سياف الزهور- اغتصاب كان وأخواتها

فجأة، ودون سابق إنذار، ركنوا جانباً ، قضية فلسطين، وتعثر المفاوضات على المسارات كلها، واستمرار قصف الجنوب، وحصار العراق، واحتمال تقسيمه إلى حارات وأزقة، والحلف التركي – الاسرائيلي ، وقضية لوكربي، والمذابح في الجزائر، والوضع المتفجر في البلقان، والقرن الافريقي، وقضية أوجلان، وكل ما تحفل به المنطقة من أحداث وتوقعات وانفجارات، وكرّسوا كل طاقاتهم وجهودهم للدفاع عن “اللغة العربية”، والذود عن حياضها ، وشنّ حرب لا هوادة فيها ضد اللهجات المحلية التي تتهددها.

وعلى رأسها تعريب المصطلحات الطبية، والعلمية، والكيميائية، والفيزيائية، والعضوية، والبيولوجية، واستبدال أسماء الشوارع، والساحات، والفنادق، والمسابح، والمقاهي، والمطاعم، والملاهي، بأسماء عربية، لا عجمة فيها ولا إبهام بدءاً بدبلجة المسلسلات المكسيكية والصور المتحركة وانتهاءً ببرامج المنوعات وطبق اليوم.

وتشكلت اللجان، ورصدت الميزانيات، وأعدت لوائح الكتبة والمؤرشفين والورّاقين، وامتلأت أروقة الإذاعة والتلفزيون ودور الصحف والمجلات من المحيط إلى الخليج. بوجهاء اللغة، وأعيان الصرف والنحو، وفقهاد البلاغة والإملاء والانشاء، مع أن أحداً لا يشك للحظة واحدة بأن سيبويه قد يصاب بالصداع النصفي أو الشقيقة في قبره، قبل أن يتفق لغويان عربيان على إيجاد بديل، أو مرادف لغوي لكلمة “أسبرين”. وقد تحتل اسرائيل ما تبقى من الأراضي العربية المحتلة وكل ما عليها من مجامع لغوية، قبل أن يتفق أربابها على تفسير كلمة “احتلال” أو إيجاد الجذر اللغوي لها، وكأنهم يسمعون بها لأول مرة في حياتهم.

***

في الحقيقة ، إنني أتوجس شراً من أية مبادرة سياسية كانت أم علمية أم تربوية تقوم بها فجأة أية جهة رسمية، وتذكرني بمبادرة السادات ونتائجها.

ولكن لنفترض حسن النية ونبل المقصد من وراء هذه المبادرة ، وأن القائمين عليها هم نفسهم الملائكة الذين كان مجلس الشيوخ الروماني يبحث في جنسهم قبل الميلاد وحتى الآن، وصار لهم ما أرادوا، وقضي على اللهجات المحلية قضاء مبرماً في كل ارجاء الوطن العربي، وأصبحت اللغة العربية الفصحى هي السائدة في أي حوار أو سؤال أو جواب، في جميع الدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية، وشركات القطاع العام والخاص، والجامعات والمدارس ودور الحضانة، ودور السينما والمسرح والملابس الرياضية وفي المستشفيات والصيدليات والبقاليات وأسواق الصيرفة والمال، ووسائل النقل والسائقين والركاب وشرطة المرور، والفنادق والمسابح والمطارات والسفارات والقنصليات ومراكز الحدود، والمقاهي والمطاعم وعلى ألسنة التجار والمستهلكين والباعة المتجولين.

فإنني أسأل الملك سليمان الذي كان يفهم لغة الطيور والأسماك والحيوانات إذا كان يفهم وزير خارجية أو ناطق رسمي عربي باسم أي جهة وهو يجيب على سؤال واضح وضوح الشمس، لا عن سياسة بلاده الخارجية أو الداخلية، أو موقفها من هذه القضية أو تلك من قضايا الساعة، بل عن حالة الطقس أو الطرق في بلاده، ولو كان يتكلم بلغة جرير والأخطل الصغير والكبير.

إنه الرعب!

