مأساة سياسة القوى العظمى

الكاتبة العراقية د ميسون البياتي

د. ميسون البياتي
في محاضره بعنوان : أسباب ونتائج الحرب في أوكرانيا
The causes and consequences of the Ukraine war
للبروفيسور جون ميرشايمر John J. Mearsheimer
أستاذ العلوم السياسيه في جامعة شيكاغو, وصف فيها الصراع في أوكرانيا بالكارثه الهائله, التي تجبر على البحث عن أسبابها, وأن أولئك الذين يتفقون مع المنطق والحقائق سيدركون أن اللوم في هذه الكارثه يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها. كما ذكر أن القرار الصادر في أبريل 2008 بشأن خطة ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو، كان محكوما عليه أن يثير الصراع مع روسيا. كان بوش الإبن هو مهندس القرار ثم روّج له أوباما وترامب وبايدن , أما الحلفاء فانصاعوا للأمر . ثم أكد على أن روسيا أوضحت بجلاء أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو سيكون انتهاكا لخطوطها الحمراء لكن الولايات المتحدة لم تفعل شيئا لطمأنة روسيا بشأن أمنها القومي بل على العكس من ذلك حولت الولايات المتحده أوكرانيا إلى حصن على الحدود الروسيه , ثم توصلت المحاضره الى استنتاج بأن الولايات المتحده لو لم تقرر ضم أوكرانيا إلى الناتو، لما كانت اندلعت الحرب على الأرجح ، وبقيت القرم أوكرانيه وأن واشنطن لعبت دورا رئيسا في دمار أوكرانيا. وسوف يدين التاريخ الولايات المتحده وحلفاءها بشده بسبب هذا التوجه العقيم
https://www.youtube.com/watch?v=qciVozNtCDM
رغم كل الإدانه التي تحملها المحاضره لحكومات الولايات المتحده المتعاقبه منذ عهد بوش الإبن وحتى عهد بايدن , لكنها خدشت السطح فقط ولم تقم بالغور الى أبعد من ذلك وهو : لماذا قامت الولايات المتحده بإشعال الحرب بين روسيا واوكرانيا ؟ أليس لأن الثقب في القارب الأمريكي جعلها تشرف على الغرق فقررت أن تغرق كل أوربا معها لتبقى الولايات المتحده سيدة العالم في حالتي السلامة والغرق ؟ فتسببت بهياج مجتمعات دول أوربا بسبب نقص الطاقه والغذاء في موسم الصقيع , وتنديدها بالمساعدات العسكريه والمدنيه لحكومة أوكرانيا الفاسده , وهذا أطاح أو سوف يطيح بعدد من الحكومات الأوربيه ويجعل دولها في حالة إنذار لترقب انفجارات أكبر ربما لن تختلف في نتائجها عن تلك النتائج التي وصلت اليها أوربا بعد ربيع الثورات الأوربيه 48_1872 ؟؟
محاضرة البروفيسور جون ميرشايمر هذه تقودنا الى كتابه الآخر بعنوان: مأساة سياسة القوى العظمى
The tragedy of great power politics
الذي صدر في نيويورك عام 2014 يحوي 561 صفحه من القطع الكبير
رغم الحجم الكبير للكتاب لكنه ممتع يذكرنا بكتاب العبر لإبن خلدون , غير أن كتاب العبر إشتمل في مقدمته على أخبار العرب والعجم والبربر ومن لفَّ لفَّهم من السلطان الأكبر كما أشار عنوان الكتاب , لهذا كانت مقدمة الكتاب وتُعرف بمقدمة إبن خلدون أشهر من نظرية ابن خلدون في العصبيه والدوله . كتاب جون ميرشايمر يحوي على أخبار الدول في سعيها الى إثبات نفسها لكن هذه الأخبار مبثوثه في عموم صفحات الكتاب وليست محصوره في جزء منه تمتد حكاياتها منذ المرحله النابليونيه وصولاً الى نهاية الحرب البارده مروراً بمختلف دول العالم
جون ميرشايمر هو مبتدع نظرية الواقعيه الهجوميه
Offensive realism theory


