أوراق فاسدة

صدقوني أنني حين أشتري من أي بائع متجول على الأرصفة أي شيء أضع يدي على صدري لأتحسس دقات قلبي لأنني أخشى أن يغلف أو يلف لي ما طلبته بورقة من كتابي الأول أو الثاني كما حدث ويحدث كل يوم مع غالبية الكُتاب المبدعين,وأخشى يوماً أن أجد كتابي على الرصيف بسعر عشرة قروش كما يحدث مع مجلة(العربي) وسلسلة(عالم المعرفة)التي في بعض الأحيان تباع بربع دينار أردني إن كان العنوان لايكثر عليه الطلب, واليوم مررت بجانب بائع يبيع الكتب على الأرصفة فسألته عن ثمن الكتب فقال لي:
-هذا الصف بالكامل ديناراً أردنياً واحداً لأي كتاب, وفي الصف الثاني نصف دينارٍ لكل كتاب, أما الصف الأخير فخمسة قروش أردنيات لكل كتاب.
فضحكت وأنا أقول(معقول ثمنه شلن) أي خمسة قروش !!واعتبرته مازحاً غير أنه أقنعني في اللحظات الأخيرة جدا بما يقوله, ثم قال- لي-:
-خذ قد ما بدك منهن وكمان راح أخصملك منهن وأراعيك,هذا كله ورق فاسد حتى معظم الكتب باللون الأصفر القديم الخشن الملمس.
فضحكت بصوتٍ عالي سمعه كل من يقف على الرصيف وقلت له-
-ما بديش اتراعيني أو تخصملي.
وجلست على الصف الأخير وقلّبت الكتب فوجدت أغلبها دواوين شعر لكبار الشعراء في الأردن, ومجموعة قصص قصيرة لكبار كتاب القصة في الأردن مع بعض الروايات, وقيمتهن أكثر بكثير مما ذكر وحين سألته.
-هل تشتري الناس هذه الكتب فعلا بخمسة قروش أردنيات؟.
فأجابني :-
-الزبائن الذين يشترونها أغلبيتهم ليسوا من مشجعي رياضة القراءة..ولكن من اجل استعمالهن في أشياء أُخر مثل تلميع الزجاج…إلخ …أو للخشرطه عليهن بأقلام الأطفال..
وقاطعته قائلا: –
-أسألك بالله يا رجل وأرجو أن تصدقني القول: هل يستعمل الزبون أو بعض الزبون هذه الكتب بدل ورق التواليت ليمسحوا فيها قفاهم؟.
فضحك وقال محتمل جدا, لأنهن أوراق فاسدة لا قيمة لها.. وقمت على الفور بالاتصال بأحد أصدقائي من الشعراء الكبار(…) لا أريد ذكر اسمه وأخبرته الخبر اليقين بأن ديوانه الشعري المتكون من 400 صفحة ووزنه تقريبا نصف كيلو غرام, معروضاً الآن والعرض مستمر لنهاية الأسبوع على البسطة في الشارع العام بخمسة قروش أردنيات فكذبني واعتبرني ضده واعتبرني حاسدا وحاقدا عليه لأن أشعاره-حسب وجهت نظره- أفضل من أشعاري, وحين انتهيت من المكالمة أخذتُ بتفقد إسمي على الكتب فلم أجد كتبي من ضمن كل تلك الكتب عندها ارتحت كثيرا واشتريت منه ما يقرب من عشرين كتابا وأعطيته ربع دينار فوق الثمن المتفق عليه كبخشيش أو بما معناه كمسيون أو بونص, وشكرني البائع جدا جدا وبالغ في الشكر, فقلت له (خلص بكفي شكر) فرد قائلا:
-يا رجل أنت خلصتني من هم كبير جدا, هذا ورق فاسد وكل يوم أحملهن في السيارة وأنزلهن من السيارة ومن ثم أرتبهن بشكل منتظم وبعد ذلك في آخر النهار أعيدهن إلى السيارة, وهكذا دواليك… أي جننني وحرقن دمي وصدقني عرضتهن على بعض الزبائن بالمجان ورفضوا أن يحملوهن معهم.
أما أنا فبالنسبة لي بعد أن دخلت الدار وشاهدتْ زوجتي ما بحوزتي من كتب ضربت أخماساً بأسداسٍ, وقالت:
-يا زلمه بعدين معك؟!!شو جايبلي كتب؟ ليش ما جبت معك إشي يتاكل؟.
فسألتها مثل شو:
-يعني لوجبت لينا 3 كيلوا املوخيه مش أحسن؟.
فقلت لها وبصوت خافت ومازحٍ باللغة العربية الفصحى :
-تباً لك من امرأة خرقاء,بلهاء.. عليك اللعنة, أنتِ لا تعرفين قيمة كل كتاب من الكتب التي اشتريتها, إنها يا امرأة بالنسبة لي صفقة العمر, فطوال حياتي لم أربح بها إلا هذه الصفقة.
ثم تنهدتْ تنهيدة طويلة, فقلتُ لها:
-صدقيني إني بدي أحكيلك الحقيقة بالكامل بس خايف منك تحكي للجيران.
-وليش خايف؟شو هنه الكُتب كنز كبير؟
-هصصص هُصْ,نعم,إنهن كنزٌ كبير,لا أحد يعرف قيمتها إلا أنا, وأمثالي من القراء والكتاب ..حتى البائع المسكين لا يعرف قيمتهن وقد احتلتُ عليه وهذا معناه أن عندي قدرات تجارية ومهارات تجارية لأول مرة تظهر على السطح, أنظري لي كم هو أنا انسان شاطر وذكي وعبقري إذ اشتريتهن منه بشلن واحد لكل كتاب علماً أنهن يستحقن أكثر من ذلك.