وفي هذا السياق ، ثمة سؤال لغوي بريء في غاية البراءة يتبادر إلى الذهن:

ترى في سجون التعذيب وأقبية المخابرات الرهيبة، وهي في المحصلة – القاعدة الشعبية الرئيسية لمعظم أنظمة الحكم في الوطن العربي- حيث الصراخ والعويل من البرد والرعب والصعقات الكهربائية، بأية مفردات، بل بأي قريض أو بيان يتم استجواب المتهمين والنيل من كراماتهم وأعراضهم حتى سابع جد؟

وهل على المهتمين الرافعي الأيدي والأرجل تحت السياط والهراوات، أن يجيبوا على أسئلة المحققين باللغة العربية الفصحى؟

***

ماذا يريدون إذن من هذه المبادرة الجماعية الكريمة؟

العودة إلى الجذور؟ لم يعد هناك جذور ولا أغصان!

العودة إلى الجاهلية؟ إلى العصر الحجري؟

أن أميركا لن تسمح لهم بالعودة حتى إلى العصر الطباشيري، لأن فيه بعض الصلابة!

********

ثم ما هذا التوقيت العجيب، ففي الوقت الذي تشن فيه هذه الحرب الشعواء على اللهجات المحلية في طول الوطن العربي وعرضه، يتقاطر السيّاح، والصحافيون، والمراسلون، والمصورون، والمستشرقون، والرحالة، والمبشرون، والرياضيون، والراقصات والراقصون من كل أقطار الدنيا للبدء بتعلم هذه اللهجات وهم ما زالوا على سلم الطائرة.

أسماء المدن والشوارع والقرى والأوابد الأثرية، والأهازيج البدوية والمواويل الريفية، والطقوس الجنائزية والأعراس وتقاليدها، وأسماء الطوائف والمذاهب واعدادها، والمهن اليدوية، والمأكولات الشعبية وطرق إعدادها، والآلات الموسيقية وعددها، وأسرار التخت الشرقي والمطبخ الشرقي، حتى أسماء التوابل والبهارات والنكهات. كأن هذه الأرض ستفرغ من سكانها الأصليين قريباً… وهذا لن يحدث طبعاً، لأن الراعي الأميركي لا بدّ له من وجود بعض القطعان من حوله.

********

عندما لا تتاح للإنسان أياً كان جنسه ولونه ومعتقده فرصة للتعبير عما يريد ويطمح إليه، لا بالفصحى ، ولا بالعامية، ولا بالغناء، ولا بالرسم، ولا بالنحت، ولا بأية وسيلة من وسائل الإيضاح والتوضيح المتعارف عليها، يلجأ إلى التعبير بالجسد كالإنسان البدائي، أو ما يسمى الآن بالمسرح الإيمائي، وهو أرقى أنواع الفنون وأصعبها وأحقرها بالنسبة للعربي، حيث يضطره الإرهاب اللحوح المتواصل وهو في نهاية القرن، للتعبير عن أهم وأخطر قضاياه الانسانية والوطنية والمصيرية، بعينيه وحواجبه وأذنيه، أو بخصره ومؤخرته وهو الذي اخترع الأبجدية التي صُكّت بها أول شريعة لحقوق الإنسان في العالم.

‎محمد الماغوط (مفكر حر )؟

About محمد الماغوط

محمد أحمد عيسى الماغوط (1934- 3 أبريل 2006) شاعر وأديب سوري، ولد في سلمية بمحافظة حماة عام 1934. تلقى تعليمه في سلمية ودمشق وكان فقره سبباً في تركه المدرسة في سن مبكرة، كانت سلمية ودمشق وبيروت المحطات الأساسية في حياة الماغوط وإبداعه، وعمل في الصحافة حيث كان من المؤسسين لجريدة تشرين كما عمل الماغوط رئيساً لتحرير مجلة الشرطة، احترف الفن السياسي وألف العديد من المسرحيات الناقدة التي لعبت دوراً كبيراً في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي، كما كتب الرواية والشعر وامتاز في القصيدة النثرية وله دواوين عديدة. توفي في دمشق في 3 أبريل 2006.
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.