في العلاقات الدوليه . فرغم وجود بعض المتفائلين الذين يثقون في أن ازدهار المؤسسات العالميه سيساعد البلدان على التضامن وإنقاذها من ويلات الحرب. يزعم البعض الآخر أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل هو ما قارب الحكومات ودفعها إلى الاقتراب من السلام الدائم. ومع ذلك ، بالنسبة لجون ميرشايمر فإن هيمنة القوى العظمى التي لا تتوقف عن مطاردة دول العالم للحصول على مناطق نفوذ تتحكم من خلالها بالعالم على حساب الدول الأخرى ، هذه الهيمنه هي التي تخلق المعضلات الأمنيه والحروب العدائيه , وهذه حقيقه غير مستساغه ولا مرغوبه لكنها موجوده وحتميه , ترتكز النظريه على 4 قواعد أساسيه هي :
# نحن نعيش في عالم فوضوي , اذا رغبت دوله قويه الإعتداء على دولة ضعيفه فليست هناك سلطه تمنعها , ولهذا فالهدف الرئيسي لكل دوله أن تكون
قوه مسيطره ومهيمنه Hegemony
تسيطر على الدول الأخرى لكي تأمن على نفسها , يقول ميرشايمر بهذا الصدد : قانون البقاء في هذا العالم هو القوه التي تؤمن السلامه , والقوه الفائقه هي أعظم ضمان للسلامه , لهذا نشاهد الدول لا تتسابق في مجالات تعميم الخير للبشر , لكنها تنفق من قوت شعوبها على التسابق في التسلح , وتجري خلف إمتلاكها للسلاح النووي
# النمط السائد في سلوك الدول هو رغبتها في إضعاف الدول الأخرى . لكي تشعر الدوله بالأمان عليها تقوية نفسها بمختلف الوسائل , وإضعاف جيرانها بأية وسيلة كانت , حتى لا يتحول الجيران الى أنداد لها أو متفوقين عليها بما يشجعهم على إملاء شروطهم أو إعلان عدائهم
# من النادر أن تقنع دولة بأوضاعها , ولهذا تسعى الى تطوير أوضاعها كلما تمكنت من ذلك , عندها ستفكر بجيرانها , فتسعى الى توسيع حدودها مثلاً , أو تخطط لإمتلاك نفوذ ما في دول الجوار , أو تعيد النظر في اتفاقيات ومعاهدات قديمه لترسيم الحدود أو تقاسم الإنهار والشطآن , أو تعيد النظر في قرارت سابقه أضطرت القبول بها لعوامل كانت ضاغطه لكنها تغيرت وتعدلت بمرور الزمن , من أمثلة ذلك روسيا التي لم تعترض في العام 2004 على إنضمام إستونيا ولاتفيا وليثوانيا الى حلف الناتو مع أنهن كن تحت هيمنتها أيام الإتحاد السوفييتي المنحل , وتربطها بهن حدود مشتركه كبيره , والسبب في ذلك هو أن روسيا وقتها كانت دولة ضعيفه لم تفق بعد من انهيار الإتحاد السوفييتي وفقدان هيمنتها التامه على الجزء الشرقي من قارة أوربا , علاوة على مشاكلها الداخليه الجسيمه التي خلفها الإنهيار, لكنها في العام 2008 اعترضت على ضم جورجيا الى حلف الناتو لأنها بدأت تتعافى قليلاً , وفي 2014 أعلنت اعتراضها الشديد على ضم أوكرانيا , وفي 2022 أبدت إمتعاضها من الضم فتحول الأمر الى حرب لأن روسيا تجمّع لديها فائض قوه بدأت تستعمله للدفاع على نفسها بمراجعة مواقفها السابقه
# الدول الكبرى على الدوام تدافع عن مصالحها في مناطق نفوذ خارج حدودها والأمثله اليوم كثيره حولنا في منطقتنا العربيه وسواها . عقيدة أو مبدأ مونرو بيان أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في رسالة سلّمها للكونغرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823. نادى مبدأ مونرو بضمان استقلال جميع دول القارتين الأمريكيتين ضد الإستعمار الأوربي فبدأت أعمال العصابات في أمريكا الجنوبيه مباشره حتى ظهر سيمون بوليفار في 1830 الذي وحّد جهود تلك العصابات وقادهم لإخراج الأوربيين من جل القاره اللاتينيه لتصبح تحت سيطرة الولايات المتحده , واستمر القتال لطرد الأوربيين في ذروته بعد الحرب العالميه الثانيه , لنشاهد اغلب زعماء امريكا اللاتينيه يقسمون أنهم سائرون على خطى سيمون بوليفار كان آخرهم كاسترو وجيفارا و هوغو تشافيز الذي جدد قَسَم المسير عند دعوته الى الأمميه الخامسه . أما عقيدة أو مبدأ كارتر فتم إعلانه من قبل الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر خلال خطاب له في 23 يناير 1980 ينص المبدأ على السماح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في منطقة الخليج العربي بدعوى أن الغزو السوفييتي لأفغانستان في عام 1979 يشكل تهديدا خطيرا لحرية حركة نفط الشرق الأوسط . لكن اعلان كارتر في الحقيقه لم يكن أكثر من إعلان وجودها في الخليج العربي قبل إندلاع حرب الإحتواء المزدوج الأمريكيه بعد اعلان كارتر بحوالي 8 أشهر بين العراق وايران والتي كان يراد لها أن تكون ضروساً طويله حتى تؤدي غرضها ولكن دون أن تتوسع بمشاركة دول اخرى فيها بشكل مباشر
يبحث ميرشايمر في سلوك السياسه الخارجيه لقيادات 5 قوى مهيمنة ، تضم نابليون فرنسا وفيلهلم ألمانيا وألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي واليابان وكيف تعاملت على أمل تحقيق الهيمنة الإقليميه لكنها لم تنجح ألا لوقت قصير , في حين أن المملكه المتحده والولايات المتحده ، تتمتعان بقدرة هائله على إظهار القوة عبر المحيطات ولا تزالان تتصرفان وفقاً لمباديء الواقعيه الهجوميه على الرغم من أنهما لاترغبان إظهار نزعتهما الى السيطرة على أوروبا أو العالم
الفصل الأخير يلقي الضوء على صعود الصين في القرن 21 بناءً على مباديء الواقعيه الهجوميه , فبفضل الازدهار الاقتصادي الصيني ونموها العسكري التدريجي ، تسعى الصين إلى تفوق قوتها على قوة الجيران ، وتحاول الهيمنه على آسيا . إن قرار الصين القوي بدفع الولايات المتحدة خارج حديقة الصين الخلفيه وخارج آسيا والمحيط الهادئ أمر يهدد سعي أمريكا المستمر للهيمنه على العالم , وفي مواجهة طموح الصين لن تتسامح الولايات المتحدة بأي حال من الأحوال مع ظهور الصين كمنافس جديد وتبذل جهدها لتقييد الصين بتحالفات متوازنه طويلة الأمد ، لكن هناك احتمال أن تندلع حرب صينيه أمريكيه

عند إلقاء نظرة على محتويات الكتاب ، لن نرى شيئاً مشرقاً لا في العلاقات الدوليه ولا في السياسه العالميه , نأمل أن لا تتحول التفسيرات الوارده فيه والمُقْنِعه بشكل مُحبِط الى حقيقه ، من أجل سلام وخير البشر

د. ميسون البياتي

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.