مقهى الحجاز

Nadia Khost

لو انتبه المعنيّ بالسياحة إلى موقع مقهى الحجاز كأرض ذات ثمن تجاري عقاري في مركز المدينة، لرجّح بناء فندق في مكانه. لكنه إذا تأمل موقع المقهى في منطقة مزدحمة، رجّح بقاء المقهى فراغاً مكشوفاً. ولو التزم بحماية ذاكرة المدينة، لثبّت على جدار المقهى الخارجي تاريخه، وأضاف إليه أصص الزهر ونباتات المواسم. ولو تناول الصور القديمة التي تسجل تلك المنطقة، ليفهم قيمة ما يتناوله، لأدهشه أنها كانت منظمة تنظيماً يحترم البيئة، فكانت فيها بحرات وأشجار معمرة، ومسارات خضراء للناس ومقاعد لراحتهم. ولتبيّن أشجار الكينا الباسقة قرب فندق الشرق ومقابل محطة الحجاز. ولتساءل أين ذهبت تلك الخضرة والظلال، ومن يتحمل مسؤولية قطع تلك الأشجار؟ ولتذكّر في السياق، أن شارع حلب كان يتميز من أوله إلى آخره بصف طويل من أشجار الحور الرشيقة، كان يمكن أن تبقي البهجة لمن يعبره وتحفظ هوية الشارع، لكن فأس الجهل أو الحقد الوحشية نزلت عليها في ليلة مظلمة.
تبيّن الصور القديمة كثافة أشجار المدينة، وتدفق المياه في بردى، وجمال طرقات تتخللها الأنهار. يشعر المتفرج على تلك الصور اليوم بأن تلك المدينة تتقدم على مدينة اليوم بالتنظيم واحترام البيئة، ويخمّن أن سكانها كانوا يستمتعون بخضرتها وهدوئها، وأنها لو بقيت على تلك الحال لكانت اليوم أكثر المناطق جذباً سياحياً. ويتساءل في أسى: أين ذهبت تلك الأشجار الباسقة والظلال الوارفة؟ وهل حوسب أحد على تدميرها؟ ذكر رئيس اتحاد الفلاحين منذ عقود أن 15 مليون شجرة مثمرة قطعت في غوطة دمشق. وكم قطع بعد تقريره! لكن الصور فقط تخبرنا عن الأشجار التي أزيلت من المدينة، وقد عرفنا بعضها في حياتنا.


لذلك نرى تحويل مقهى محطة الحجاز إلى فندق تعبيراً عن سلب أرض من الناس وتقديمها للأغنياء. ونلمح فيه استفزازاً للناس الذين تحملوا الحرب ويفترض أن يكافأوا بحدائق حيثما وُجد فراغ. أيجوز أن نتخلف عن خمسينيات القرن العشرين التي عرفت فيها دمشق المقاهي المكشوفة، فكان مكان كازية شارع بغداد مقهى يسيّجه الورد والبيلسان، وفي القصاع مقهى السلوى ومقهى جناين الورد وغيرهما، وفي شارع 29 أيار عدة مقاه مكشوفة ذات أشجار، وفي آخر المهاجرين مقاه تطل على المدينة؟
في القرن الحادي والعشرين استكثرنا على فقراء المدينة مقهى الحجاز! واحتكر الأغنياء المطاعم والصالات. ألا يدفعنا ذلك إلى الخشية من العودة إلى “اقتصاد الفنادق” وأوهام السياحة العالمية؟ ألا يذكّرنا ذلك بأحد وزراء السياحة الذي كاد يقتلع خان الرز خلال عطلة طويلة ليجعله لخدمات الفندق الذي حلم بأن يقيمه في خان أسعد باشا؟ ولابد أن الإعلامي الأستاذ عصام داري يذكر أنه نشر في جريدة تشرين ريبورتاجاً أحبط ذلك المشروع. ويذكّرنا بوزير آخر حلم باستثمار المواقع الأثرية نفسها. وبوزير أصبح من الخفّاقين في المعارضة الخارجية أدهشني بقوله: “قبل أن أكون وزيراً كنت أفكر مثلك”!
يفترض أن ذلك أصبح من تجارب الماضي المرّة! فقانون حماية الواجهات والفراغات لأنها تتصل بذاكرة المدينة، واضح. واستقدام مشروع إلى منطقة مزدحمة أمر محظّر. وموقع السلطة الأثرية الذي يعلو على سلطة المحافظات والبلديات والمشاريع السياحية، يبيح لها أن تحمي كل ما يتجاوز عمره نصف قرن من الزمن. صار معروفاً أن هوية المدينة هي الجاذب السياحي، لا فنادق الخمس النجوم التي تبهر رجال الأعمال.
لذلك نرى أن اقتلاع مقهى الحجاز وغرس فندق في منطقة مزدحمة يخالف جميع المعايير المعتمدة في تناول الذاكرة العامة وفضاءات المدينة. وهو فوق ذلك، استفزاز أصحاب الأموال لشعب يعاني من الغلاء، ولا تزال جراح جنوده ومقاوميه طرية.

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.