقوية مواقعها المجتمعية. فتداخل الدين بالسياسة، واستغلت المؤسسات السياسية والحاكمة المؤسسات الدينية لمصالحها، وأخذت تصدر قرارات سياسية في صياغة دينية. كما بدأت قيادات الدول بالتوسع بغزو أراضي بلدان مجاورة وبعيدة باسم الدين، فتطور مفهوم الاستعمار، لتبدأ مرحلة معاناة بشرية جديدة، من حروب، وغزو، وعبودية، وتفرقة عنصرية ودينية ومذهبية.

وعاش التاريخ البشري مرحلة جديدة مع بداء الثورة الفرنسية عام 1789، لتبدأ حركة التغير في المجتمعات الأوروبية، وتترافق بتغير الأنظمة الحاكمة، والسياسات، والإيديولوجيات المرافقة لها. فإنتهى حكم الإقطاع، كما صودرت أموال الكنيسة، وألغيت جميع المميزات السياسية التي كان يستمتع بها رجل الدين، ليتحول رجل الدين لفرد عادي، ضمن المجتمع الغربي المدني الجديد. وبداءت تبرز الإيديولوجيات الدنيوية، وبهتت المؤسسات الدينية وقياداتها، وترافقت هذه التغيرات الدينية السياسية مع التطور العلمي والصناعي، ليكتشف الإنسان بان التطور المادي العلمي سيسخر القوى الطبيعية لخدمته، فضعفت المفاهيم، والقيم، والأخلاقيات الدينية، وبرزت الأفكار المادية والقومية والماركسية. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين باليابان 

 المصدر ايلاف

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.