قصة فلسفية: نبيل عودة
بدون سابق انذار تغير الطقس. كان صباحا باردا جدا وماطرا، الأمر الذي أعاق وصول بعض الطلاب في الوقت المحدد لبدء الدراسة. شعر الذين تعوقوا ببعض الرهبة، بان يكون المحاضر قد سبقهم ، دون ان يؤثر اختلاف الطقس على توقيتاته المبالغ فيها وما سببه اختلاف الطقس المفاجئ من ازدحام الشوارع بالمركبات وبطء غير عادي في حركة السير .
كان المحاضر لا يتهاون في مواعيد محاضراته ويصر على التزام الطلاب الكامل بالدقيقة لمواعيد دروسه، ويرفض دخول اي طالب بعد ان يكون قد دخل الصف واتخذ مكانه المعتاد بادئا درسه. ولكنه اول يوم ماطر وفوضى سير، اكتظاظ في الحركة المرورية، ربما يكون قد تعوق هو نفسه لنفس الأسباب. كما فكر الطلاب وهم يهرولون ركضا لقاعة المحاضرات.
كان من عادته ان يدخل متأخرا دقيقتين تماما، فاتحا المجال للطلاب للوصول الى مقاعدهم والاستعداد العقلي لدرس الفلسفة.
المستهجن ان ذلك الصباح الماطر والبارد، تأخر المحاضر عشر دقائق كاملة، رغم ان البعض شاهده يدخل حرم الجامعة، قبل الوقت بعشر دقائق. مما انقذ الكثير من الطلاب من إبقائهم خارج قاعة المحاضرات. ولكن تبين كما قال احد الطلاب ان “اليوم عسل” بسبب الخير الدافق من السماء.
صحيح انه يمكن نقل تفاصيل المحاضرة عن كراريس الزملاء .. غير ان فقدان ساعة تسبب لهم مشاكل مع العلامات التي يسجلها المحاضر على أعمالهم، ويلزمهم بتعويضها بساعة أخرى، الأمر الذي يسبب لهم ضغوطات دراسية وضغط في الوقت، وعلامات أقل مما يعتقدون انهم أهل لها. لذا يمكن القول ان مواعيد دروسه كانت من الدقة لدرجة يمكن ضبط أفخر الساعات السويسرية على ثوانيها. وقد انتشر في محيط الجامعة اصطلاح يقول ” توقيت محاضر الفلسفة” ويعني الالتزام بالثانية.
نظرية المحاضر تقول انه لا قيمة للفلسفة والتفكير الفلسفي الا بتحديد اطار للوقت يلتزم فيه العقل بدقة المواعيد، ودقة وقت الحديث، بحيث لا يتحول الى ثرثرة وفوضى. لأن ذلك يقود الى فوضى في المخ البشري، والاستهانة بالفكر، الذي لولاه لظل الانسان بعيدا قرونا عديدة عن الواقع المتطور الذي وصله اليوم.
كان المحاضر، الى جانب دقة الوقت، يلزم طلاب الفلسفة بدقة التعابير، ومساحة الدقيقتين المقررتين للإجابة على أسئلة يطرحها المحاضر ليفحص ان طلابه متواجدين، ليس باجسامهم فقط داخل القاعة، انما بعقولهم أيضا .
كان الطلاب، رغم صعوبة توقيتات المحاضر، ونهجه غير المهادن، والرافض لكل الحجج والمبررات الا حجة الموت .. “وهذه نعرفها من اعلانات النعي، ونقبلها، ولا نريدها لكم “. الا انهم تعودوا حقا على الالتزام بالوقت حتى فيما بينهم. وصار كل تجاوز في موعد ما، يثير امتعاضهم القوي. مثلا يلتزم الطالب ان يتواجد يوميا في قاعة المكتبة من الثالثة حتى الرابعة والربع .. وفي الرابعة والدقيقة السادسة عشر يكون خارج القاعة …
ورغم شخصية المحاضر الصعبة، الا ان محاضراته هي متعة عقلية غير عادية. ينقلهم فيها المحاضر الى عالم سحري من الأفكار الفلسفية، التي قلبت عالمنا، وشكلت مضمونه الذي نحياه، عبر الطريق التي اجتازتها الشعوب… الى ما هي عليه اليوم من تقدم أو تخلف، من سمو أو من حضيض.
