إختفاء إبنة النور

كان ياما كان في سالف العصر والأوان يحكى أن النهر لم يكن يتحرك في المسار الحالي الذى نألفه إنما كان يفترش مساحات واسعة من الصحراء يكوِّن فيها البرك والمستنقعات ويعيش داخلها وحولها كل أنواع الحيوانات والطيور والحشرات التي نراها اليوم والتي لم نرها ابدا.

وكان النهر كلما ضاق به المكان ترحل مياهه فتغطي مساحات أوسع حتي لم يعد هناك شبرا واحدا من الصحارى التي تحاصرنا اليوم لم يذق طعم مياهه.

في ليلة لا تنسي ظهر القمر وأطل علي المياه التي عكست أشعته الفضية الجميلة مما جعل النهر يتيه حبا بها، ويرجو ربه ان يهبه إياها ولأن الرب يعرف كل الأحداث الماضية والحاضرة والقادمة فانه استجاب لدعاء النهر ومنحه أشعة قمر يوم منتصف الشهر ليندمج معها في حب طويل، أنجب بعده فتاة صغيرة أطلقوا عليها حورية النهر التي جاءت طاهرة نقية كقبس من النور وجذوة من النار المخلوطة بالمياه المقدسة.

تقول الحكاية أن أباها النهر كان يخاف عليها فى صغرها ويمنعها من أن تلعب مع باقي الكائنات أوتقفز وتجرى هنا وهناك، وأنه أوكل الي ربّات الحوريَّات رعايتها، وأنها كانت مطيعة طاعة عمياء لا تخالف أبدا تعليمات ووصايا الأب أو الربَّات المؤدِّبَات حتي شبت عن الطوق فبدأت تتمرد وتختلط بسكان البرك والمستنقعات، تتعلم منهم ما لم تعرفة من أسرار الكون وفنون السحر، فلم تتردد الشابة المحبة للحياة عندما ضاقت بمخاوف أبيها أن تسلط عليه علمها وتسحره لينكمش داخل مجراه الذى نعرفه الان، تنتحر مياهه فى البحر بلا إرادة له وتضيع منه قدراته التي مارسَها لآلاف السنين .. وليرهَبَها بعد ذلك الجميع ويخشون مكرَهَا، فالويل لمن تسحره إذ لن تأخذها به شفقة أو رحمة.

فى غلالتها البيضاء المتطايرة الشفافة وبجسدها المرمري فائق السحر والجمال الذى يضوى بالنور، كانت تتهادى عصر كل يوم على ضفة النهرـ أو هكذا كانوا يؤكدون ـ البعض يجزم بأنه رآها تنبثق كبقعة ضوء من بين الأشجار الكثيفة يتسرب النور منها كدخان يتصاعد حتي عنان السماء وأن صوتها الملائكي ينساب فى ترانيم ساحرة، فتهتز على وقع نغماته الأغصان وهناك من قال أنه شاهَدَهَا على ضفة النهر تمد جسدها اللين الصافى عارية تنعم باشعة البدر والبعض يروي أنها كانت تمتطي جوادا فوق صفحة المياه متجهة الى الشمال حيث رأس أبيها.

قالوا وحكوا أنها تشفي المحظوظ من المرضى إذا رَغِبَت وأنها عندما تشير لشباك الصيادين تمتلئ بالرزق، وأنها قد تنقذ وتنجد الغرقى ، وتحيي آمال الضائعين البائسين، وحكوا أيضا أنها تسحر الرجال، فتكتب علي صفحة مياه النهر بحروف من نور وأن من يقرأها يظل مسحورا أسيرا حائرا تائها هائما على وجهه وعند إكتمال الكلمات وغمرها بمياه النهر يصبح لا حيلة له بعدها، فيظل يبحث عنها على الضفاف وفى المياه وعلى الأشجار يتسمعها في صوت رقرقات الماء وزقزقات العصافير ويشم عطرها في الأزهار .. يبحث عنها كالمجنون لتفك طلاسم سحرها عنه وتعيده إلى حياة الناس. المسحورين كتبوا الأشعار وألــَّفوا الألحان وغنوا لها، وقيل أن الناس يقفون من بعيد ليرقبوا خروجها من بين الأشجار تخطو بدلال فى إتجاه النهر الذى تتفجر مياهه علي هيئة نوافير ملونة ترش القطرات فى كل إتجاه وكأن النهر فرحا باحتواء جسدها وسط التهليل والتصفيق على الضفة الأخرى، ثم يهدأ كل شئ.

