آثار مسيحيَّة في شعر غير المسيحيّ، ج 2

رياض الحبيّب

موقع لينغا     25 أيلول 2012

ذكرتُ في الجزء الأوّل من المقالة أنّ (آراء الحَلّاج الفلسفية ونظرته الى العلاقة ما بين الإنسان وخالقه هُما وراء اتّهامه بالزندقة، نظرًا لسوء فهم معاصريه من الفقهاء وما أكثر مَن اختلفوا على آراء الحلّاج إلى يومنا) وقد ضربت مثالًا واحدًا من شعره على المعاني الباطنيّة التي قصدها أتباعه، التي لم يتمكنوا من فهمها، لأنّه توغّل بفكره وتأمّله الى أحد أعماق العقيدة المسيحيّة المرتبط بناسوت السيد المسيح له المجد ولاهوته. والناسوت واللاهوت مُصطلحان جديدان في شعر العرب، لا أثر لهما في شعر وصلنا قبل شعر الحلّاج (858- 922 م \ 244- 309 هـ) والغريب أنهما لم يُذكرا لا في «لسان العرب» لاٌبن منظور الذي كان أديبًا باللغة العربية ومؤرِّخًا وأحد العلماء بالفقه الإسلامي (ت 1311 م \ 711 هـ) ولا في «القاموس المحيط» للفيروزآبادي الذي كان من أئمّة اللغة (ت 1414 م \ 817 هـ) ما دلّ على أن شعر الحلاج قد أظهره المعجَبون به بعد موته بزمن طويل نسبيًّا، بعدما وجدوا فرصة سانحة لإخراجه الى العامّة، كما دلّ على أنّ شاعرًا آخر غير الحلاج لم يتناول أيًّا من المصطلَحَين في شعره قبل وفاة صاحبَي القاموسَين المذكورَين، أو أنّ كلّا من اٌبن منظور والفيروزآبادي لم يعثر على تفسير لأيّ من المصطلَحَين في الكتب الإسلاميّة. فإذا كان صعبًا على أتباع الحلّاج وسائر المسلمين فهم بعض المعاني الظاهريّة التي في إنجيل المسيح، كما نرى اليوم، فكيف بالمعاني الباطنيّة؟ وقد وعدت القرّاء الكرام بكتابة نماذج من شعر الحلّاج وشرح معانيها ما أمكن، لكني سألقي في البداية ضوء على الأبيات الثلاثة الواردة في الجزء الأوّل لأنها تصلح مدخلًا إلى فهم شخصيّة الحلّاج- وهي عَروضيًّا على بحر السَّريع
 
سُبْحانَ مَن أظهر ناسوتُهُ * سِرَّ سَنا لاهوتِهِ الثّاقبِ
 ثم بَدا في خَلْقِهِ ظاهِرًا * في صورة الآكِلِ والشّاربِ
 حتّى لقد عَايَنهُ خَلْقُهُ * كلَحْظَةِ الحاجبِ بالحاجبِ
 
فنقرأ في القواميس عن “سبحان” الخاصّة في الغالب بتسبيح الخالق ما يأتي: (سبَّحَ تسبيحًا: صلّى، قال “سُبحانَ الله” وسبَّحَ اللهَ وللهِ: نزَّهَهُ ومجَّدَهُ. ومعنى “سُبحانَ الله” أبْرِئَ اللهُ من السّوء. ويُقال “سُبحانَ مِن كذا” تعجُّبًا منهُ وهو على معنى الإضافة أي سُبحانَ الله من كذا. وسبحانَ في الإعراب منصوب على أنه مفعول مطلق… إلخ) انتهى. وتسبيح الله مذكور في الكتاب المقدّس؛ في العهد القديم، في المزمور الثالث والسّـتّين- الآية الثالثة
 مز 63: 3 لأنَّ رَحْمَتَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَاةِ. شَفَتَايَ تُسَبِّحَانِكَ
 وفي العهد الجديد، في أعمال الرّسُل: ونَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا- أع 25:16
 