بعض ما كان يبدو لهم طلاسما، مرهقا ومملا وعصي عن الفهم، جعلته شروحات المحاضر حقائقا ملموسة، تدخلهم الى أجواء لم يتوقعوها من الاندماج الروحي والفكري مع ذاتهم وعالمهم، الأمر الذي يثير شعورهم بأن ما اكتسبوه اليوم يعتبر ثروة فكرية تجعلهم حقا مميزون عن أترابهم الذي اختاروا مواضيع أخرى، او ذهبوا الى سوق العمل.
كان يحلل أصعب الأفكار الفلسفية بقدرته على صياغة جمل نصية واضحة وكاملة المعنى ومليئة بروح الدعابة أحيانا، ويضيف لها النماذج الملموسة من الحياة نفسها او من الأساطير التي ترمز إلى معاني معينة ، كانوا يظنون ان بعضها نكتا شعبية، فاذا هي مليئة بحكم الحياة وفلسفة الوجود .
دخل المحاضر الصف بابتسامته الواسعة، والتي تخفي شخصيته “الألمانية” كما يقول الطلاب مستعيرين هذه الصفة للإشارة الى دقته وقسوته، والتزامه بانضاط مبالغ فيه في رأيهم، في كل علاقاته، حتى في المواعيد مع طالب للاستفسار عن مسألة معينة، يحدد وقتا دقيقا. مثلا من الثانية وخمس دقائق وحتى الثانية والثلث. لن يستقبل الطالب قبل ان يدق “توقيت الفلسفة ” الثانية وخمس دقائق. ولن يعطي الطالب ثانية واحدة بعد الوقت المقرر. كان الطالب ينتظر على باب مكتبه ونظراته تراقب عقرب الساعة، وأذنه جاهزة لسماع كلمة أدخل حين يحين الوقت. واذا صدف وتعوق، لن يلقاه مرة أخرى لفترة شهر كامل.
وكثيرا ما تساءل الطلاب عن علاقة ذلك بالفلسفة؟ وحين تجرأت سعاد وسألته هذا السؤال، تمنت ان تنشق الأرض وتبلعا لجوابه “النشاز” كما اشتكت لصديقاتها. قال: “الوقت ليس علاقة غرامية بالسرير، هناك لك الوقت المفتوح كما تشائين، كفي ضحكا..( صرخ بعبوس على انطلاق ضحكات من مقاعد الطلاب) في الحياة نفسها من يضيع دقيقة يضيع ملايين الدقائق من حيوات ملايين البشر، الوقت ليس ملكا شخصيا لأحد، بمثل عقليتك يا سعاد لن يتقدم العالم، وربما كنا ما زلنا حتى اليوم في العصر الحجري ومشاعية النساء، مجتمعكم متخلف لأنه لا يقدر قيمة الوقت، يجب ان تكونوا جهازا فعالا لوضع حد لفوضى الوقت.. والا لا قيمة لكل فلسفتكم التي تدرسوها اذا واصلتم حياة التهريج والفوضى وعدم الانضباط والمسؤولية بانجاز العمل في وقته، وليس حسب التساهيل والنفسية والطقس. لذلك انتم في الفلسفة، وسعاد يجب ان تستبدل عاداتها السريرية، الى وعي لمفهوم الوقت وارتباطه الوثيق بتقدم البشر والمجتمعات البشرية، والسباق نحو الفوز بالأولوية في الاكتشافات والتقدم المعرفي والتكنلوجي والعلمي، وليس السقوط بعادات لا تحترم الوقت وتحرقة بالخرافات والتنبلة والأوهام !!”