حكايات لا نهاية لها تداولها الناس عنها دون أن يتيقنوا مما إذا كانت قد خرجت من المياه أم لا ، أومتى خرجت أو إلى أي مكان ذهبت .. حتى يلمحوها فى يوم جديد بجمالها وشعرها المتطاير وغلالتها الشفافة البيضاء كأردية الملائكة تسير فى خطوات أقرب للرقص منها للمشي تقفز فوق أطراف أصابعها بالكاد تلمس الأرض لمسا.

بمرور الايام تباعد ظهور حورية النهر حتي نساها الناس واختفت ولم تعد الا ذكرى يتداولها بعض الاجداد وهم يتندرون، حتي كان يوم منتصف الشهر القمرى من رجب العام الماضي حين ظهرت من جديد، كان جالسا ساهما متأملا فى هدوء مراقبا تموجات المياه المتتابعة مع مرور المراكب الصغيرة، مرت بجوارة كطيف سحر وحين لمحته إقتربت منه دارت حوله والهواء يطيِّر غلالتها فترف على وجهه، أفاق من تأملاته منبهرا بنور يشع من خلف جسدها الرائع لايعرف مصدره، مالت عليه .. لمس شعرها الاسود الطويل وجهه فأصابته قشعريرة هزت كيانه.. همست فى أذنه بحنان متساءلة : ما الذى يحزنك ؟

نظر إليها مندهشا مبهوتا وقال : من أنتِ ؟ وكيف عرفتِ أني حزين ؟

ردت بدلال وخصلات شعرها تتلوى فوق جبهتها وعلى كتفيها بفعل نسمات الهواء القادمة من جهة النهر: أنا حورية النهر ألم تسمع بي ؟

أسرع بالوقوف والذعر يتملكه وتراجع بضعة خطوات فى هلع واستدار دون تفكير يريد أن يهرب، فاستوقفته بلمسة من أصبعها على كتفه، حينها تجمدت حركته على الفور وتسمرت قدماه على الأرض وعجز تماما عن أن ياتى بأى حركة، نظر إلى أصبعها على كتفه فرأى عظام كتفه وقد أضاءت وكأن النورَ قد انتقل من إصبعها إلى عظامه وكل كيانه .. فازداد رعبا وتسارعت دقات قلبه.

قالت بعطف وابتسامة ثقة تملأ شفتيها:

– عرفت بحزنك لأنى رأيت قلبك من بين ضلوعك وقد ملأته الأحزان.

– عرفت بحزنك لأنى سمعت خفقاته الباكية.

– عرفت بحزنك لأن نسائم الليل خبرتنى.

– عرفت بحزنك لأنى سمعت صوتك عبر النهر يصرخ بآهه عميقة تصدر من أعماق صدرك.

نظرالى عينيها منبهرا متعجبا والحزن يملأه ورد باستسلام : نعم انا حزين، حبيبتى مريضة ولا أمل فى شفاءها، سجينة ولا أمل فى حريتها، لقد باعها والدها لتاجرمتوحش، لم يحبها ولم يصنها بل كان يضربها ويقسو عليها ويعذبها وفى ليلة زفافهما قبـَّـلهَا عنوة وعض لسانها فقطعه وعاشت بعده خرساء حزينة لا تستطيع ان تعبر عن ألمها أو حزنها أوخوفها، انا لا أسامح نفسى لأنى تخليت عن نجدتها والحزن يملأ قلبى وعقلى والخذلان والخزى يغمرانني .. ثم إنهمرت دموعه غزيرة وجرت على الأرض فى إتجاه النهر واستمر بكاءه وكلما وصلت دفقات دموعه إلى مياه النهر تحولت إلى أحجار تراكمت وتراصت فوق بعضها البعض لتبني سدا يعلو ويعلو ويتضخم يخفي النهر وحوريته التى صرخت فيه قائلة :

– كف عن البكاء، الحزن لن يفيدك، كف دعنى أساعدك.