وقد وردت الكلمة في شعر العرب إذ قال ورقة بن نوفل في «الأغاني» 14:3
 سُبْحانَ ذا العرش سبحانًا يُعادلُهُ * ربّ البريّة فَرْدٌ واحِدٌ صَمَدُ- بحر البسيط
 وقال أميّة بن أبي الصّلت في «تاج العروس» 157:2
 سُبْحانَهُ ثمّ سبحانًا يعودُ لهُ * وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُوديُّ والجُمُدُ
 والجُمُدُ، بضم الجيم والميم وفتحهما: جبل معروف؛ نسب ابن الأثير عجز هذا البيت لورقة بن نوفل- لسان العرب
 وقال الأعشى قيس في «لسان العرب» 210:3
 وسَبِّحْ على حين العَشِـيّاتِ والضُّحى * ولا تعبُدِ الشيطان واللهَ فاٌعبُدا- بحر الطويل
 
أمّا سُبْحانَ بمعنى التعجّب من شيء أو من إنسان فلها أثر في شِعر الأعشى قيس
 أَقولُ لمَّا جاءني فَخْرُه * سبحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ- بحر السّريع
 أي: عَجَبًا من فخر عَلقمَة بنفسه. والمعنى في «لسان العرب» العجب منه إِذ يَفْخَرُ
 
فلو أراد الحلّاج أن يقصد نفسه في البيت الأوّل لقال في مكان ما “سُبْحاني” ما لم يرد في شعره الذي وصلني، لكنّي عثرت على “سُبْحاني” في كلام متصوّف آخر عاش قبل الحلّاج هو أبو يزيد البسطامي (خراسان 188 – 261 هـ) من حديث له، في أحد المواقع الالكترونية، نصّه هو أنّ أبا يزيد (كان يومًا يرتدي جُبَّة ففتحها وقال: سُبْحاني ما أعظم شاني، ما في الجُبَّة إلّا الله- شذرات الذهب 142:2 وفيض القدير 456:1) فبالعودة إلى البيت الأوّل
 
سُبْحانَ مَن أظهر ناسوتُهُ * سِرَّ سَنا لاهوتِهِ الثّاقبِ
 
سُبْحانَ مَن (أي أسبِّح الله الذي) أظْهَرَ (بَيَّن) ناسُوتُهُ (تأنّسُهُ) وناسُوتُ فاعل مرفوع مُضاف إلى الضمير المتصل (الهاء) العائد على الله! سِـرَّ: مفعول به مضاف إلى سَـنا (ضوء النار والبرق) لكنّ المُراد به هنا هو السّناء (المجد وارتفاع المنزلة) و”سَـنا” مضاف إلى لاهوتِهِ (ألوهيّته) ولاهُوت مضاف إليه وهو بدوره مضاف إلى الضمير المتصل (الهاء) العائد على الله أيضًا. الثّاقب (المُضيء) صفة والموصوف هو لاهُوتُ الله المُتّحِدُ بناسُوتِه. والخلاصة هي أنّ الشاعر قد أُعجِبَ بالناسوت إذ أظهَرَ سرّ اللاهوت، أي أُعجِبَ الحلّاج بكشف الله عن ذاته وعن ماهيّته من خلال تأنّسِهِ (قطعًا بشخص المسيح) إذْ كان مفهومُ الله سرًّا مخفيًّا طوال الدهور
 
وتعليقي؛ أوّلًا: يبدو لي جَليًّا أنّ إعجاب الحلّاج بذلك الإظهار، الذي أدركه بعقله وطول تأمّله في الله، إعجابٌ من باب المَسَرّة وليس من باب الإنكار ولا الإستغراب. وبصفتي قارئًا مسيحيًّا فإنّ معنى البيت يرجع بي إلى الآية الإنجيليّة القائلة
 اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. يوحَنّا 18:1
 
وثانيًا: واضحٌ أنّ الحلّاج بقوله “سُبحانَ مَن” كان يسبّح الله ولم يُسبّح نفسه، مثلما سَبَّح أحدُ الأعراب اللهَ إذ أعطى مَعْنَ بْنَ زائدة مُلكًا، قال الأعرابي
 فسُبْحَانَ الذي أعطاكَ مُلْكًا * وعَلَّمَكَ الجلوسَ على السَّريرِ- بحر الوافر
 فأجاب مَعْن: سُبحانَهُ (أي سُبحانَ الله) على أيّة حال، والمزيد حول هذه الرواية في مقالتي المنشورة “تعلّم-ي بحور الشعر (4) الوافر” ضمن سلسلة مراجعتي بحور الشعر العربي
 
