د. توفيق حميد
لو تعلمنا أن نرى المعاني السامية عند غيرنا وأيا كان قائلها لاستطعنا أن نطفئ جزءا من نار التطرف الذي يستخدمه البعض ليشعل فتيل الكراهية ضد العقائد الأخرى
انتشرت في العقود الأخيرة في عالمنا الإسلامي ظاهرة مهاجمة العقائد الأخرى سواء كانت تتبع كتب مقدسة مثل الإنجيل والتوراة أو كتب لم تذكر في القرآن الكريم مثل كتب البهائية والهندوسية وديانة السيخ وغير ذلك من معتقدات البشر.
فمن ناحية رأينا هجوما من قبل البعض في وسائل الإعلام العربية مثل ما حدث مؤخرا من هجوم على الإنجيل والتشكيك فيه، ورأينا من ناحية أخرى قادة في دول مثل دولة الإمارات العربية المتحدة يفتحون أذرعهم لاحترام وتقبل الديانات الأخرى. فها نحن نرى معابد بوذية وأخرى هندوسية تقام في دولة الإمارات لتضرب بذلك مثلا للإنسانية عن تقبل الآخر حتى لو كان مختلفا.
ووسط هذا التناقض يأتي القرآن بمعنى قد يكون غائبا عن ذهن البعض أو الكثيرين ألا وهو تقبل المعاني السامية أينما وجدت وأيا كان قائلها. وتجلى هذا المفهوم القرآن الرائع في قوله تعال “فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ”. والآية المذكورة كما نرى لم تحدد من هو قائل القول وإنما تركت للعقل البشري حق التمتع بالجمال أينما وجد!
وهذه الخاصية ـ أي إدراك الجمال أينما وجد وأيا كان قائله ـ هي واحدة من أهم الصفات للتعايش السلمي بين البشر والحضارات المختلفة. ونستطيع أن نلاحظ أن معظم الجماعات المتطرفة تمنع أتباعها من قراءة ما في كتب الآخرين وتنهاهم عن فعل ذلك مستندين في ذلك بأن الرسول عليه السلام نهى عمر ابن الخطاب عن قراءة التوراة.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ وَقَالَ: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي)” رواه أحمد (14736) ، وحسنه الألباني في “إرواء الغليل ” (6/34) .
وللأسف فقد تم استخدام هذا الحديث وغيره من فتاوى الفقهاء لمنع العديد من المسلمين من معرفة الآخر مما تسبب في إذكاء روح الفرقة وأحيانا الكراهية للشعوب والمعتقدات الأخرى.
والآن سوف أخذ القارئ عبر السطور التالية لنرى كيف أن المعاني الجميلة والسامية موجودة عند كافة الحضارات والمجتمعات وليست مقصورة علينا فقط كما قد يظن البعض.
ففي القرآن آيات رائعة مثل: “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا” (سورة الإنسان)، ومثل: ” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة المائدة).
ومثل: “وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ …وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ … لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ … سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ” (سورة ياسين).
وفي الإنجيل آيات ساحرة مثل: “وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه” ومثل: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ”.
وفي التوراة آيات نورانية مثل: “اسمع يا إسرائيل… الرب إلهك رب واحد”. وفي المزامير معاني جميلة مثل تبتلات سيدنا داوود عليه السلام إلى خالقه وهو يقول: “1 لإمام المغنين. لداود مزمور. يا رب قد اختبرتني وعرفتني. 2 انت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد 3 مسلكي ومربضي ذريت وكل طرقي عرفت. 4 لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها. 5 من خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت عليّ يدك. 6 عجيبة هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها. 7 أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب. 8 إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت. 9 إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر 10 فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك”.
وفي كتب السيخ معاني راقية مثل أن يلتزم الإنسان بأمور ثلاثة وهي “نام جبنا” أي أن الله في العقل دائما، و”كيرت كارنا” أي الالتزام بالأمانة دائما، و”فاد شاكنا” اقتسام الرزق مع الآخرين. كما أن عليه الابتعاد عن الشرور الخمسة وهي الشهوة والطمع والتعلق بهذا العالم والغضب والغرور.
وفي كتب البوذية معاني وحكم تصلح لكل الناس أياً كانت عقيدتهم. ومن كلمات بوذا وحكمه الرائعة مايلي: “أعبد حجرا لو شئت، لكن لا تقذفني به” و” ثلاث أشياء لا يمكن إخفاءها لفترة طويلة: الشمس، والقمر والحقيقة” و”عليكم أن تبحثوا عن الحقيقة، لا أن تعبدوا أولئك الذين اكتشفوها”.
ومن صلوات الديانة الهندوسية ما يلي: “حينما نتحدث عن الحقيقة المطلقة وأبعادها…. ونحن في أرقى نور روحاني… نتعبد إلى الخالق الذي يزيل العوائق من أمامنا…. فيعطينا أفكارا جميلة ويملؤنا بنوره الإلهي”.
وفي كتب البهائية معاني سامية مثل ما يقولونه كل يوم ويكررونه في صلواتهم: “يا مقصود العالم ومحبوب الأمم تراني مقبلا إليك منقطعا عمّا سواك متمسّكا بحبلك الذي بحركته تحرّكت الممكنات أي ربّ أنا عبدك وابن عبدك… أكون حاضرا قائما بين أيادي مشيّتك وإرادتك وما أريد إلا رضئك… أسألك ببحر رحمتك وشمس فضلك بأن تفعل بعبدك ما تحبّ وترضى.. وعزّتك المقدّسة عن الذّكر والثناء كلّ ما يظهر من عندك هو مقصود قلبي ومحبوب فؤادي… إلهي إلهي لا تنظر إلى آمالي وأعمالي بل إلى إرادتك التي أحاطت السّموات والأرض… واسمك الأعظم يا مالك الأمم ما أردت إلا ما أردته ولا أحبّ إلا ما تحبّ”.
فلو تعلمنا أن نرى المعاني السامية عند غيرنا وأيا كان قائلها لاستطعنا أن نطفئ جزءا من نار التطرف الذي يستخدمه البعض ليشعل فتيل الكراهية ضد العقائد الأخرى.
وتبعا للقرآن فإن إتباع المعاني الجميلة أينما وجدت وفتح رحاب العقل لها هو غاية تستحق البشرى الإلهية “فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ”.
وللحديث بقية