على غير عاداته هذا اليوم ، جلس يضاحك الطلاب ، ويبدو ان المطر نقله الى نشوة لا يعرفونها به. ورغم مضي عشر دقائق الا ان بعض الطلاب لم ينجحوا بالوصول بعد، والذين يصلون يقفون حائرين قرب الباب مترددين في الدخول، وحتى كلمة ” ادخلوا ” التي صدرت عنه لم تقنعهم انهم المعنيون بها. دخلوا رجلا للأمام وأخرى للخلف، ولم يطمئنوا الا بعد ان جلسوا على مقاعدهم. بعد مضي عشر دقائق أخرى قال:
– المطر خير .. ولكن له فعل سلبي على درسنا اليوم وعلى قدسية الوقت. ولكن منذ الغد لن أقبل أي تعويق، نعود الى منهجنا. واضح؟ حتى لو تراكمت الثلوج الى علو متر كامل. حسنا، اليوم خمر .. نسمح لجميع الطلاب بالدخول، وغدا أمر.. نعود لمسؤوليتنا
ونظامنا والتزامنا بالوقت، باعتبارنا رجال فكر وليس رواد مقاهي الأرجيلة، أو على هامش الحياة نمارس التنبلة! ماذا كان درسنا الأخير؟ وجه نظراته للطلاب، فارتفع أكثر من صوت:
– تحدثنا عن البوذية ..
– أجل . الشتاء لم يؤثر على ذاكرتكم .. البوذية، كما قلنا هي أكبر دين في العالم. وظهرت في الهند في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، والمستهجن ان ستة الاف سنة وأكثر من ظهور اول دين سماوي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، الا ان البوذية ما تزال تعتبر من أكبر الديانات انتشارا على وجه الأرض، كيف لم ينجح أحد من كل انواع الغزاة من دعاة الديانات التوحيدية، الى تقليص او زحزحة هذا الدين غير السماوي؟
ينسب تأسيس البوذية الى الأمير الهندي سيدهارتها غوتاما، وكان يلقب ببوذا وتعني “المتنور”، ويعود سر نجاحها الى المساواة الدينية الروحية ومكافحتها تفرقة الناس الطائفية. وانتشرت البوذية عدا الهند، في الصين واليابان وكوريا والعديد من بلدان جنوب شرق أسيا. حدثت تطورات على البوذية، قربتها من الفكر الإلهي، او التوسل لإرضاء الآلهة. ولكنها اقرب للتربية الشخصية والأخلاقية. أي ليست بجوهرها دينا سماويا.
الكشف الفلسفي عن البوذية يعود فضله الى الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر أرتور شوبنهاور الذي تأثر بالفلسفة البوذية، وجوهر فلسفته كان بتأثيرها.
يقول شوبنهاور: ” نحن نحس بالألم اذا أصابنا، ولا نحس نهاية الألم “. تمييز جدير بالدراسة.. هذه ضمن روحانيات البوذية الفلسفية. وتطرح البوذية رؤية تقول ان السعادة ليست سلبية، ولكن السلبي هو الانسان الذي لا يحس بها”. ومن هنا كان شوبنهاور ، تماما مثل البوذية ، يعتقد ان الحياة مجرد معاناة ، نضال واحباط . وان طريقة الهرب الوحيدة، او الخلاص من هذا الواقع، هو الاستسلام. كبت الأشواق، وقمع الإرادة للحياة. أي نوع من التصوف.. ولكنه تصوف بوذي شديد القسوة على الذات الانسانية. وتبرير ذلك عند شوبنهاور والبوذية، ان التنازل، بمفهوم الاستسلام أيضا، يقود الى الرحمة، او الشفقة على كل المخلوقات الحية وتقديسها، أي أشبه بصفعة لجعل النفس نقية. في عالمنا اليوم يبدو هذا الوضع غير قابل للتنفيذ .. ولكن الحقيقة ان ملايين البوذيين يمارسون هذه الشعائر.. وهي تمارس أكثر من شعائر أي دين آخر.
قاطعه صوت طالب:
– هناك جمعيات الرفق بالحيوان .. هل لها جذور بوذية.
– لا علاقة شرطية، انما رؤية إنسانية عامة. ربما نحتاج الى جمعيات الرفق بالبشر أيضا في هذا العالم الذي صار العنف والقتل من مميزاته.