* * *
 
خصوصيّة الناسوت واللاهوت
 
أمّا مسيحيًّا فإنّ الناسوت واللاهوت مُتّحِدان بشخص المسيح بدون اختلاط؛ مثل معدن ساخن حُمِّيَ بنار وقد بقِيَ المعدن على طبيعته والنار على طبيعتها، بعد اتحاد النار بالمعدن، بدون تحوّل أحدهما إلى الآخر. والناسوت واللاهوت مصطلحان مسيحيّان صِرفان يُعبِّران عن مَيِّزتين خاصّتين بالسيد المسيح وحده، لا وجود لهما في كتب الفلسفة والميثولوجيا بأيّة لغة عالميّة، قبل زمن انتشار الكتاب المقدّس، وإن وُجدا بشكل معنويّ غير حرفيّ في عهديه القديم والجديد، في آيات عدّة، فهْمُها بسيط لمن أراد الفهم؛ إمّا بإرشاد الرّوح القدس أو بالرجوع إلى التفسير المسيحي، باستثناء عدد من الآيات المذكور فيها اللاهوت حرفيًّا (1) في العهد الجديد (الإنجيل) وكلاهما متعلّق بشخص المسيح، سواء رمزيًّا أو حرفيًّا. لذا لا تجوز إطلاقًا استعارة أيّ من الناسوت واللاهوت لمصلحة شخص آخر بالقول مثالًـا: ناسوت آدم وناسوت الحلاج وناسوت فلان وناسوتي بل إنسانيّة آدم وإنسانيّة فلان… إلخ. والفرق بين الناسوت والإنسانيّة هو أنّ الناسوت: إنسانيّة بدون الخطيئة! إذًا هو مصطلح خاصّ بالمسيح لأنّ المسيح عاش بلا خطيئة {مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟} – يوحَنّا 46:8 والحلاج أدرك أنه وسائر البشر قد أخطأوا، باستثناء المسيح صاحب الطبيعتين؛ الإنسانيّة التي بلا خطيئة (أي الناسوت) والإلهية الخارقة الطبيعة (أي اللاهوت) التي صنع بها المعجزات
 
* * *
 
لماذا الناسوت واللاهوت خاصّان بالمسيح؟
 
لسببين؛ الأوّل: إنّ الله تجلّى في جسد شخص واحد فقط هو شخص المسيح، ما تجلّى في غيره ولا يمكن أن يظهر في غيره. ومن المُؤمَّل والمرتقب أن يظهر الله ثانية بشخص المسيح في المجيء الثاني للمسيح. والعهد الجديد قد أعلن حقيقة الظهور الأوّل في التالي
 وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ- يُوحَنّا 14:1
وَالْكَلِمَةُ: كلمة الله- الأقنوم الثاني الحالّ في شخص المسيح
 إِذْ في المَسيحِ يَحِلُّ كلُّ مِلْءِ اللاَّهوتِ جَسديًّا- رسالة بولس الرسول إلى كولوسي 9:2
 والثاني: إنّ الله قدّوس أي طاهر تمامًا فلا يمكن أن يحلّ في جَسَدٍ مسّته الخطيئة إطلاقًا، لذا وُلِد من عذراء (هي بهذا المفهوم مقدّسة أيضًا لم ترث خطيئة آدم إذ حُبِلَ بها بلا دنس وإلّـا لتعارض كمالُ الله مع قداسته، راجع-ي لطفًا مقالتي “حسم الجدل من جهة سيّدتنا مريم العذراء” المنشورة الكترونيًّا) فيسوع المسيح هو الوحيد الطاهر الذي عَكَسَتْ قُدسيّتُهُ قداسة الله المطلقة. وقد أعلن العهد الجديد قدسيّته حتّى قبل ولادته من السّيّدة العذراء: {اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ}- لوقا 35:1 وهذه الآية، بالمناسبة، قد عبّرت بوضوح عن الأقانيم الثلاثة وهي العليّ (الآب) والقُدُّوسُ المَولُودُ (الإبن) والرُّوحُ القُدُس، راجع-ي لطفًا مقالتي: الثالوث الإلهي المقدّس
 
