كتب المؤرخ عبد الله حنا
من تاريخ #العبيد في #بلاد_الشام
إن حالة وجود الجواري والعبيد والخصيان لم تقتصر على قصور السلاطين العثمانيين بل كانت ظاهرة عادية منتشرة في سائر أرجاء السلطنة . ولم يخل قصر من قصور الحكام العثمانيين من العبيد المكلفين بالخدمة المنزلية وكانت منازل الأغنياء تفتخر باقتناء العبيد الخدم . ونأتي هنا بامثلة من سورية :
أ – وثائق المحاكم الشرعية بدمشق الموجودة في مركز الوثائق التاريخية تبين أن العبيد في دمشق كانوا حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر في سوق التداول بدمشق . فقد بلغ عدد مواضيع المحكمة الشرعية بدمشق من 20 رمضان 1053 إلى غرة صفر 1036 هجرية 402 موضوعا منها عشر دعاوى عتق أناس من العبودية .
وكانت دعاوى عتق العبيد تأخذ حيزا من سجلات المحكمة وفيما يلي نموذجا من قضايا العتق قامت به رابية خاتون بنت خسرو زوجة بلد كباش . فقد جاء في سجلّ المحكمة
” بأنها اعتقت وحررت جاريتها المدعوة كلستان بنت عبد الله الروسية الجنسية المربوعة القامة البيضاء اللون والشعروالزرقاء العين المعترفة لسيدتها المرقومة بالرق والعبودية ، حسبة لله العظيم وابتغاء مرضاة الرب الرحيم ورغبة بما وعد به النبي المختار . فصارت بذلك حرة كسائر احرار المسلمين الأصليين لها ما لهن وعليها ما عليهن . فلم يبق لأحد عليها حكم الملاك لحصول العتق والنكال سوى حق الولاء للموالي على كافة العتقاء بحسب الشريعة الغراء “
وجاء في إحدى دعاوى العتق هذه أن ( فلان ) … ” أعتق مماليكه حاملين هذا الكتاب رغبة في الأجر والثواب وهم : 1 – الأبيض اللون … 2 – الأبيض اللون الكورجي الجنسية … 3 – الأسود اللون … 4 – الأسود اللون … 5 – الحبشية … 6 – السوداء … ومعنى ذلك أن شخصا واحدا رر قبل مماته ستة عبيد وذلك ” ابتغاء مرضاة الرحمن الرحيم ورغبة بما وعد به النبي المختار عليهصلاة الله وسلامه ” والعبد المعتق يلحق بأحرار المسلمين بعد حضور الشهود .
ويتبين من مراجعة سجلات المحكمة الشرعية بدمشق الموجودة في مركز الوثائق التاريخية , ومن كثرة دعاوى العتق أن الطبقة الميسورة في المدن كانت تملك عددا من العبيد للقيام بالأعمال المنزلية والخدمات الأخرى .
ب – أورد فخري البارودي ، ابن أحد الإقطاعيين الأعيان في دمشق ، في مذكراته الخبر التالي :
” لما تولى المُلك السلطان عبد الحميد طرد حاشية اخيه المخلوع مراد ، فتفرق افرادها ينشدون عملا وجاء بعضهم إلى دمشق فاستخدم جدي منهم مصطفى بغا رئيس طباخي السراي والخصي خير الدين آغا ( حرم آغاسي ) . وكان ذوات تلك الأيام ومعظمهم اصحاب المزارع الأغنياء يكثرون من اقتناء العبيد . وكانت بيوت الأكابر تعجّ بالخدم من سود وبيض و خاصة بالمماليك المنتمين إلى الشركس والكرج . وكانوا يقتنون أيضا الجواري على اختلاف ألوانهنّ , ويستولدون الإماء … ومما يؤسف له أن تربية الأولاد كانت في أيدي الخدم الجهلة , وما تزال كذلك إلى اليوم ” أي الربع الثاني من القرن العشرين زمن كتابة البارودي لمذكراته .
ج – خالد العظم ابن فوزي باشا ، أحد أعيان دمشق البارزين ، 1903 يكتب في مذكراته أنه ” تربى على يدي مربية زنجية ” ، كما كانت عادة الأرستقراطية في ذلك الزمن … ويذكر العظم أنه كان يخاف الذهاب بمفرده إلى المدرسة . ولهذا كانت مربيته الزنجية ترافقه في الطريق لحمايته وتبقى معه في المدرسة و حتى وقت الانصراف وتعود به إلى البيت .
***
ما شاهدناه أثناء الجولات الميدانية في عام 1984
فيما يتعلق بعبيد شيوخ العشائر .
بقيت تجارة العبيد منتشرة في شبه الجزيرة العربية حتى منتصف القرن العشرين ، والمصدر الأساسي لها هو وسط أفريقيا. وتتم التجارة بها بصورة شبه سرية بين موانئ البحر الأحمر حتى الربع الأول من القرن العشرين . وقد قام قراصنة البحر وتجار العبيد ببيع هذه القوى البشرية المسروقة من مناطقها، إلى الأرستقراطية البدوية في شبه الجزيرة العربية وبوادي الشام والرافدين . ومن خلال جولاتنا الميدانية في بوادي بلاد الشام تبيّن لنا ، أن الأرستقراطية البدوية استخدمت هؤلاء العبيد، الذين اشترط فيهم اللون الأسود، في الأعمال المنزلية والرعوية والحراسة. ومن ثم تحول قسم منهم إلى أداة “همجية” و ” قمع ” في يد الأرستقراطية البدوية لإرهاب أفراد القبيلة والفلاحين على حد سواء.
