أنت الفطين وقد حُسِبْتَ جَهولا

donkeyبقلم: رياض الحبيّب

خاص\ مُفكِّر حُرّ

من ذا يلوم الشاعر الفلسطيني الراحل ابراهيم طوقان على قوله
فأرى حِمارًا بعد ذلِكَ كُلِّهِ * رَفَعَ المُضافَ إليهِ والمفعولا

أمّا قصّتي مع هذا البيت فألخّصها بأنّي كنت أبحث عن كلمات قصيدة “موطني” التي للشاعر طوقان فعثرت له في خلال البحث على قصيدة عارض بها قصيدة “المعلّم” للشاعر المصري الراحل أحمد شوقي، أمير شعراء زمانه، التي مطلعُها
قُمْ للمُعَلِّمِ وَفِّهِ التبجيلـا – كاد المُعَلِّمُ أن يكون رسولـا

وفي ذهني أنّ طوقان قد عَمِل أستاذًا للغة العربيّة في فلسطين والعراق وربّما في لبنان أيضًا. فلمّا ساءه مستوى أحد التلاميذ في مادّة النحو (قواعد اللغة) تذكّر قصيدة شوقي فعارضها بالقصيدة المنشورة في ديوانه وعبر الانترنت والتي منها التالي

شوقي يقولُ وما درى بمصيبتي: – (قمْ للمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبجيلـا) ت

لو جَرَّبَ التعليمَ شوقي ساعة – لقضى الحياة شقاوةً وخُمُولـا

لكنْ أصَلِّحُ غلطةً نحويَّةً – مثـلًـا وأتَّخِذ الكتابَ دليلـا

وأكادُ أبعَـثُ سِيبَويهِ مِن البلى – وذويهِ مِن أهل القرون الأُولى

فأرى حِمارًا بَعْدَ ذلكَ كُلِّهِ – رَفَعَ المُضافَ إليهِ والمفعـولـا

ت: تضمين. فكلّ شطر، أو بيت كامل، وُضِعَ بين قوسَين قُصِدَ به أنهُ لشاعر آخر، قد احتاج الشاعر إليه في قصيدته لغاية ما. وقد عُرِف بعد ما تقدّم، سبب قيام طوقان بمعارضة قصيدة شوقي. ويكاد السبب يكون نفسه الذي حثّني على معارضة قصيدة الشاعر طوقان يوم دخلت ميدانًا للشعر الحديث وفيه أربع طوائف، لا أقول عنها متناحرة كي أبعد أشباح النحر والتشنّج والغضب وفقدان التوازن؛ تقود الأولى الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، هذا في رأيي وأنا أتفق معها بشدّة، بكتابها الموسوم “قضايا الشعر المعاصر” أكّدت فيه، باختصار شديد، على أن القصيدة، كي تسمّى قصيدة، وجب التزامها في المقام الأول، الوزن الشعري الذي التزم به شعراء العرب منذ زمن المعلّقات العشر وما سبق وما لحق، والذي قام الخليل بن أحمد الفراهيدي بتصنيفه في خمسة عشر بحرًا، زيدت واحدًا بعدئذ، ثم زادها كاتب هذه السطور دقّة ليصبح عددها ثمانية عشر بحرًا، منشورة عبر الانترنت تحت عنوان ” تعلّم-ي بحور الشعر” وإلّا فلا يجب أن تُنسب كل من المحاولة الشعرية غير الناجحة والخاطرة والسّجع ونحوه إلى الشعر إطلاقًا

أمّا الطائفة الثانية فلا أعرف لها قائدًا ولا رائدًا، بل لا يستحقّ “شعرها” في نظري ريادة ولا قيادة؛ هي التي اتخذت من الحداثة غطاء، بعد ترجمة الشعر غير العربي إلى العربيّة، كشعر الفرنسي لويس أراغون والإسباني غارسيا لوركا والانكليزي ثوماس أليوت وغيرهم، ترجمة يصعب وزنها بميزان الشعر العربي. لذا اعتُبر الشعر في مقياس الطائفة الثانية كل ما يمتّ للشعور بصِلة مترجَمًا على الورق، كأنها تقول: أنت تشعُر مترجِمًا شعورك على ورق إذًا أنت شاعر. والخلاصة في رأيي: مَن أبعَدَ قيود الوزن والقافية عن إحساسه بالشعر العربي هو الذي تُعاني أذناه اختلالًـا في تلقّي الموسيقى الشعرية

وفي الأفق طائفة ثالثة تحاول فرض نفسها على الشعر مهما كلّفها من ثمن؛ قرأت لها محاولات شعرية موزونة، لكنها افتقرت أوّلًـا إلى سلامة الكتابة الشعرية من الأخطاء الإملائية والنحوية. ثانيًا: وضوح ارتباك الشاعر في خضمّ محاولته الحفاظ على الوزن والقافية، ما أدّى إلى اضطراب المعنى، وهذا ما يميّز الشاعر المتمكّن منه. ثالثا: طغيان الضرورة الشعرية على القصيدة لتوظيف الضرورة بشكل أفقد القصيدة رونقها وبهاءها، وبفهم مغلوط لمعنى الضرورة، لعلّ أقبح الضرورات تلك التي على حساب قواعد اللغة، كالتي أجيز بها نصب مرفوعات ورفع منصوبات. رابعًا: اضطراب الحبكة الشعرية في البيت الواحد وتَقَطُّع التسلسل الموضوعي خلال الأبيات من مطلع القصيدة إلى النهاية

