ظواهر جتماعية متخلفة . (( البول هنا للحمير )) !.

في بغداد .. كان أغلب الناس يعيشون تحت ظل قوانينهم الخاصة أحياناً، وربما كان مفهوم “الخروج على القانون والذوق العام “ بالنسبة لبعضهم يعني فقط : القتل والسرقة وغيرها من المحرمات الدينية والأجتماعية، أما القضايا الحياتية الإجتماعية واليومية ومنها (التبول) هنا وهناك وأينما إتفق وفي الأماكن العامة فكانت مسألة شخصية حتمية وضرورة لا تستحق الإهتمام !، وخاصة إنه لم يكن هناك يومئذٍ مرافق صحية عامة في أنحاء العاصمة بغداد. ولا أعتقد بأن هناك عراقي واحد لم يمارس (حقه العام) في التبول أينما إتفق، قناعةً أو إضطراراً.

كان الرجال يؤمنون بأن هذا الأمر من حقوقهم المشروعة !، كالبصاق والتجشؤ والسباب العلني وبالقلم العريض، والظهور في مرافق الحياة اليومية بدشداشة النوم والبچاما، أو بحشر سبابة اليد في الأنف وإخراج ما لا يسر الناظر من المُقرفات. لذلك كانت رؤية الرجال يتبولون أينما يحلو لهم، من الأمور الإعتيادية جداً والتي لا تُثير إشمئزاز أو إستنكار أو إستهجان أحد إلا ما ندر !.

كان الرجال يتبولون في الأزقة والشوارع الجانبية والخلفية للشوارع الرئيسية، وخلف المزابل وحاويات القمامة، تحت نهايات الجسور، خلف أعمدة الكهرباء التي لم تكن تعطيهم غير الساتر الوهمي الأيحائي، في الطابق العلوي من باص مصلحة نقل الركاب العامة، في داخل قاعة السينما أثناء العرض السينمائي .. ومن كان يملك بعض الذوق كان يتبول داخل قنينة المُرطب الفارغة كي لا تفوته أية لقطة للفلم المعروض، كذلك كانوا يستعملون شرشف الطاولة كستار في الملاهي والكازينات العامة، أو خلف سيارة واقفة على جانب الشارع الفرعي .. ويحدث أحياناً أن تمشي السيارة فيضطر صاحبنا الى قطع بوله على النص .. أو الأستمرار أحياناً بكل تحدي وسفاهة. أما إذا كان المتبول سكراناً ( فعذره معه ) !، وهو مخول للتبول كيفما شاء ومتى شاء وأينما شاء ما عدى القصر الجمهوري، فهذه من الخطايا المميتة والتي قد تُكلفك قضيبك !.

بعض الناس من المحافظين كانوا يستهجنون هذه الظاهرة الأجتماعية، ويقال إن إمرأة عجوز كانت تخاطب وبعصبية مجموعة متبولين على مقربة من دارها قائلة لهم : مو عيب عليكم … شنو ماكو قانون، ماكو خجل، ماكو شرطة، ماكو أخلاق، ماكو حكومة ؟. أجابها أحد المتبولين ببرود ٍ لا يدانيه برود الأنكليز : والله خالة كل شي أكو … بس مكان ماكو !. مُلاحظة لغوية : أكو تعني يوجد \ ماكو تعني لا يوجد .



أذكر مرة كنتُ داخل تاكسي مع جدتي العجوز الأمية (بيبي خوخي)، فراحت تسألني عن فحوى الكتابة الكبيرة الحروف باللون الأحمر على الجدران ؟، قلتُ لها بأنه مكتوب البول للحمير، أجابتني وهي تقهقه ساخرة : ليش هي الحمير تقرأ حتى يكتبوا لها !؟.


أتسائل اليوم : كيف كانت النساء قادرات على تحمل عدم التبول لساعات حين ذهابهن الى الأسواق البعيدة للتسوق أو لأي أمر يتطلب وجودهن خارج الدار لعدة ساعات !؟. خاصةً إن أغلب المحلات التجارية لم تكن تملك مرافق صحية يومذاك ؟، أو كان أصحابها لا يسمحون للناس بأستعمالها بحجةٍ أو بأخرى، وبعضهم كان يسمح للنساء فقط وبحجة إن الرجال يتبولون وقوفاً ويحتاجون الى منظف بعد تبول كل واحد منهم .

