يوميات صحفي … سائق تاكسي 10

محمد الرديني

الضحك

يالله كم انا تعيس هذه الليلة. غريب امر هذا الانسان الشرقي، كم يحب تعذيب نفسه، انه قابل للتهميش  والكسر اكثر من اي شىء آخر.
لو منحتموني وقتا  آخر لقلت لكم اشياء كثيرة فيها من تعذيب النفس والركض وراء السراب والبكاء على الاطلال ما لاتسعه هذه الصفحات ولكني ساكتفي بالقول ان كل هذا  الزعل      – وهي كلمة رقيقة جدا في هذا السياق-  سببه اني سمعت بنات في عمر الورد يضحكن. صدقوني لم يكن الامر اكثر من ذلك: بنات في عمر الزهور يضحكن في سيارتي التاكسي بعد الساعة الثانية فجرا.
كانت الواحدة منهن تضحك بعد كل حفنة من الكلمات تطلقها صويحباتها  اللواتي كن يضحكن وهن يسمعن هذه الحفنة. لم افهم شيئا مما تحدثن به ولكنهن كن يضحكن بسعادة لانظير لها. فتيات لم يتعدين عمر الورد الجوري يصعدن الى سيارتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل وهن يضحكن.
كل الكوابيس السوداء والحمراء والتي لالون لها قفزت الى صماخ رأسي وبدأت طاحونة الاسئلة تتراقص امام عيني وانا اقود سيارة التاكسي .
لقد وهبنا الله الحياة وهم هناك في بلادي الجميلة سلبوا منا احلى مافيها: السلام والمحبة. كانوا يكنون كرها فظيعا لبعضهم –اولئك اللصوص- ولكنهم اتحدوا علينا وجعلونا نكره حتى الضحك.
وتصيب جدتي العدوى حين تقول لامي: الضحك بلا سبب من قلة الادب.
هل يعقل ان يضحك الانسان بلا سبب..؟ قالوا نعم يمكنه ذلك اذا تناول شيئا من المسكرات او المخدرات.. اذن لنتناول شيئا منها حتى نضحك.
سألت احدى الزوجات زوجها: لماذا كل هذا العبوس المرسوم على وجهك ؟.
رد ساخرا: لاني لم اتناول شيئا منها منذ يومين.
سمعت ابي يقول ذات يوم: البنت التي تضحك كثيرا ستبقى عانسا طول عمرها لان الناس سيطلقون عليها لقب (البنت الفطيرة) وستظل تحمل هذا اللقب معها حتى وهي ميتة . والولد الذي يضحك كثيرا لاينجح في حياته فهو سخيف غير جاد ولايحترمه الناس.
وقال ابي ذات مرة: الضحك والرقص يفقدان الشاب رجولته.
مرة جاءني احد الاصدقاء وهو يكاد يبكي دما وحين سألته انفجر في وجهي قائلا: كنت رفيقا مخلصا في الحزب الشيوعي ولكنهم وجهوا لي تنبيها هذا اليوم لاني كنت ارقص مع اختي في احد النوادي الليلية وقالوا ان الشيوعي لايرقص ولايضحك لان ذلك من صفات البرجوازية الصغيرة.
اعود الى الفتيات الضاحكات، ففي تلك الليلة وبعد ان شبعن من الضحك غادرن السيارة الى بيتهن وبقيت انا صافنا داخل السيارة لفترة ليست قصيرة بعدها شعرت باني على وشك الغثيان، انتابتني حالة من الجنون اعرفها جيدا فهي صديقتي الصدوقة التي تقودني الى شيء يشبه فقدان التوازن العقلي. في تلك الليلة اسرعت الى بيت صديقي آدم غير حافل بتقاليد هذا البلد الذي يرى انه من الجنون ان تزور احدهم او تتصل به هاتفيا بعد الساعة التاسعة ليلا. كانت الساعة الرابعة والنصف فجرا حين طرقت باب بيت صديقي آدم بعنف. خرج آدم يفرك عينيه، قلت له دون ان احييه:
” لديك ولدان رائعان ولدي انا ولدين بنفس اعمارهما.
“…..
” دعنا نبدأ من هذه الليلة ، دعنا نعلمهم كيف يضحكون. ليضحك اولادنا حتى ولو كانت الساعة الخامسة فجرا والملائكة نيام.

About محمد الرديني

في العام 1949 ولدت في البصرة وكنت الابن الثاني الذي تلاه 9 اولاد وبنات. بعد خمسة عشر سنة كانت ابنة الجيران السبب الاول في اقترافي اول خاطرة انشائية نشرتها في جريدة "البريد". اختفت ابنة الجيران ولكني مازلت اقترف الكتابة لحد الان. في العام 1969 صدرت لي بتعضيد من وزارة الاعلام العراقية مجموعة قصص تحت اسم "الشتاء يأتي جذلا"وكان علي ان اتولى توزيعها. في العام 1975 التحقت بالعمل الصحفي في مجلة "الف باء" وطيلة 5 سنوات كتبت عن كل قرى العراق تقريبا ، شمالا من "كلي علي بيك" الى السيبة احدى نواحي الفاو. في ذلك الوقت اعتقدت اني نجحت صحافيا لاني كتبت عن ناسي المعدومين وفشلت كاتبا لاني لم اكتب لنفسي شيئا. في العام 1980 التحقت بجريدة" الخليج" الاماراتية لاعمل محررا في الاخبار المحلية ثم محررا لصفحة الاطفال ومشرفا على بريد القراء ثم محررا اول في قسم التحقيقات. وخلال 20 سنة من عملي في هذه الجريدة عرفت ميدانيا كم هو مسحوق العربي حتى في وطنه وكم تمتهن كرامته كل يوم، ولكني تعلمت ايضا حرفة الصحافة وتمكنت منها الا اني لم اجد وقتا اكتب لذاتي. هاجرت الى نيوزيلندا في العام 1995 ومازلت اعيش هناك. الهجرة اطلعتني على حقائق مرعبة اولها اننا نحتاج الى عشرات السنين لكي نعيد ترتيب شخصيتنا بحيث يقبلنا الاخرون. الثانية ان المثقفين وكتاباتهم في واد والناس كلهم في واد اخر. الثالثة ان الانسان عندنا هو فارزة يمكن للكاتب ان يضعها بين السطور او لا. في السنوات الاخيرة تفرغت للكتابة الشخصية بعيدا عن الهم الصحفي، واحتفظ الان برواية مخطوطة ومجموعة قصصية ويوميات اسميتها "يوميات صحفي سائق تاكسي" ومجموعة قصص اطفال بأنتظار غودو عربي صاحب دار نشر يتولى معي طبع ماكتبت دون ان يمد يده طالبا مني العربون قبل الطبع. احلم في سنواتي المقبلة ان اتخصص في الكتابة للاطفال فهم الوحيدون الذين يقرأون.
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.