كندريان الإماراتي ومسكوني العراقي

قُتل طعناً بالسكاكين، ببغداد- حي الغدير، الطبيب هاشم شفيق مسكوني، وزوجته الطبيبة شذى مالك دانو، ووالدتها خيرية داوُّد. كنتُ يومها (الجمعة 9/3/2018) استمع لرحلة الطبيب سامي سيروب بطرس كندريان، وهو يقصها عليَّ، من بغداد إلى أميركا ومنها إلى بغداد، حتى استقر به المطاف بأبوظبي. كنا في مجلس وزير التسامح الشَّيخ نهيان بن مبارك، وتقدم لي رجل عليه سمات الوقار وهيبة العِلم مع اللكنة الموصلية المميزة، قائلاً: أنا سامي كندريان، التقينا سوية مع الطبيب فرحان باقر (ت 2017) في معرض أبوظبي للكتاب قبل عامين. فشدني حديثه، عن قصة أحد أبرز الكفاءات.

بعد أن أنهى دراسته في كلية طب بغداد (1964)، ذهب إلى أميركا وتخصص بطب الأطفال، وتعلم وعَلم وعمل طبيباً في معاهدها. لكن الشَّوق لبغداد ظل يلح عليه، فعاد في منتصف السبعينيات، وعلى الرغم من خبرته وشهاداته رُفض تعيينه داخل بغداد، وحصل أن زار أقرباء له بأبوظبي (1976)، فوصل خبره إلى وزارة الصحة، وما أن نظر الوزير في أوراقه حتى قال له: «غداً تذهب إلى المستشفى وتجد سماعتك ومكتبك، أما معاملة التعيين فاتركها لي».

كلما أراد كندريان مغادرة الإمارات قُدمت له امتيازات تليق بمنزلته، تعرفه أبوظبي كافة، لأنه طبب أطفالاً صاروا آباءً، ثم أبناءهم، وبدأ بالأحفاد. مُنح الجنسية، بعد أن قيل له: «إلى أين تغادر وتترك أبناءك وأحفادك»! والأطفال الذين طببهم، وها هم يتسلمون المهام وزراء وأطباء. حينها تسلم دعوة مِن السفارة العراقية، طُلب منه كتابة تقارير عن معارفه، وبالتالي عن مراجعيه، فكان جوابه: «هذا ضد أخلاق الطبيب». إنه الجواب الذي واجه به الطلب نفسه المؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوة (ت 2013)، قائلاً لمَن طلب منه ذلك بلندن: «أنا مؤرخ، استنكف» (مفردة عراقية شديدة الوقع). بقلق عراقي طُبع في الجينات، خشي كندريان مِن سيارة الشرطة تتبعه في أبوظبي، حتى وصل داره، فسألوه: أنت فلان؟! قال: خيراً ماذا فعلت؟! قالوا: «منذ استخدامك للسيارة لم ترتكب مخالفة، وعلى هذا نسلمك شهادة تكريم، تضعها في سيارتك».

كان الطَّبيب كندريان يتحدث، وأنا أعدُّ القتلى مِن الأطباء ببغداد والمهاجرين، وماذا سيكون مصير كندريان الأستاذ والطبيب لو عاد؟! وضعت مقابلة بينه ومصير الطبيبين مسكوني ودانو، وآلاف الأطباء الذين تغص بهم العواصم، وبعضهم ذُل بالعمل تحت يد مَن هو أقل شهادةً. كان مسكوني يعيش في أميركا، فألح عليه الحنين بالعودة، وماذا تعني عودة الطبيب الممارس، في ظل تدهور الطب بالعراق، حتى عرف العراقيون طريق الهند للعلاج. كان شقيق المغدور الاقتصادي همام مسكوني قد هُدد بالقتل «من قبل عصابات تجار العقارات لبيع بيته، مما أجبره على البيع بسعر بخس» (رسالته لشبكة الاقتصاديين العراقيين 11/3/2018). مع علمنا أن الأحزاب التي هيمنت على الجادرية والخضراء وأحياء كاملة من بغداد استخدمت الترغيب والتهديد، وهذا ما حدث بأحياء ومدن مسيحية، وإلا ماذا تفعل الرايات الخضراء وصور أصحاب العمائم السود عند بوابة مدينة برطلة المسيحية؟! لا يخلو الأمر من نية إفراغ العراق من سُكانه الأُصلاء، ذبح العائلة لا يُفسر بالسرقة ولا الثأر، وهي مسالمة لا تقدر على فرك نملة، يزامنه قتل شاب مسيحي بالمنطقة نفسها، وبعيداً منها يُقتل صائغ مندائي.