تقول الرواية -والعهدة على الراوي- أن إمرأة عجوز من سوريا وفدت بغداد في زيارة خاصة للنجف وكربلاء، وبعد فترة زمنية من تواجدها في الشاحنة مع بقية المسافرين من بغداد الى النجف طلبت من السائق أن يوقف الشاحنة عدة مرات كونها تريد أن “تشخ” حسب تعبيرها !، وبعد المرة الخامسة سألت السائق : إمتى راح نوصل يبني ؟، أجابها الخبيث : بعد ثلاث شخات يا خالتي !.


أخيراً جاء يوم الفرج، عندما قامت أمانة عاصمة بغداد ببناء عدة مرافق صحية عامة في مناطق مختلفة ومزدحمة من بغداد، كساحة التحرير في الباب الشرقي، وساحة النصر في البتاويين، وشارع الرشيد، والباب المُعظم … الخ، وكانت بأجرة عشرة فلوس على ما أذكر . 
وكالعادة كُنتَ ترى البغادة وإنطلاقاً من حاتميتهم وبرمكيتهم المعروفة يتدافعون ويتخانقون مع أصدقائهم وكل يريد أن يدفع أجرة تبول صاحبهِ وهو يصرخ : 
بالطلاق ميصير … أحلفلك بالقرآن دفعت مال بولتين !!، 
يجيبه صاحبه زاعقاً ومتدافعاً : والله العظيم ما يصيرهليوم بولتك علية !!.

وبقيت هذه العادة البرمكية ترافق العراقيين حتى في دول المهجر، وحدث قبل فترة زمنية دخول أحد الأقارب لمحلي التجاري وإشترى عدة حاجيات، وعندما أراد دفع الحساب للكاشيرة حاولت أن أمنعه، وبدأنا نتصارخ !!، هو يريد أن يدفع ما بذمته وأنا أحاول منعه وإبعاده عن الكاشيرة طالباً منه إحتساب المبلغ على ذمتي، وحدث إن هربت بضعة سيدات من المحل لعدم معرفتهن بعاداتنا وتقاليدنا المُضحكة !، ولإعتقادهن بأن خلافاً قد دار بيننا، وإن معركة بالأيدي ستنشب خلال لحظات !!.
ورغم بناء تلك المرافق الصحية في أنحاء العاصمة فقد بقيت عادة التبول هي هي، “فمن شب على شيءٍ شاب عليه”، ولم يكن الكل مستعدين لدفع مبلغ العشرة فلوس، وكان البعض الأخر يستطيب ويتمتع بالتبول في الهواء الطلق، وهذا يذكرني بأحد إخوة زوجتي الذي كلما زارنا يستأذننا في التبول في حديقة الدار ولا ينتظر صدور الموافقة !، بل يبتسم بشيطنة وهو في طريقه الى الخارج قائلاً : إسمحولي بتسميد حديقتكم !!.
كان ضحية هذه العادة هم أصحاب البنايات في الشوارع الفرعية والجانبية، والتي كان يستهدف جدرانها المتبولون، وكان أصحاب تلك البنايات يعمدون الى رش أسفل تلك الجدران بسائل (الأسفنيك) وينثرون كرات (النفتالين) الصغيرة في محاولة يائسة لقتل روائح (الصنان) التي يسببها البول عادةً !.
كذلك كانوا يكتبون بالصبغ الأحمر وبالحروف الكبيرة عبارات تقول : ( البول هنا للحمير فقط ) أو ( هنا تجتمع الحمير ) أو ( إذا كُنتَ حماراً فتبول هنا )، وأحياناً كانوا يسبقون تلك الكتابات بكلمتي: ( إقرأ يا حمار )، وكان البعض يجيب على هذه الأخيرة بقوله وهو يفتح سحاب بنطاله: لستُ بقارئ !!.
المُضحك إن غالبية هؤلاء المتبولين لم يكن يُحسن القراءة، مما يضطر بعض أصحاب البنايات الى رسم صورة حمار يتبول على الجدار !. وحدث أن إيرانياً كان مع صديقه البغدادي ولما شاهد صورة الحمار المتبول على الجدار قال لصاحبه البغدادي: كم هي عظيمةٌ حضارة بغداد بحيث تُخصصون أماكن حتى لتبول الحمير !!!!.
وهكذا كان هناك دائماً من يتحدى تلك الرسوم والكتابات فتراه يتبول مُبتسماً، ويحتذي به ثاني ثم ثالث ثم رابع وعلى رأي المثل الشهير: ( بال حمارٌ فإستبال أحمرة ) !.
وقد سمعت ذات يوم متبولاً يناكد الأخرين بقوله مُقهقهاً وساخراً منهم ومن نفسه : شنو مدا تقرون إيش مكتوب على الحائط ؟، فيجيبه الأخر وهو يكاد يغص بضحكتهِ : شنو مكتوب يا أبو صابر !؟، ( ولِمَنْ لا يعرف فابو صابر هي كنية الحمار ) !.