* * *
 
ازدواجيّة الشّخصيّة عند الحَلّاج
 
أمّا الحَلّاج الذي عاش خلال الفترة (858 – 922 م) أي حتى الربع الأوّل من القرن الميلادي العاشر فلا شكّ في اطّلاعِهِ على الإنجيل المنتشر قبله بقرون، بجميع اللغات ولا سيّما العربيّة. فمهما طال تأمّله في عظمة الخالق ومهما قوِيَ اتّحاده بالله فكريًّا وروحيًّا فإنّ الاتحاد بين لاهوت الله وناسوته أقنوميّ بَحْت، هو أعمق من اٌتّحاد الإنسان بالله فكريًّا وروحيًّا. وهذا ما لم يُدركه الحلّاجُ حين قال “ناسوتي” و”لاهوتي” في التالي، على وزن الطويل، أو أدركه لكنّه تجاوز حدوده وهذا احتمال مستبعَد في تقديري
 
دَخَلْتُ بناسوتي لديكَ على الخَلْقِ * ولولاكَ لاهوتي خَرَجْتُ من الصدقِ
 فإنّ لسانَ العلمِ للنُّطقِ والهُدى * وإنَّ لسانَ الغيبِ جَلَّ عن النُّطقِ
 ظهرتَ لخَلْقٍ واٌلتبَسْتَ لِفتيةٍ * فتاهوا وضلّوا واٌحتجبتَ عن الخَلـقِ
 فتظهَرُ للألباب في الغرب تارَةً * وطورًا عن الأبصار تغرُبُ في الشّرقِ
 
أو أنّ فرط تأمّله في الله وتعمّقه في الوجود ولّدا لديه حالة من الإزدواجيّة في الشخصيّة فصار تارة يرى صورة الله في شخصيّته وتارة يستفيق فيعود إلى رُشده ليرى الله كما يراه الخلق السّويّ. إليك في التالي بعض الأمثلة على ازدواجيّة نظرة الحلّاج
 
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا * نحنُ رُوحانِ حَلَلْنا بَدَنا
 فإذا أبْصَرْتَني أبْصَرْتَهُ * وإذا أبْصَرْتَهُ أبْصَرْتَنا- بحر الرَّمَل
 
يعني: أنا والله واحد، نحن روحان حالّان في جسد واحد. فإذا أبصرتني أبصرت الله في شخصي وإذا أبصرتَ الله أبْصَرتني (أنا) لأنّ صورة الله تجلّت في شخصي
 
* *
 
يا سِـرَّ سِـرٍّ يدقّ حتّى * يخفى على وَهْمِ كلّ حَيِّ
 وظاهرًا باطنًا تجلّى * في كلّ شيءٍ لكُلِّ شَيِّ
 إنّ اٌعتذاري إليك جَهْلٌ * وعُظْمُ شكٍّ وفرْطُ عَيِّ
 يا جملةَ الكلّ لسْتَ غيري * فما اعتذاري إذًا إليِّ- بحر المضطرب
 
والازدواجية واضحة في قوله: يا جملةَ الكلّ لسْتَ غيري
 
* *
 
مُزِجَتْ روحُكَ في روحي كما * تُمزَجُ الخمرةُ بالماء الزّلال
 فإذا مسّكَ شيءٌ مَسَّني * فإذًا أنتَ أنا في كلّ حال- بحر الرَّمَل
 
* *
 
قد تصبَّرتُ وهل يَصْبِرُ قلبي عن فؤادي
 مازَجَتْ رُوحُكَ رُوحي * في دُنُوٍّ وبِعَادِ
 فأنا أنتَ كما أنّكَ أنّي ومُرادي- مجزوء الرَّمَل
 
