في نهاية عقد الثمانينيات، وقفتُ أمام الثلاجة في أسواق
Safeway
في لندن وأشرتُ إلى شيء لفت انتباهي لأسأل أمي عنه. فقالت لي: “هذه وجبات طعام مطبوخة جاهزة. بتحطيها بالميكروييف وبتطلع جاهزة للأكل”. اتّسعت عيناي من الدهشة! فهذا شيء لم أرَ مثله في الأردن. وعندما وقفنا ننتظر دورنا لندفع ثمن مشترياتنا، اتسعت عيناي أكثر وأنا أراقب رجلا يقف أمامنا مباشرة ويحمل في يديه تفاحة واحدة وباكيت علكة. بعدها بيومين، طار عقلي من مزيج من الفرح والدهشة والاستغراب عندما اصطحبتنا أمي إلى ال
laundromat
لنغسل ملابسنا. كان المكان مكتظا بأشخاص يحملون سلالا وأكياسا مليئة بملابس تحتاج إلى الغسيل والتجفيف. يضع كلٌ منهم ملابسه في الغسالة التي وضع فيها قطعا نقدية ثم يختار أحد المقاعد ويغرس رأسه في كتابه أو يضع سماعات في أذنيه.. وينتظر. لا أحد يتبادل الحديث مع أحد. ليس هناك سوى صوت الآلات العملاقة وهي تدور وصوت القطع النقدية وهي تنزلق نحو الموضع المخصص لها. أرسلتني أمي بنقود ورقية إلى أحد العاملين هناك لأطلب منه أن يستبدلها لي بقطع نقدية. تلعثمت، فلم أكن أعرف وقتها كيف أنشئ جُملا مترابطة بالإنجليزية. فاستدعيتُ لغتي من وسط خجلي وخرجَت مني لا إراديا تمتمةٌ لا يمكن أن تصل إلى أذن أمي: “ماما تعالي”. لم يتلاشَ خجلي إلا عندما سمعتُ الرجل يسألني: “أنتِ عربية؟”. يا سلام! هو عربي أيضا! لا حاجة لنا إذن بهذه الرطانة. فقلت على الفور: “اه. ماما بدها فراطة”. فضحك وثرثر معي قليلا ثم ناولني قطعا نقدية عدتُ بها راكضة إلى أمي لأزف لها البشرى: “ماما العمو طلع عربي!”. أصبح العمو صديقي فيما بعد وهوّن وجوده عليّ وحشة ذلك المكان.
تلك الوجباتُ الجاهزة مُعدّة لمن يعيش بمفرده، وما أكثرهم في لندن! مُعدّة لمثل الرجل صاحب التفاحة الواحدة..للجالسين في ال
laundromat
الهاربين من أصوات الغسالات، التي تقطع صمتاً يرافقهم منذ زمن طويل، إلى كتبهم وسماعاتهم. بالطبع لم أفهم دلالة الوجبات الجاهزة والغسالات والتفاحة الواحدة والسماعات في الأذنين في ذلك الوقت. لكن أمي فهمتها جيدا حتى اختنقت بها..ولم تمتلئ رئتاها بالهواء إلا عندما سمعت كابتن الطيارة يقول: “نقترب الآن من مطار الملكة علياء الدولي”. فبكت وهي تستعد لتطأ قدماها أرضا يُباع فيها التفاح بالكيلو.