استقالة البابا تحمل لنا درسا عظيما

الشرق الاوسط

فاجأ البابا بنديكتوس السادس عشر، وهو بابا الفاتيكان رقم 265 في تاريخ الكنيسة الطويل، والزعيم الروحي لـ1.2 مليار مسيحي من الروم الكاثوليك، العالم أجمع يوم الاثنين الموافق 11 فبراير (شباط) بإعلانه استقالته من المنصب نهاية الشهر الحالي، وبالتحديد في الثامن والعشرين من فبراير، الساعة الثامنة، نظرًا «لتقدمه في العمر».

وتعد هذه هي المرة الأولى التي يتخلى فيها بابا عن منصبه منذ 600 عام. ومنذ نحو ستة قرون استقال البابا غريغوري الثاني عشر في الرابع من يوليو (تموز) عام 1415، بعد أن شغل هذا المنصب لمدة ثمانية أعوام و216 يوما. كان الوضع آنذاك مختلفا تماما، فقد كان خطر الانشقاق يحدق بالكنيسة، فساعدت استقالته في وضع حد لذلك الانشقاق. وظل المنصب شاغرا بعد الاستقالة لمدة عامين تقريبا حتى عام 1417. مع ذلك هذه المرة لم يتم إجبار البابا على الاستقالة، فقد كان هذا قراره الذي اتخذه بمحض إرادته من دون أي تأثير خارجي. وقال بنديكتوس، الذي يبلغ من العمر 85 عاما، بحسب تصريحات الفاتيكان: «قوة العقل والجسد ضرورية، وقد خارت قوتي خلال الأشهر القليلة الماضية، إلى الحد الذي جعل لزاما عليّ الاعتراف بعدم قدرتي على القيام بالخدمة على الوجه الأكمل».

وأعتقد أن استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر خطوة عظيمة نحو الأمام، وحدث جلل، ليس فقط بالنسبة إلى رجال الكهنوت ورجال الدين، بل أيضا بالنسبة إلى قادة العالم كله. وقد قال الله في كتابه العزيز: «بل الإنسان على نفسه بصيرة». وأود هنا التركيز على ثلاثة أمور أساسية تتعلق باستقالة البابا؛ الأمر الأول هو أن البابا بنديكتوس السادس عشر سوف يغادر منصبه كزعيم روحي بارز، لكنه يترك لنا أيضا ذكرى خطاب مثير للجدل ألقاه في 12 سبتمبر (أيلول) عام 2006. من غير الواضح السبب الذي دفع البابا خلال السنوات الأولى من زعامته الروحية للروم الكاثوليك إلى تدمير جسر الحوار بين المسلمين والمسيحيين. إنه يقتبس أقوال الإمبراطور مانويل الثاني باليولوغ، ورجل فارسي مثقف، عند حديثه عن المسيحية والإسلام وحقيقة كل منهما. كان هذا الخطاب بداية فتور العلاقة بين البابا والشخصيات القيادية الإسلامية. على سبيل المثال، قال الشيخ يوسف القرضاوي إن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قاطع البابا بنديكتوس منذ تعليقاته عام 2006. وقال القرضاوي: «إن إرادة الله شاءت أن نستأنف الحوار بعد انتخاب بابا جديد»، مؤكدًا تفاؤله. ويبدو لنا نحن المسلمين أننا في موضع القوة لأننا نؤمن بموسى وعيسى، وبأنهما رسولان عظيمان. نحن نؤمن بأن اليهودية والمسيحية من الديانات السماوية، ونحترم الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد). ويمكننا أن نجد في كل الدول العربية الكثير من العائلات التي تطلق على أبنائها أسماء مثل موسى وعيسى ومريم. إن هذا عائق كبير أمام المسيحية واليهودية لأن أتباع الديانتين لا يعترفون بمحمد (صلى الله عليه وسلم) كرسول من الله. وأتفق تماما مع الأستاذ هانز كونغ، عالم اللاهوت الكاثوليكي، ومؤلف الثلاثية العظيمة عن اليهودية والمسيحية والإسلام. وهو يقول في توطئة كتابه الثالث «Islam, past, present and future» (الإسلام: الماضي والحاضر والمستقبل): «لن يكون هناك سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان. ولن يكون هناك سلام بين الأديان من دون حوار بين الأديان. ولن يكون هناك حوار بين الأديان من دون التحقق من أسس وأركان الأديان».