البوذية وشوبنهاور سوية، رأوا ان الحياة دائرة متواصلة من الاحباط والملل. عندما لا نحصل على ما نري، نصاب بالملل. وأن أكبر إحباط يحل على الانسان عندما يظن ان الفرج بات قاب قوسين أو أدنى من قبضة يده، وانها خطوة ليحصل على أمنية طال انتظاره لها. وفجأة يتبين ان أمانيه أضحت أكثر بعدا رغم انها كانت شديدة القرب للحصول عليها.
هناك أسطورة تفسر هذه الفلسفة: وتتعلق بفلسفة شوبنهاور المتأثرة بالبوذية وتعرف باسم “فلسفة السعادة والشقاء”.
كان أميرا جميلا، قامت ساحرة شريرة بحرمانه من الكلام، الا كلمة واحدة كل سنة.واذا تجاوز المحظور، فسوف يصاب بالعمى والطرش أيضا. فالتزم المسكين بما كتب له من الشريرة. ولكن الساحرة سمحت له بتوفير الكلام، بمعنى: اذا لم يستعمل الكلمة في سنة معينة، يستطيع في السنة التي تليها ان يستعمل كلمتين.. وهكذا دواليك .. ما يوفره من كلمات، يستطيع استعمالها في سنوات تالية.
التقى في حديقة القصر، بأميرة رائعة الجمال، جاءت مع والدها في زيارة ملوكية، فأعجب بها وعشقها بكل روحه، أراد ان يقول لها: “أميرتي الجميلة”، ولكنه لم يكن يملك في السنة الأولى الا كلمة واحدة لا تفي بالغرض. فصمت مضطرا سنة كاملة. رد الزيارة بعد سنة، وقبل ان ينطق بالكلمتين، فكر وقال لنفسه ولكني أحبها واريد ان أقول لها، أميرتي الجميلة، أنا أحبك ” وهكذا ينقصه سنتين أخريين، فصمت. بعد سنتين قال في نفسه انه يريدها زوجه له، ويريد ان يقول لها: اميرتي الجميلة انا أحبك، هل تقبليني زوجا لك؟” ولكلمات ” هل تقبليني زوجا لك” يحتاج الى اربعة سنوات أخرى. فصمت. وهكذا مرت ثمانية سنوات، وبحماس سافر اليها ليقول لها كلماته التي وفرها: ” أميرتي الجميلة، أنا أحبك. هل تقبليني زوجا لك؟”
سار مع الأميرة في حديقة القصر، بين الزهور والعصافير المغردة والجو الشاعري اللطيف، شاعرا بنبض قلبها في ذراعه الذي تتأبطه الأميرة.. متحينا الفرصة ليقول ما وفره من كلمات خلال السنوات الثمانية. وتحت شجرة وارفة الظلال، توقفا يتأملان مجرى النهر أمامهما .. وقرر انها الفرصة المناسبة التي يستعد لها منذ ثماني سنوات، وبدون سابق انذار وقال له :
– أميرتي الجميلة، انا احبك، هل تقبليني زوجا لك ؟
تفاجأت الأميرة بسماعها صوت الأمير، فالتفت اليه متسائلة :
– بردون ، ماذا قلت ..؟ لم انتبه لكلماتك.
ورغم شعور الطلاب بالألم على الأمير .. الا ان ضحكاتهم جلجلت في القاعة، وارتفع صوت الطالبة مروّة:
– مأساة حقا بعد ان كاد يحصل على ما يريد، لا بأس ينتظر ثماني سنوات أخرى.. ولكن البوذية شهدت في القرنين السادس والسابع الميلادي، تطوير نوع جديد من البوذية، بادعاء ان الفلسفات والعقائد الأخرى مجرد اوهام وتضليل، وابتعاد عن النورانية التي تحل على الانسان من قوى عليا، بممارسة رياضات معينة للتأمل مثل “النيرفانا”، ولفهم نهجهم الجديد ، يطرحون سؤال فلسفي لم أجد له جوابا:
ما هو الرنين من تصفيق يد واحدة فقط ؟