لقد قامت الأرستقراطية البدوية، وبخاصة بعد تحولها في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين إلى طبقة إقطاعية ذات سمات خاصة إلى استخدام العبيد إضافة إلى مهمات الحراسة والخدمة المنزلية بالمهمات التالية: جمع “الخوة” من القبائل الضعيفة .. جمع “الخوة” من القرى والتجمعات الزراعية .. تحصيل سلسلة من الأتاوات الأخرى .. القيام بمهمة الوكيل والوقاف والشحنة لمراقبة الفلاحين العاملين في أراضي شيخ العشيرة وتحصيل حصة الشيخ .. فرض أعمال السخرة على الفلاحين لمصلحة الشيخ، مثل زراعة شكارة الشيخ وبناء قصره بعد أن تحول من الخيام إلى البيوت الطينية أو الحجرية .. تهجير الفلاحين من أرض الشيخ إذا أبدوا أية “خطيئة” أو خالفوا أوامر الشيخ .
وأحياناً، كان شيوخ العشائر يُهدون ملاك الأراضي بعضاً من عبيدهم لمساعدة الملاك على استغلال الفلاحين باسم تحصيل حصة المالك ومراقبة الفلاحين أثناء جني المحاصيل حتى لا “يسرقوا” شيئاً منها. فالعبيد من السود بهذا المعنى هم زلم الإقطاعي والقوة الضاربة، التي لا ترحم من يقع بين يديها.
وخلال جولتنا في الأرياف السورية كنا نلاحظ وفي كل مكان محاذ للبادية، الشعور العدائي من الفلاحين تجاه العبيد، الذين كانوا أداة استغلال وبطش في يد الأرستقراطية البدوية.
وكما قال أحد الفلاحين في قرية أربعة صغير (منبج) إن الفلاح في قرى الشيخ كان عبداً للعبد الذي يأمر وينهي ويهجّر ويضرب ويأخذ الرشوة، دون أن يكون هناك قانون أو رادع لنزواته ورغبات سيده. وفي كل مكان كنا نسمع الفلاحين يرددون “كلب الشيخ شيخ .
***
بتاريخ 20/10/1984 قمنا بزيارة بيت من بيوت عبيد شيخ الحسنة تامر بن طراد الملحم في أراضي القنية الشرقية (جنوب شرقي حمص) . واستمعنا هناك إلى حديث العبد السابق دياب بن حمود سليمان (عمره 45 سنة) ووالده حمود البريك (عمره 84 سنة).. وأول ما لاحظناه هو تكتم “العبيد” سابقاً، الأحرار حالياً، وعدم رغبتهم في إعطاء أية معلومات حول سيدهم، وشعورهم الضمني بالولاء للشيخ، على الرغم من أن الدولة قد ضمنت الأرض لهم، وساعدتهم على بناء البيوت والعيش باستقرار. فقد ترك دياب مع والده بيت الشعر في عام 1965 ، وبعد أن باع الجمال بنى بيتاً مؤلفاً من ثلاث غرف، ويقوم بحراثة الأرض، التي انتفع بها من الإصلاح الزراعي بالتراكتور ويحصد بالأيدي. وإلى جانب الزراعة لا يزال سليمان يقوم برعي عدد من الغنم في منطقة رعوية قليلة الأمطار. وفي عام 1965 تزوج سليمان “بعقد براني” أي ليس بواسطة القاضي، ولم يكن عقد الزواج مسجلاً في دوائر النفوس إلى أن أراد إرسال أولاده إلى المدرسة فجرى تسجيل الزوجة والأطفال وعددهم سبعة. والد سليمان “حمود البريك” قدم المعلومات التالية:
ولد حمود في الفحيل “على دور العثملي” من والدين عبدين لدى محمد الملحم شيخ الحسنة … والعبيد نوعان: نوع أتى مع الملحم من نجد وعلاقته بالشيخ جيدة ويثق به ويكلفه بالمهمات. ونوع اشتراه الشيخ في سورية وهؤلاء يعاملون كالخدم ويستخدمون للحراسة.. العبد لا يمكن أن يتزوج إلا عبدة.. الشيخ ملزم بنفقات العبد وعائلته وتأمين بيت شعر له مع السلاح، وكان العبد ينال جزءاً من الخوة والمنهوبات. وهذا الجزء مرتبط بمقدار قرب العبد من قلب الشيخ أو بعده عنه.. مثلما يخدم العبد الشيخ كذلك تخدم العبدة الشيخة..كان العبيد يرتشون من أجل التوسط لدى الشيخ أو من أجل تخفيف مقدار الخوة وأعمال السخرة وغير ذلك.. إذا مات العبد وليس له ذرية، فممتلكاته لسيده الشيخ.. ويمكن له أن ينتقل من خدمة الشيخ إلى شيخ آخر. وكثيراً ما كان العبيد يُقدّمون كهدية..
في الوقت، الذي تمتع فيه عبيد الشيوخ بامتيازات من خلال تسلطهم على البدو وبخاصة الفلاحين لمصلحة الشيخ، لم تكن لهم أية حقوق أمام الشيخ وأولاده.. ووصل الأمر إلى درجة أن حياة العبد، التي يزهقها الشيخ أو ابنه لا قيمة لها.
ومن جهة أخرى نال عدد من العبيد الحظوة لدى الشيخ “فوهبهم” ما تمكن من الحصول عليه تجنبا من استيلاء الدولة بموجب قانون الإصلاح الزراعي على الزائد من أملاك الشيخ .
الحلقة القادمة : هل طبّق سلاطين بني عثمان الشريعة ؟ ..