الفؤادُ: القلب وقيل: وسَطُه. وقيل: غِشاءُ القلب والقلبُ حَبّتُهُ وسُوَيْداؤُه- لسان العرب. والازدواجية واضحة في قوله: فأنا أنتَ كما أنّك أنّي
 
* *
 
لكنّه حين عاد إلى رشده قال “ظننتُ أنّكَ أنّي” في التالي
 
عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي * يا مُنيَةَ المُتَمَنّي
 أَدْنَيتَني مِنكَ حَتّى * ظَنَنتُ أَنَّكَ أَني
 – – –
 وغِبتُ في الوَجْدِ حَتّى * أَفنَيتَني بكَ عَنّي
 يا نِعْمَتي في حَياتي * وراحَتي بَعْدَ دَفني
 ما لي بغَيرِكَ أُنسٌ * من حيثُ خَوفي وأَمني
 يا مَن رِياضُ مَعانيهِ قد حَوَت كُلَّ فَنِّ
 وإِنْ تَمَنَّيتُ شيئًا * فأنتَ كُلُّ التَّمَنّي- بحر المجتثّ
 * *
 
لاحظ-ي روعة القطعة التالية، على وزن الرَّمَل، إمّا قصد الحلاج حبيبًا آخر غير الله بقوله “لي حبيب” الذي لي معه وقفة أخرى، لتكمن الازدواجيّة في البيت الثالث وتحديدًا قوله: وإنْ شئتُ يشأ
 
يا نسيمَ الرّوح قولي للرَّشا * لم يزِدْني الوِرْدُ إلا عَطَشا
 لي حبيبٌ حُبُّهُ وَسْط الحَشا * إنْ يشأْ يمشي على خدّي مشى
 رُوحُهُ رُوحي وروحي رُوحُهُ * إنْ يشأْ شِئتُ وإنْ شئتُ يَشا
 
تغنّى بها الفنان اللبناني مارسيل خليفة والفنانة اللبنانية هبة القواس وغيرهما
 
* * *
 
مثالًا على رُشْد الحَلّاج واستفاقته من قصيدة، ناجى بها الله من جهة ووبّخ الناس من جهة
 
واللهِ ما طلَعَت شمسٌ ولا غرُبَتْ * إلّا وحُبّكَ مقرونٌ بأنفاسي
 ما لي وللنّاس كمْ يَلحونني سَفَهًا؟ * دِيني لنفسي ودِينُ الناس للناسِ- بحر البسيط
 
لَحَا الرَّجُلَ لَحْوًا: شَتَمَهُ (لسان العرب) والبيت الثاني يصلح شِعارًا لحريّة الديانة والمعتقد في عصرنا وسائر العصور التي عكست اضطهاد حقوق الإنسان في المعتقد وفي إبداء الرأي
 
* *
 
مثالًا آخر على رشده في مناجاة الله
 
كانت لقلبيَ أهواءٌ مُفرَّقةٌ * فاٌستُجْمِعَتْ مُذ رأتكَ العينُ أهوائي
 فصارَ يحسِدُنِي مَن كنتُ أحسِدُهُ * وصِرتُ مَولَى الورَى مُذْ صِرتَ مَولائِي
 ما لامني فيك أحبابي وأعدائي * إلّا لغفلتهِمْ عن عُظْمِ بلوائي
 تركتُ للناس دُنياهُمْ ودِينَهُمُ * شُغلًا بحُبّك يا دِيني ودنيائي
 أشْعَلتَ في كبدي نارَينِ: واحدةٌ * بين الضلوع وأخرى بين أحشائي- بحر البسيط
 
مولائي: مولاي. وفيما بعد؛ بلوائي: بلواي. دُنيائي: دنياي. كأن الأسماء مولى وبلوى ودنيا مهموزة الآخر “مَولاء، بَلواء، دُنياء” حذف الهمزة من كل منها وأضاف إلى ياء المتكلّم، ما اضطرّ إليه الشاعر لتمشية القافية، أي للضرورة الشعرية. كذا فعل الشاعر أبو تمّام الطّائي قبل الحَلّاج، على وزن بحر الكامل، إذ قصَّرَ الفضاءَ ومَدَّ الهدى
 