ثم نظرت له بعطف وقالت ستحضرها اؤكد لك.. ألا تصدقنى ؟ الا تؤمن بقوتك وقدراتى !! إن إيمانك بى هو الشئ الوحيد الذى سيمكـِّنني من السيطرة على مقدرات الأطياف.. زادت دهشته، ثم أشاح بوجهه غير مصدق ونظرة ملؤها الشجن والشك تملأ عينيه.

ردد قائلا :

– لقد آمنت من قبل ، ولم يمنحنى الايمان سوى الخوف من المجهول والعجزأمام الواقع المؤلم والمزيد من الضياع، بل ذهب بى إلى حيث أرض التيه…….. !!

صاحت الحورية:

– أرض التيه !!، هناك المئات من أمثالك الذين ضلوا لأنهم غير مؤمنين بقوتهم وقدراتهم الكامنة.

ثم قالت دون أن تخفى نبرتها الآمرة :

– يا بنى يجب أن تملأ قلبك بالايمان ، إيمان أراه وتراه كل حوريات أرض التيه المبعوثات العابرات من هذا السبيل، إيمان يملأ قلبك بالارادة والتصميم والعزم علي تحرير حبيبتك ، عدا ذلك يا بنى سيظل حزنك يكبر ودموعك تجرى مثل مياه هذا النهر وتتحول إلى أحجار تعلوا كأسوار وتحجز النور عنك فتعيش عاجزا فى ظلام الخوف والوحدة الى الأبد .. إلى الأبد..

نظر لها غير مصدق أنها تطالبه بهذا الذى عجز عنه طويلا، فلو كان قادرا لفعله منذ زمن.. قال محدثا نفسه ، ألا تفهم تلك الحورية الى أى شئ تدعونى ؟ أنا لا أستطيع أن أفعل أى من هذا الذى تطالبنى به.. أنا أخاف حتي الاقتراب من جلادها.

بمجرد ان تفوه بتلك الكلمات علا سور الحجارة وظل يعلو حتى وصل لمستوى عينيه واختفي النهر تماما.

أصابه الرعب وشعر انه قد أصبح سجينا لأحزانه ومخاوفه وأدرك أن هذه الأسوار ستعلو كما قالت له الحورية لو لم يتغلب عليها بإرادته.

نظر باحثا عنها ولكنها كانت قد أختفت ..

تمكن الخوف والحزن منه أكثر وأكثر ولم يجد فى نفسه أى قدرة على المقاومة أو الارادة لإنقاذ محبوبته.

ظل يذهب كل يوم ينتظر ظهور الحورية يجلس خلف سد الدموع التى تحجرت والذى علا إلى أن وصل الي عروش النخيل، لقد أصبح يستمتع بجريان دموعه ويستعذب حزنه وبات يتوهم أنه يرى النهر والمراكب بل وحتى إنعكاسات الضوء على المياه.. الأغرب أن الناس إعتادوا علي رؤية هذا الرجل القابع فى مكانه لساعات. ومع الأيام كانوا يمرون بجواره دون أن حتى يلتفتوا إليه، لكنهم لاحظوا بعد ذلك أن النهر تباطأت حركة المياه فيه والشجر جف والطيور هجرت الأغصان.. ثم لاحظوا أن هناك صوت وقع أقدام على ورق الأشجار الجاف الذى يغطى الأرض.. و كانوا يشاهدون في الليالي القمرية ضوءً ضعيفا كالدخان يظهر ثم سرعان ما يختفي.

‎فاتن واصل – مفكر حر

About فاتن واصل

كاتبة ليبرالية مصرية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.