(بقلم د. يوسف البندر)
يذكر الدكتور علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين: حدث لي ذات مرة في بدء دخولي الحياة الامريكية أن حيَّيت فتاة من صفي الحسان، فردَّت لي التحية بغمزةٍ من عينها، وغمزةُ المرأة في أمريكا لا تعني غير اللطف وحسن المجاملة، أما أنا فقد فسرتُ تلك الغمزة تفسيراً شرقياً خبيثاً، وبقيتُ طول يومي أنظر وجهي بالمرآة وأضرب أخماساً باسداس!
إنَّ ما نشأتُ عليه في بيئتي الشرقية المتزمتة في وقار مُصطنع، جعلني أحسُ لدى تلك الغمزة البريئة بهمسةٍ من همسات الشيطان، ومن السهل أن يغري الشيطان انساناً اعتاد على الوقار المُصطنع والتزمت الشديد.
ويبدو لي أنَّ هذا التزمت الشديد الذي امتازت به حضارتنا الشرقية هو بقية من بقايا مجدنا الذهبي القديم… يُروى إنّ الخليفة سليمان بن عبد الملك كان يتنزه ذات يوم في بادية فسمع صوتاً يغني من بعيد، وكان الصوت رخيماً مطرباً، فغضب الخليفة منه اذ اعتبره خطراً على عفاف النساء وسبب من اسباب اغرائهنَّ وافسادهنَّ، فأمر بخصاء المغني، وقد خُصيَّ المسكين فعلاً!
إنَّ هذه القصة أحسب الواعظين يصفقون لها ويفرحون بها… فالواعظون لا يهتمون لو كان المغني يغني للخليفة فتهتز على صوته بطون الجواري، لكنهم يهتمون كل الاهتمام اذا رأوا صعلوكاً يغني لأهل قريتهِ من الفقراء والمساكين! انتهى كلام الوردي.
الحقيقة حينما مررت على هذه الحادثة توقفت عندها كثيراً، لأتأمل ما كُتِب، وأتبصر ما ذُكِر، وأتفحص ما حدث، وأتمكن من تحليل ما ذكره دكتورنا الرائع، فوجدتُه صادقاً أميناً، ومخلصاً رقيباً، وقولهُ صحيحاً حصيفاً، صائباً سديداً، وتحليلهُ حكيماً سليماً، واضحاً قويماً.
فإن التزمّت الشديد الذي امتازت به بيئتنا واضحٌ في تصرفاتنا، جليٌّ في سلوكنا، أبلجٌ في أخلاقنا! والوقار المُصطنع الذي يتمتع به كهنتنا ساطعٌ في نفاقهم، مُبينٌ في ريائهم، سافرٌ في أعمالهم! والمُكر والخِداع الذي إتسم به مجتمعنا فاضحٌ خليعٌ، وصارخ لامعٌ، وساطعٌ ناصعٌ!
فإن لم نتمكن من تشخيص مرضنا بدقةٍ وإتقان، وإن لم نستطع تحديد مشكلتنا ببراعةٍ وإحكام، وإن لم نقدر على مواجهة ورطتنا بشجاعةٍ وإقدام، فإن مستقبلنا سيكون كحاضرنا، وأجيالنا ستُضيع طريقها في صحراء الجهل والتخلف، وسيستقر أبناءنا غرقاَ تحت أمواج التفاهة والخزعبلات، وستزدادُ شعوبنا إنغماساً في وحل الدجل والخرافات، ولن نتمكن من انتشال أولادنا من مستنقع الإنحطاط والتدهور، وبؤرة الانهيار والتقهقر، ومنبع التشتت والتبعثر!
رفقاً بأجيالنا أيها السادة!
دمتم بألف خير!