آل كندريان موصليون، «سروب كندريان، من العوائل المعروفة، كانوا يعملون كمقاولين، يعتمد عليهم الناس اعتماداً كبيراً» (سيار الجميل، دراسة عن الأرمن العراقيين: الجذور والأغصان)، ناهيك عن بقية الأُسر الأرمنية الماهرة في شتى المجالات. أما آل مسكوني فيكفيهم يوسف مسكوني (ت 1971)، الباحث والمحقق والمترجم، من مؤلفاته: «عبقريات نساء القرن التاسع عشر» (1946)، «الألحان والتراتيل الآرامية والعربية» (1965)، وقام بترجمة أنفس الكتب في تاريخ حضارة العراق «مُدن العِراق القديمة» لدورثي مكاي (1961)، وله مكتبة زاخرة من المطبوعات والمخطوطات، ضُمت إلى مكتبة المتحف العراقي (بصري، أعلام الأدب في العراق الحديث). أما أستاذ القانون صبيح مسكوني، فترك ثروة في العلم الحقوقي تُدرس في الجامعات منها: «تاريخ القانون العراقي القديم»(1973)، و«القانون الروماني» (1971).

بين مآلي الطبيبين كندريان، بعد التهنئة على سلامته واستقراره بين ناس أحبوه وقدروا طبَه، ومسكوني المقتول، حكاية اسمها «العراق»، وطائفة مسكونة به، منذ القرون الخوالي، وهي تُعبِّد فيه طريق المدنية، وتذكِّره بالحضارة، التي أصبح ذِكرها نفاقاً، على ألسنة الفاسدين والذَّباحين، حتى جعلوا هذه الأرض طاردة لكائناتها الجميلة، المحناة بدماء الطبيب هاشم والطبيبة شذى، فمَن يا تُرى سيمتلك دارهما، من أعضاء البرلمان القادم؟! قال حافظ جميل (ت 1984)، لمسكوني الأديب، وينشدها مرضى الطبيب الضحية لفاجعتهم به: «كنتَ الطبيب لنفسي لم تجد بدلا/ من لُطف روحكَ في تطبيب مرضاكا» (بصري، نفسه).

*نقلاً عن “الاتحاد”

About رشيد الخيّون

رشيد الخيّون دكتوراه في الفلسفة الإسلامية من أهم مؤلفاته "الأديان والمذاهب بالعراق"، و"معتزلة البصرة وبغداد"، و"الإسلام السياسي بالعراق" و"بعد إذن الفقيه".
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to كندريان الإماراتي ومسكوني العراقي

  1. س . السندي says:

    ملاحظة : عزيزي الأخ طلال الرجاء اعتماد هذه بدل الاولى لوجود أخطاء وشكراً ؟

    ١: أولا تشكر على هذا النفس العراقي ألاصيل يا عزيزي رشيد ، والراحة الابدية لكل عراقي بري شهيد ، ولعنة السماء والأرض على كل تجار الدم والدين وسراق الاوطان من الكلاب والذيول والعبيد ؟

    ١: ينسى هؤلاء الاوغاد أن الدنيا دوارة ، كما نسوا أن لغة حول خَدَّك الأيسر لمن صفع الأيمن قد ولت للأمة الغدارة ، فهو ألله سنجعل من العراق اكبر مقبرة لهم ولا مقبرة النجف ، كما سنجعل من العراق جحيماً لهم ولا جحيم رب العالمين للناس الغدارة ؟

    فإذا إعتقدوا أنهم سيتنعموا ويهنئؤا بما سرقوا من أهل العراق والنصارى ، فنقول لهم فوألله حتى هواء العراق سنحرمه عليهم لغيركم كان أكثر شطارة ، وسيرو قريباً مصير أسيادهم وذيولهم ، فوألله لن تنجبهم حتى الهزيمة بالطيارة والسيارة ؟

    ٣: وأخيراً …؟
    أذكر هؤلاء الاغبياء والحمقى والجهلاء بقول السيد المسيح { إذا كان هذا ما فعل بالعود الرطب ، فكيف سيكون باليابس } سلام ؟
    Reply

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.