أحياناً كنا نرى عدة متبولين وقد ( فطسوا ) ضحكاً وهم يتراشقون أقذع الشتائم وأقبح النعوت مع صاحب العمارة الواقف على مبعدة منهم يكاد ينفجر غضباً وهو يشتمهم بالمقابل وينعتهم بالحمير!، والمضحك أكثر إن أصحاب البنايات كانوا يتبولون على جدران بنايات غيرهم وبلذة عجيبة كلما سنحت لهم الفرصة .. ربما إنتقاماً !، ولسان حالهم يقول : هيَ بقت عليَ !؟ .
من الطرائف المشهورة أنه أثناء الإحتلال الإنكليزي للعراق في بدايات القرن العشرين، أصدر الحاكم الإنكليزي بياناً يمنع فيه الناس من التبول والتغوط في الشوارع والأماكن العامة في بغداد، وحدد غرامة مالية كعقوبة للمخالفين، وكان مقدار المبلغ يختلف بين عقوبة التغوط وعقوبة التبول . 
بعد أيام جاءه الشرطي برجل بغدادي بعد ضبطه متلبساً بالجريمة، وراح الضابط الإنكليزي يسأل المُتهم : هل كُنتَ وقت الجريمة
sitting أم standing
!؟. جابه المتهم بخبث وهو يبتسم : مُكمبصنك . \ ( مكنبص : هي حالة تقرفص الجسد فوق القدمين عند تغوط الشرقيين فوق الأرض – اللغة العامية العراقية ).

