الإنسان الكائن الأكثر نضالاً – وفق نظرية التطور

داروين ونظريته العظيمة التي أسرت واستفزت الكثير من البشر بما حملته من فرادة وجرأة تعدت على كل المفاهيم الجامدة والتقليدية السابقة لماهية أو كيفية خلق الإنسان وتطوره، بما حملته من حجج قوية بعيدة عن منطق التخمين الحكواتي أو الغيبي الذي ضل الإنسان غارقاً في سرده وتصوره حول ماهية الإنسان ومكمن نشأته، تلك النشأة التي يغلب عليها طابع القداسة والعجائبية الإلهية التي حاول فيها الإنسان على مر العصور أن يتصور أو يدعي بأن خلقه كان وفق معطيات سماوية طينية وبأصابع إلاهية شكلته وصنعته بعناية واهتمام، تحت ظروف مهيبة وأمر خارق يتجلى بـ كن، فكان إنساناً، لا شيء قبل كن ولا شيء بعدها.
وما أثاره داروين بنظريته وأولئك المعتنقين لها بكل ما الحقوه وأضافوه عليها من إضافات ودراسات وافتراضات، هو أن جانباً من تلك النظرية – لم يفهم بشكل منصف – كان يقول بأن أصول الأنسان انبثقت وتطورت من أصول قردية أو حيوانية بدائية، كان هذا الجانب من النظرية هو السبب الأقوى لاشتهار وطغيان هذه النظرية في عقول ونفوس الكثير وخاصة من أولئك الذين شعروا بالاستفزاز والإهانة من افتراض كونهم ينتمون إلى فصيلة قردية يرونها اكثر تدنياً واقل شأناً من تلك التصورات التي عاشوا قروناً وعصوراً على افتراضها، والتي منحتهم طابع القداسة والكمال عن كل ما هو حيواني، ومنحتهم ذلك الشعور بالمركزية على هذا الوجود.
بالنسبة لي لا أرى في نظرية التطور لداروين أي إهانة أو تحقير من شأن الأنسان حتى من بعض أبعادها القردية التي كانت سبباً رئيسياً لاحتقارها ورفض غالب الناس لها، فكون الأنسان كان من أصول قردية ناضلت في مقاومتها للحياة وتطورها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الإنسانية اليوم من غزوا للفضاء والطبيعة بغالب أشكالها، ما وصلت إليه من ذكاء وسع الكثير من مكامن هذا الوجود وفهم غالب مقاصده وسببياته، لهو أمر عظيم يستحق التبجيل ورفع القبعة لذلك الكائن القردي الأول والمناضل والأجدر بالحياة من حيث منطقها وأخلاقها المبنية على القوة والذكاء، هذه النظرية تقول لي أن الإنسان عاش على هذه الحياة ببسالة، وحصل على ما حصل عليه اليوم بجدارة تفوق احترامنا لتلك الروايات الدينية التي تقول أن الإنسان وجد بـ كن او تشكل من عجينة طينية شكلت بيدي الإله ليصل إلى ما وصل إليه اليوم بمساعدة كائنات فضائية مقدسة، وأنه من دونها لم يكن ليتطور أو ليحصل على هذا المجد، وهذه القوة المبهرة التي تكاد تقريباً تسيطر على كل الموجودات والكائنات والموجودة دونها.
إن قرداً يصل اليوم إلى الفضاء ويحاول أن يخترق غموضها وعتمتها الأزلية لهو قرد يستحق مني كل الاحترام والمدح والفخر.
ألا يستحق كل هذا منا احتراماً وفخراً بكفاحنا الذي خرجنا من خلاله من طور وقيود الحيوانية القردية إلى طور الإنسانية العاقلة والمبتكرة والخلاقة؟! أليس في نظرية التطور من هذه الزاوية تكريم ودعم لهوية الإنسان وبأسه وتفوقه أكثر من أي نظرية أخرى غارقة في الميتافيزيقيا الأسطورية اللامعقولة واللامصدقة واللامبجلة لقدراتنا كبشر، نالوا ما نالوه بفضل كفاحهم ومعجزاتهم التي صنعوها بأنفسهم، صنعوها وحدهم بفضل ذكاءهم وفهمهم لمنطق الحياة، بفضل مقاومة وذكاء كل خلية جينية وحسية ونفسية وعقلية، لا بفضل مثل تلك الروايات التي تستهتر بشأن الإنسان ومنطقه وقوتة الفردية، بل ومن شأن منطق الحياة ذاتها، بتلك القصص التي يثبت الواقع والعلم تفككها وركاكتها يوماً بعد يوم، واضعة لنا في خجل أبلغ وأكبر من خجلنا من ماضينا القردي المناضل بكل بسالة.

About طلال قاسم

طلال قاسم، كاتب وروائي وباحث عربي من اليمن تحديداً، ينشد الحرية والسماء الواسعة للفكر الحر للإنسان بشكل عام وللإنسان العربي بشكل خاص.
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.