وَرِثَ الندى وحوى النهى وبنى العُلا * وجَلا الدّجى ورمى الفضا بهُداءِ
 
* * *
 
عودة إلى أبيات الحلّاج الثلاثة
 
فإذا اتفقنا على أنّ الحلّاج كان مُدركًا بُعْدًا ما من أبعاد الناسوت واللاهوت في البيت الأوّل، يسهل فهم البيتين التاليين وهما
 
ثم بَدا في خَلْقِهِ ظاهِرًا * في صورة الآكِلِ والشّاربِ
 حتّى لقد عَايَنهُ خَلْقُهُ * كلَحْظَةِ الحاجبِ بالحاجبِ
 
ثم بَدا (اللهُ) في خَلْقِهِ ظاهِرًا (بالمسيح) في صورة إنسان يأكل ويشرب، حتّى لقد عَايَنَهُ (عايَنْتَ الشّيءَ عِيانًا: رأيتَهُ بعَيْنك. والمعاينة: المشاهدة- لسان العرب) وأغلب الظنّ أنّ الحلّاج أراد بالمعاينة هنا الإدراك، إذًا عَايَنَ (اللهَ الظاهرَ بالمسيح) خَلْقُهُ، في وقت أدرك الخلق (ممثَّلًا بالحلّاج لأنّهُ عايَنَ بنفسه) أنّ الناسوت واللاهوت لم ينفصلا عن بعضهما لحظة واحدة، كلَحْظَةِ الحاجب بالحاجب، أي حتى لحظة الرمش بين حاجِبَي العين. ذلك وإن كان للحاجب معان أخرى في “لسان العرب” لكنّها لا تمتّ إلى ما قصد الشاعر بأيّة صلة
 
* * *
 
من شعر الحلّاج متأثِّرًا بالإنجيل
 
إليك نماذج أخرى من شعر الحَلّاج؛ فيها إشارات دالّة على تأثّر عميق بالإنجيل بل مُذهِل. فإمّا وجد أحد دلالات شعره التالي على ثقافة أخرى غير الإنجيليّة فليأتِنا بها مشكورًا
 
أُقْتُلُوني يا ثُقاتي * إنّ في قتلي حياتي
 فمماتي في حياتي * وحياتي في مماتي
 إنّ عندي مَحْوَ ذاتي * من أجَلّ المكرماتِ
 
تشير هذه الأبيات- من مجزوء بحر الرَّمَل- إلى قول السيّد المسيح له المجد: {مَن وَجَدَ حياته يُضيعها. ومن أضاع حياته من أجلي يجدها} متّى 39:10 وإلى قوله: {فإنّ مَن أراد أن يُخلِّص نفسه يهلكها. ومن يُهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كُلَّه وخسر نفسه. أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه} متى 16: 25-26
 
وبقائي في صفاتي * من قبيح السَّـيِّئاتِ
 سَئِمَتْ نفسي حياتي * في الرسوم البالياتِ
 
إشارة إلى رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس: {إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا} 2 كور 17:5 راجع-ي أيضًا رسالته إلى أفسُس وتحديدًا الأصحاح الرابع
 
فاٌقتلوني واٌحرقوني * بعظامي الفانياتِ
 ثم مُرّوا برفاتي * في القبور الدارسـاتِ
 تجدوا سِـرّ حبيبي * في طوايا الباقياتِ
 
واضحٌ أنّ الحَلّـاج قد تنبّأ بقتله وحرقه. أمّا قوله “حبيبي” تعبيرًا عن الله فليس بشائع في ذلك الزمان، كان في إمكانه أن يقول “إلهي” عوض “حبيبي” والوزن الشعري يبقى كما هو، لأنّ حبيبي= إلاهي= فعُولُنْ، علمًا أن الأب لويس شيخو (2) قد توصّل إلى أصل الشاعر أبي تمام (حبيب بن أوس الطّائي) نصرانيًّا من طريق نشأته على دين أبيه النصراني ومن اسمه واسم أبيه قائلًـا: (لنا في اسمه حبيب، وهو من الأسامي الشائعة بين النصارى النادرة بين المسلمين، ما يدلّ على نصرانيّته) عِلمًا أنّ ابن خلكان لم يُنكر نسبته إلى طيء وإنما نقل قول الصّولي: (قال قوم أنّ أبا تمّام هو حبيب بن تدّوس النصرانيّ فغُيِّر تدّوس فصار أوسًا) ثمّ روى عن أبيه أنّه (كان خمّارًا بدمشق) عِلمًا أنّ تدّوس (أي تدّاوس) اسم أحد تلاميذ المسيح الإثني عشر
 