المذهل هو كون هانز كونغ والبابا بنديكتوس زميليّ دراسة، مع ذلك يحق لكل منهما اعتناق ما يشاء من أفكار. وينتقد هانز كونغ صراحة الكنيسة، ويسألها عن سبب عدم اعترافها بسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) كرسول من الله. وهنا يظهر سؤال مهم جدًا: «أي شخص يضع الإنجيل والقرآن جنبا إلى جنب ويقرأهما سوف يدرك أن الأديان السماوية الثلاثة التي تشترك في الأصل السامي، اليهودية والمسيحية والإسلام، وعلى وجه الخصوص التوراة والقرآن، تشترك في الأساس نفسه. من ثم، ألا يحتمل أن يكون هذا مجرد تحيز عقائدي للمسيحيين للاعتراف بعاموس وهوشع وأشعياء وأرميا، وإيليا المفرط في العنف، كرسل، مع عدم الاعتراف بمحمد عليه الصلاة والسلام كرسول؟» («الإسلام»، ص 123). يبدو لي أن البابا بنديكتوس السادس عشر، من خلاله عزلته ولكونه محظوظا بصورة مناسبة لإعادة التفكير في شأن الإسلام والمسيحية؛ يمكن أن يبني جسرا ثانيا. من سيكون البابا القادم؟ وما دور البابا بنديكتوس السادس عشر في عملية انتخاب البابا القادم؟ لقد شدد البابا بنديكتوس السادس عشر على أنه لن يلعب أي دور في تعيين خليفته. كما نعلم، قام البابا بنديكتوس السادس عشر بتعيين 90 كاردينالا بخمسة مجمعات كرادلة. يوجد بكنيسة الروم الكاثوليك 127 كاردينالا، وعليهم أن يقوموا بانتخاب البابا الجديد. سوف يخسر اثنان من الكرادلة صوتيهما، نظرا لأن هناك أكثر من ثمانين. علاوة على ذلك، فإن سنهما تجعلهما غير مؤهلين للإدلاء بصوتهما من بداية مارس (آذار). وفيما لن يشارك بنديكتوس بشكل مباشر في اختيار خليفته، فسوف يكون تأثيره ملموسا بلا شك. ومن المنتظر أن يفتح البابا الجديد نافذة جديدة لدخول الهواء النقي، وأن يقيم جسرا جديدا للحوار بين المسيحية والإسلام.

أما عن النقطة المحورية الثالثة والأخيرة التي أرغب في تناولها، فهي قضية فضيحة التجاوزات الجنسية في الكنيسة. طرح البابا بنديكتوس السادس عشر أقوى تصريحاته العامة عن الاعتداءات الجنسية على القُصر من قبل الرهبان الروم الكاثوليك، معتذرا للضحايا، وواصفا التجاوزات بأنها «مشينة». وجاء الاعتذار أثناء تجمع في سيدني بأستراليا، وأسهب في تناول تعليقات أدلى بها البابا في زيارة في أبريل (نيسان) 2008 للولايات المتحدة، والتي أقر فيها علنا بالألم الذي أحدثته فضيحة التجاوزات الجنسية من جانب الكنيسة، والتقى بشكل خاص مع الضحايا. وقال في كنيسة سانت ماري في سيدني: «في واقع الأمر، أشعر بأسف شديد للألم والمعاناة اللذين لحقا بالضحايا، وأطمئنهم بوصفي راعي الأبرشية إلى أنني أيضا أشاركهم في معاناتهم».

أعتقد أن الإدلاء ببيان وتقديم الاعتذار ليس هو الحل. فالزواج هو السبيل الوحيد الآمن والمنطقي بالنسبة لهؤلاء القساوسة ورعاة الأبرشية، بل وحتى الكرادلة.. هؤلاء الذين لا يمكنهم التضحية بحياتهم الخاصة واختيار طريق الرهبنة. إن الزواج علاقة رائعة حبانا إياها الخالق. جاء في «سفر التكوين» (2:24): «لذلك، يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا».

وجاء في إنجيل متى (أصحاح 8:14): «ولما جاء يسوع إلى بيت بطرس رأى حماته مطروحة ومحمومة». كان لدى بطرس حماة، ومن ثم، من الواضح أنه كان متزوجا. قال بولس أول بابا ومؤسس الكنيسة، في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، إنه ربما تكون لديه زوجة. حينما لا يستطيع شخص ما اختيار حياة الرهبنة والتضحية بحياته الشخصية، فعليه بالزواج. وعبر تقديم بديل مناسب، يجب أن يحول البابا والكنيسة دون حدوث مثل تلك الكوارث مجددا في كنيسة الروم الكاثوليك.

About عطاء الله مهاجراني

كاتب صحفي ومحلل سياسي
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.