– شو الكنز؟أنت قلت كنز, صح؟.
– نعم؟؟, ولا تبلغي أحداً من الجيران ,إنهن كنز عظيم,وأخاف من العين والحسد,أنا الناس بحسدوني على كل شيء وإذا سمعوا وعرفوا الحقيقة رايحين يحسدوني.
-شو يحسدوك ..؟يا زلمه بدهم يحسدوك على الكُتب؟.
-آه,إذا عرفوا بكم اشتريتها من المؤكد أن يحسدوني لأنها صفقة العمر, أنا اشتريتها بصفقة رابحة جدا ,بس لا تحكيش قدام حدى,على شان العين والحسد.
-شو صفقة رابحه؟…طيب ابقديش اشتريتهن؟.
فضحكت مثل المهابيل وقلت لها:
-هههههه باين على اللي اشتريتهن منه أهبل ومعتوه أكثر مني ,إضحكت على صاحب البسطه اللي كان عارضهن على الرصيف المحاذي لجامعة اليرموك,واشتريتهن جميعا بخمسة قروش كورق فاسد علماً أن قيمة كل كتاب منهن تساوي أكثر من 10000ديناراً أردنياً بعد أن يموت المؤلفون الذين ألفوهن,أليست صفقة رابحة؟ من اليوم وصاعدا عليك أن تعرفي بأنك متزوجة من تاجر شاطر جداً أشطر من حسن الشاطر.
فضربت الكف على أخوه تلوى الكف, وقالت: طيب متى بدهم أصحاب الكُتب يموتوا؟.
-هذا سؤال محرج, ولكن تأكدي بأن وقت موتهم قد حانت ساعته نظرا للإصلاحات السياسية والثقافية في الأردن فإذا تمت الاصلاحات فإن كل المثقفين سيموتون خلال عامٍ واحدٍ أو خلال خمسة أعوام,ما رأيك؟أليس زوجك رجلا عبقريا؟.
-أي أنا لو أعطاني إياهن مع 100دينار أردني ما بقبل أضبهن في بيتي للمستقبل, شو هذي التخاريف,يمكن انت اتموت قبلهم كلهم.
-فال ألله ولا فالك,روحي اعمليلي قهوه من غير سُكر,بدي (أتمخمخ عليهن).
-مش حرام عليك تشتري 20 كتاب بدينار أردني؟أي وين ألله بده يحطك؟أي إجهنم بدها تقبلك؟؟؟لو جبت عصير تمر هندي مش أحسن إلك!.
فقلت لها: تباً لك اتستكثرين خمسة قروش لكل كتاب؟.
فقالت:
-لو فيهن الخير ما كان رماهن الطير,يا زلمه نفسي تشتري مره وحده في حياتك شيء مفيد.
-معقول؟ابتحكي هيك؟
-يا زلمه انت مشتريهن أكيد بدينار واحد ولو وفرت الدينار كان جبنا بدل الكُتب خبز بكفينا يومين أو ثلاثة أيام.
ما علينا:
تخيل نفسك عزيزي الكاتب وأنت تمشي على الرصيف في إحدى الأسواق وأردت أن تشتري من بائع متجول(تُرمس) مسلوق أو (فول وطعمية)أو (فلافل) أو حبة(ذرة) مسلوقة, تخيل نفسك وإذ بالبائع يلف لك كوز الذرة بورقة من أوراق ديوانك الشعري أو روايتك التي وضعت فيها كل إمكاناتك الفكرية وعصارتك الذهنية,أو كتابك الفلسفي الذي تعبت عليه وسهرت على انجازه الليالي الطوال وأنت مع كل ذلك تعتقد في قرارة نفسك بأنك سقراط زمانك أو أرسطو زمانك ,معتدا بنفسك وبكتابك الذي تعتقد حقا بأنك قمت بتأليفه ككتاب من أفضل الكتب عالميا ,فهل تخيلت نفسك وأنت تأكل الذرة ملفوفة بورقة من كتابك,وماذا سيحدث لك؟وتخيل معي بعد أن يغمى عليك وإذ بإدارة المستشفى تتصل بأهلك ليتسلموك من ثلاجة الموتى الذين ماتوا بالسكتة الدماغية نتيجة الموقف المخزي أو القهر العلني والخبر السيئ؟ تخيل نفسك للمرة الأخيرة فيما سيحدث لك!!هل سيغمى عليك فقط لا غير؟ أم هل ستسقط على الأرض سقوطك النهائي فاقدا للوعي؟ وماذا ستفعل حين تفتح عينيك في إحدى المستشفيات وقد صحوت من الانهيار العصبي بأعجوبة وبمعجزة من معجزات الخالق؟هل ستقول كما يقول غالبية الكتاب بأن الناس ضدك؟والعالم لا يقدر على استيعابك لأنك سابقٌ لزمانك ولعصرك وبأنك تكتب للأجيال القادمة وللقلة النادرة وأنك أيضا مولود في زمن ليس زمانك وفي مكان ليس مكانك وبأن الجميع يتآمرون عليك وبأن كل الناس ضدك وبأنك مراقب ومتابع من المخابرات… هذا ما يقوله الكتاب حين لا تلقى كتبهم رواجا وهذا ما قاله شوبنهور إذ علل الموضوع بمؤامرة تحاك ضده من منافسيه الفلاسفة الكبار حين تم تبليغه بأن كتابه(العالم إرادة وفكرة) قد بيع لتجار الخردوات كورق فاسد تلف فيه البضائع ويُنظف به زجاج المنازل بعد عشرة سنوات على طباعته وتوزيعه علما أنه كان يظن بأنه قد أتى بما لم يأتِ به الأولون والآخرون.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.