ما بين الحكمة و الغريزة

من أوراق الأمسhawkshuntswolf

خرج الثعلب إلى كنف العراء وقد أنهكه الجوع، فبدأ يمشي متثاقلاً هائماً بحثاً عن فريسة تائهة تكون له وليمة يسدُّ بها جوعه و يُهدئ بها رمقه.

ها هو يقطع المسافات دون جدوى، فكلما لاحت فريسة واعدة، تحوَّلت عند المُطاردة إلى كتلة حجارٍ مُتَراكِمة، و كلُّ بركة ماء فضيَّة متلألئة ، تغدو عند السعي إليها سراباً بعيد المنال .
لم يكُ الثعلب يعرف أنَّ هنالك كائن آخر متربِّص يشاركُه نفس الشعور، و تعتريه ذات الأحاسيس .
فإذ بطائرٍ جارحٍ يظهر من بعيد في كبد السماء فارداً جناحيه العريضين عرض الأفق يبحث عن أيِّ شيئٍ متحرّك على الأرض آملاً أن يكون صيداً واعداً يتخم به معدته الخاوية منذ حين .
و بينما كان يداعب الريح، و يراقص السماء، لمح من بعيد بعينيه الثاقبتين وبر الثعلب الوردي عكسته أشعّة الشمس فبدا كتلةً لحميَّةً متحرٍِكة.
لم يُضع الطائر الجارح الكثير من الوقت فضبَّ جناحيه المفرودين و انقضَّ مندَفِعاً بسرعةٍ مذهلة و كأنَّه نجمٌ هبط من السّماء.
اجتثَّ بمخالبه الجارحة الثعلب من ظهرهِ فانتشله وانطلق به في الهواء و كأنّه دُميةُ قطنيّة متحرِّكة.
التفت الثعلب وراءه مستفسراً، فإذا بأنفه يلامس أحشاء الطائر المحلِّق، عندها أدرك الثعلب ما قد حصل، فاستثارت حاسة الشم مشاعر الجوع ، عندها كان قد اقتيد مسافاتٍ شاسعةً في وسط السماء و شعر بمخالب الطائر المشحوذة تغترز في ظهره الذي بدأ يتقطّرُ دماً، لكن رائحة الغذاء الطازج الآتية من الطائر كانت أقوى من رائحة لحمه المهروس، و سيلان لعابه من جانب فمه بدا أغزر من تدفُّق دمه، عندها لم يعد الثعلب يفكّر بعقله، فلو صبر إلى أن يحطّ به الطائر على الأرض لكان له فرصة ما بالهرب و النجاة، لكن استحوذت عليه غريزته فبدأ يقتضم و يفترس أحشاء الطير بفكيه القويين، فإذا بالثعلب ينزف من ظهره و الطائر من أحشائه.
غريزة الطائر الجارح لم تك أضعف على أية حال، فمع أن أحشائه تتلاشى قطعةً قطعة في فم الثعلب، لكن رائحة لحم و دم الثعلب كانت أقوى من ألمه، فظلّ يحلِّق حالماً بوجبةٍ دسمة عن قريب فقد قرر عدم ترك الفريسة مهما كلّف الأمر فهو سيستفرد بها قريباً .
شعر الطائر بالضعف بعد حين ، فأخذ الوهن يقضُّ عزيمته، فها هو يصارع الريح محاولاً الاستمرار بالتحليق لكن جناحاه خذلاه، فبدأ بالتخبّط و ها هو يفقد توازنه و ينهار ، و بنفس الوقت فقد تُخِمَ الثعلب بوجبة دسمة لكن دمه كان قد اعتُصِرَ من ظهره و اصطُبغ بدم الطائر الجارح، فاختلطت أحشاؤهم معاً و امتزج دمهم ليتحوّلا إلى كتلةٍ لحميّة دامية،و بالنهاية ها هما ينهاران معاً على الأرض بلا حراك .
فاحت رائحة اللحم و الدم الطازج بالهواء لتستثير غرائز وحش جسور، نائم، فإذا به يتمطّط ببطء و يفتح عينيه الثقيلتين ، وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى طعامه جاهزاً على طبقٍ من ذهب فكانت حقيقة أكبر من الخيال، وجبة ذكيّة مدهشة يسيل لها اللعاب لم يسبق له أن ذاق أي شيء شهي كهذا قُدِّمَتْ له دون عناء أو أي جهدٍ حتى أنها كانت مُقَطَّعَةً إلى لقيماتٍ جاهزة لتخفف عليه عسر الهضم.

الأرقش

آذار 2012

About الأرقش

كاتب وطيبيب سوري يعيش بأميركا
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.