إنني شيخٌ كبير * في علوّ الدرجاتِ
 ثم أنِّي صرتُ طفـلًـا * في حُجور المُرضِعاتِ
 
إشارة إلى قول المسيح: {الحقّ أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات} متى 3:18 راجع-ي أيضًا 14:19 ومرقس 14:10 ولوقا 16:18
 
ساكنـاً في لَحْد قبـر * في أراضٍ سَبِخاتِ
 وَلدَتْ أُمّي أباها * إنَّ ذا من عَجَباتي
 
إشارة إلى أعجوبة ولادة السيدة العذراء ابنها بالجسد وهو ربُّها في الوقت عينه
 
فبناتي، بَعْـدَ أنْ كُـنَّ بناتي، أخواتي
 ليس مِن فِعْـل زمانٍ * لا ولا فِعْـل الزناةِ… إلخ
 إشارة إلى أنّ المؤمنين بخلاص يسوع من الجنسين هم جميعًا إخوة بالرّوح، سواء الأب والأمّ والإبن والبنت وسائر الأقارب؛ أي أن الإبن المؤمن بالمسيح يصبح بالروح أخًا لأبيه المؤمن ولأمّه المؤمنة، كذا البنت المؤمنة: {لأنّ الذين سَبَق فعَرَفهُمْ سبق فعَيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة اٌبنه ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين} – الرسالة إلى روما 29:8
 
* * *
 
اختيار الحلّاج الموت على دين المسيح
 
أَلا أَبلِغْ أَحِبّائي بَأَنّي * رَكِبتُ البَحْـرَ واٌنكَسَـر السَفينَهْ
 
على دِينِ الصَّليبِ يَكونُ مَوتي * فلا البَطحا أُريدُ ولا المَدينهْ
 
لعلّ هذا، الذي على وزن بحر الوافر، خيرُ ما أنهي به هذه الرّحلة مع الحَلّاج، الشاعر الشهيد، الذي ركِب البحر المجهول فتحطّمت سفينته إذ ارتطمت بعوائق وحواجز من غير المعقول. وقد عَلِمَ أنّ الصّليب مفتاح الحياة الأبديّة إذ التقت خشبته العموديّة (التي ترمز إلى اللاهوت) مع خشبته الأفقيّة (التي ترمز إلى الناسوت) وهذا مفهوم متطوّر لمعنى الصّليب، الذي رسم به صاحب الوعي المطلق (الله) اٌتّحاد المحبّة العجيب بين الرّوح والمادة (اللاهوت والناسوت) بإتقان وبأبهى صورة وأقوى صوت هو {صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً} إشَعياء 3:40 ومرقس 3:1 فاختار الحَلّاج الموت الذي يؤدّي إلى الحياة في نهاية المطاف رافضًا الحياة التي تؤدّي إلى الموت. بل كان مِن حَقّه اختيار دين لنفسه غير دين مُعاصِريه. ومن حقّه أن يرفض الدين الذي دعا إليه صاحبُهُ في مكّة والمدينة الذي بدوره رفض المسيحيّة وليته اكتفى برفضها ولم يتعرّض لأهل الكتاب ولغيرهم بسوء في كتابه وأفعاله. لذا أصبح من حقّ كلّ إنسان أن يختار لنفسه أيّ دين، ما لم يضرّ به أحدًا! أمّا قوله “واٌنكَسَـر السَفينَهْ” عوض “وانكسرت” وإلّا لاٌختلّ الوزن الشّعري فهو على أساس أنّ مِن العرب مَن كان يُذكّر فِعْلَ المؤنَّث إذا كان المؤنّث قليل العدد. أمّا (السَّفِينة: الفُلْكُ لأَنها تَسفِن وجه الماء أي تقشره. البَطْحاء: مَسِيلٌ فيه دُقاقُ الحَصى. قال ابن الأثير؛ بَطْحاءُ الوادي وأَبْطَحُهُ: حَصاه الليِّن في بطن المَسِيل، أَبْطَحُ مكة: مَسِيلُ واديها. وقال الجوهري: البَطِيحَةُ والبَطْحاءُ مِثل الأبطَحِ ومنه بَطْحاءُ مكة)- لسان العرب
 