وهنا وهناك طائفة رابعة عُنيت بالقافية فقط، كما في سُوَر القرآن ولا سيّما القصيرة منها، أمثلة: الكوثر والفيل والتين، ضاربة باستواء الوزن عرض الحائط ومتأرجحة ما بين السجع والشعر. وفي العصر الحديث محاولات كثيرة بالأسلوب القرآني إذا ما دقّق الشعراء في النظر إليها

عِلمًا أن المعارضة الشعرية مألوفة عند العرب، منذ عصر اٌمرئ القيس الشّاعر العاقلي وما قبل، بغض النظر عن عدد أبيات القصيدة المُعارَضة. وقد نشطت المعارضات قبل ظهور الإسلام، ثمّ خلال الحقب الأموية والعباسية، حتّى ضعفت خلال حقبة هولاكو المسمّاة بالمظلمة وما بعد. وتلكما والمعارضة التالية على وزن بحر الكامل بالقافية عينها وحرف الرّويّ أيضًا، علمًا أن الغالب في القصيدة المعارِضة، بخفض الراء، التزام الوزن والقافية وحرف الرّويّ للقصيدة المعارَضة، بفتح الراء

* * *

المعارضة

تكفي الحِمارَ شقاوةٌ ليَجُولـا – ويُكابدَ التحقيرَ والتهويلـا

عَرَفَ الحِمارُ طَريقهُ أمّا الذي – رَفَعَ المَفاعيلَ اٌدّعى تعديلـا

“أستاذُها” ترَكَ البُحورَ “تحرّرًا” – أمّا القوافي قـيَّدَتْهُ ذليلـا

ليُضِلَّ جيلًـا مِن هُواة الشِّعْر ما – بالى بهِمْ وتعَمَّدَ التضليلـا

بئسَ المُثقَّفُ مَن رأيتُ مُمَثِّـلًـا – خدَعَ الكثيرَ وواصَلَ التمثيلـا

إلّـا قليلًـا ما اٌستطاع خِداعَهُمْ – إذْ مَيَّزوا المرفوضَ والمقبولـا

رفضوا اٌعتبارَ خواطرٍ مكتوبةٍ – شِعْرًا وقالوا: ما أتيتَ أصيلـا

إنّ الجَميلَ نراهُ في شِعْـرٍ وفي – نثرٍ وقد نتذوّق التجميلـا

لكنّ موسيقى القصيدة خيرُ ما – ضاهى بهِ شِعْرٌ فدامَ طويلـا

هِيَ نوطةُ الحِسِّ الرَّهيف وهَـزّةٌ – سِحريّةٌ منذ الفتاة الأولى

رَقصَ الحِمارُ على مَحاسِن وَقْعِها – ورآى المُمثِّلَ بالقوافي فيلـا

ليس الحِمارُ إذَنْ بناقصِ فِطنةٍ – لكنْ فتًى رفضَ الحِمارَ دليلـا

ـــــــ ـــــــ ـــــــ

لَهْفي على حزب الحمير فإنّ لي – عتبًا عليه من الصمود قليلا *

في وجه مَن حَسَبَ الحمارَ منافِسًا – سَهْـلًـا ورَفْسَتُهُ تُخيفُ فُحُولا

حزبٌ يُضاهي خير أحزاب الورى – ضَمَّ الكرامَ ولمْ يُزَكِّ بَخيلا

ضمّ الشّريفَ بنُبلِهِ ووفائِهِ – رَفَسَ الخسيسَ فأبعَدَ المَرذولا

ضمَّ الأُسودَ ببأسِهمْ وثَباتِهِمْ – عند الشدائد فاٌستحقّ قبولا

حزبٌ تألّق نجمُهُ زمنًا مضى – وقضى المكانُ تردُّدًا وأُفولا

بل بات حظًّكَ عاثرًا يا سالكًا – أقسى الدروب وُعُورَها وسُهولا

لا تشتكي حَزْنًا ولستَ بغافلٍ – حَقلًـا من الألغام شَبَّ نَثِيلا

فإذا مشيتَ ركبتَ أصعب مِحنةٍ – وإذا ركضتَ فما تُقصِّرُ مِيلا

تدري بدربِكَ دون مِنّةِ مُرشِدٍ – أنت الفطين وقد حُسِبْتَ جَهولا

حتّى بدا ضَرْبُ الفطين شَجاعةً – وبُطولةً تستأهلُ التبجيلا

مَن ذا يردّ حُثالة عن غَـيِّها – غـيرَ الحِمار ويقبلُ التحميلا

بالرّفس لقّنها الرّسالة فاٌرعوتْ – بالصَّبر غيَّظها وزادَ ذُهولا

سُبحان مَن جَمَعَ المحبّة والنّهى – ومروءةً طول المدى وشُمولا

سُبحان مَن أعطى المواهبَ حقّها – وأزاحَ عنها حاقدًا ودَخيلا
ـــــــ ـــــــ ـــــــ

• في الفيديو التالي (حوالي عشر دقائق) مقابلة مع رئيس حزب الحمير المنحلّ

About رياض الحبَيب

رياض الحبيّب من مواليد العراق قبل الميلاد تخصص علمي حقوق الإنسان، المرأة، الطبقة العاملة اللغة العربيّة، أدب عالمي، ثيولوجيا أدب، موسيقى، شطرنج نقد الأفكار لا الأسماء، ضدّ الظلم والفقر أوّل مُعارض للمعلّقات العشر المزيد من السِّيرة في محور الأدب والفن- الحوار المتمدن
This entry was posted in الأدب والفن, كاريكاتور. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.