عِلمًا أنّ الحلاج وهو على الصليب كان يقول لأصدقائه وأتباعه: (لا تخافوا) بل كان يُمازح جَلّاده، الذي قطَعَ يديه ورجليه قبل الصّلب، حتّى غضب في النهاية فقطع رأسه فسقطت، ثمّ أنزِل وصُبّ عليه زيت وأحرق وألقِيَ رمادُهُ من أعلى مِئذنة في نهر دجلة. واللافت في الأمر أنّ الوزير حامد بن العباس حاول، أمام الجمع الغفير الذي احتشد لمشاهدة صلب الحلاج، أن ينآى بنفسه وبالخليفة (المقتدر بالله) الذي وقّع على حكم الموت عن المسؤولية فدعا الشهود الموافقين على الحكم إلى تأييده بصوت عال فصاحوا قائلين: (نعَمْ، أقتلهُ ودَمُهُ في رقابنا) ما يعود بنا إلى صياح الشعب في وجه بيلاطس “إصلِـبْهُ” و”دمُهُ علَينا وعلى أولادِنا” في البشارة بحسب متّى- الأصحاح 27
 
* * *
 
الثناء على فكر الحلّاج
 
وذلك كلّه لم يمنع العقلاء من الإشادة بذِكر فكر الحلّاج والثناء عليه؛ نقرأ في ويكيپـيديا: (التصوّف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحقّ وليس مسلكًا فرديًّا بين المتصوّف والخالق فقط. لقد طوّر الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه. فعن إبراهيم بن عمران النيلي أنه قال: «سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بَصَرُ أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحقّ من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئًا إلّا ورأيت الله فيه» ولا يخفى ما بهذه الجملة من فلسفات وحدة الوجود التي ترى توحّد الخالق بمخلوقاته) انتهى. ولم يمنع الحكمُ الجائرُ ذوي الحسّ المرهَف من وصف الحلّاج بـ (قتيل الحُبّ الإلهي) ولم يمنع أبرز أدباء القرن الماضي من تصوير مأساة الحلاج في آدابهم أروع تصوير، ما يأتي ذكره في الجزء الثالث، حتّى كأنّ مِنهُمْ مَن حَسَدَهُ على هذه الميتة! فلله دَرّ الشاعر يزيد بن معاوية إذ قال في قصيدة، من بحر البسيط، هي في نظري من أروع قصائد الغزل العربية
 
هُمْ يَحْسِدُونِي عَلَى مَوتِي فَوَا أَسَفِي * حَتَّى عَلَى المَوتِ لا أَخلُو مِنَ الحَسَدِ
 * * *
 
1
 ورد ذكر اللاهوت (أو الألوهة أو الألوهيّة) حرفيًّا على لسان بولس الرسول في أعمال الرسل 29:17 وفي الرسالة إلى روما 20:1 بالإضافة إلى المذكور أعلى
 2
 في كتابه: «شعراء النصرانية بعد الإسلام، شعراء الدولة العباسية» ق 3 ص 257 وما بعدها من أخبار الشاعر أبي تمام
 
¤ ¤ ¤ ¤ ¤

About رياض الحبَيب

رياض الحبيّب من مواليد العراق قبل الميلاد تخصص علمي حقوق الإنسان، المرأة، الطبقة العاملة اللغة العربيّة، أدب عالمي، ثيولوجيا أدب، موسيقى، شطرنج نقد الأفكار لا الأسماء، ضدّ الظلم والفقر أوّل مُعارض للمعلّقات العشر المزيد من السِّيرة في محور الأدب والفن- الحوار المتمدن
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.