طريفة أخرى تقول إنه في زمن حروب صدام مع إيران نزح الى العراق قرابة مليون مصري لسد فراغ الأيدي العاملة بعد إرسال غالبية الرجال العراقيين ليكونوا وقوداً لتلك الحرب العبثية اللعينة، وكان أحد هؤلاء الأخوة من صعايدة مصر يقوم بنوبة الحراسة الليلية في شارع أبو نؤاس حيث تكثر الكازينات التي تبيع المشروبات الروحية، وصادف إن ثلة من السكارى كانوا يتبولون خلف السياج حين سمعهم الحارس الصعيدي الذي رفع بندقيته وصرخ بلهجته الصعيدية : مين اللي هناك ؟. أجابه أحد السكارى المتبولين ببرود وتذمر: دنبول دنبول ( يقصد إننا نتبول ) . صرخ الحارس الصعيدي الذي لم يفهم المعنى : وبتعمل إيه هناك يا دنبولي !؟ .
أما عن السياسة فتقول النكتة إن الرئيس الراحل عبد السلام عارف كان في زيارة رسمية للهند، وحدث أن ازعجه تعليق قارص من قبل الرئيس الهندي الذي لَمَحَ له بأن العراقيين يتبولون في الشوارع العامة، وهنا راح الرئيس عارف يدافع قائلاً بأن العراقيين يتبولون في الشوارع الفرعية فقط وليس في الشوارع الرئيسية ! . 
في اليوم الثاني للزيارة كان الرئيسان في سيارة اللموزين في طريقهما إلى قاعة الأجتماعات، وصدف أن لمح الرئيس عارف رجلاً يتبول على جدار في الشارع العام، فلم يكن منه إلا أن أوعز للسائق بإيقاف السيارة وقال للرئيس الهندي بكل فرح وتشفي : إتفضل أغاتي … شوف هذا الهندي شلون ديبول على الجدران !!. 
وعندما إلتفت الرجل المتبول نحوهما تبين إنه السفير العراقي في الهند !!!!!!!!!!!!!.
كان جدي لأبي ( هرمز ميشو ) يملك دكاناً لبيع العرق والخمور في بغداد أيام زمان، وكالعادة كان البعض يتبول على الجدار الجانبي لدكانه، وبعد أن أعيته الحيلة في منعهم تفتق ذهنه وقريحته عن حيلة شيطانية جديدة، وكما يُقال “فأن الحاجة أُم الأختراع”، لذا قام وبمساعدة أولاده الثلاثة بخلط كمية كبيرة من الفلفل الأحمر الحار (شطة) مع مواد أخرى وبعض الصمغ اللاصق ولطشوا ذلك المزيج على حائط الدكان . 
والمعروف أن من عادة أغلب المتبولين مسح قضيبهم عدة مرات بالحائط بغية تنشيفه من بقايا البول بعد الرجفة النهائية، والمسح هذا هو البديل أحياناً لنتر القضيب ثلاثة مرات حسب وصية الرسول محمد في إحدى أحاديثه الشريفة !!.
في تلك الليلة كان جدي وأولاده وبعض ظرفاء الحي من محبي المقالب قد إستلقوا على قفاهم فوق أرضية الشارع من شدة ضحكهم وتشمتهم وهم يرون المتبولين يتقافزون كالأرانب وهم يمسكون بأعضائهم صارخين لاعنين شاتمين !!.
كذلك روى لي إبن عمي ( فارس أردوان ميشو )، بأنه كان يتبول في إحد الشوارع الفرعية في بغداد ذات يوم، عندما مرقت سيارة من خلفه وفيها بعض الظرفاء الذين صرخوا به متضاحكين : شيل رجلك … عَلِي رجلك !!. ( وكانوا يقصدون أرفع ساقك كما يفعل الكلب حين يتبول ) !.
لا أعرف ما هي أحوال المتبولين اليوم في بغداد ؟، ولا أعتقد أنهم هجروا عادة التبول في الهواء الطلق، لا بل أعتقد أن هذه العادة ستدخل ضمن تأريخ التراث الشعبي العراقي والكثير من الدول العربية الأخرى !.
لمدة 45 عاماً في أميركا لم أشاهد ولو لمرة واحدة رجلاً يتبول في العراء، والأسباب كثيرة منها إن القانون يُجبر أصحاب المحلات وعلى إختلاف أنواعها على توفير مرافق صحية عامة، بالأضافة الى وجود مرافق عامة في كل محطات البنزين ولكل الناس، إضافة الى عامل التحضر الذي يمنع الناس عن مثل هذه الظواهر الأجتماعية، وأيضاً بسبب الغرامات المالية التي قد تصل لمبلغ 500 $ على ما أعتقد للمخالفين.
في إحدى سفراتي الموسمية لولاية شيكاغو قبل سنوات ومع ثلاثة أقرباء بالسيارة بغية التبضع لمحلاتنا التجارية من هناك، وأثناء السياقة في ال
free way،
رأينا سيارة واقفة على جانب الطريق وصاحبها قربها وهو يتبول علناً، علماً بأن كل الطرق الخارجية لأميركا تتواجد على جوانبها وبعد كل عدة أميال محطات الأستراحة والمرافق العامة المجانية بالأضافة الى محطات البنزين وأنواع مطاعم الأكلات السريعة. صرخ أحد الثلاثة الأخرين في سيارتنا : أكيد هذا عراقي !، وكان يمزح ويسخر طبعاً، ولكن تبين لنا بأنه أحد زملائنا من أصحاب المحلات التجارية الذاهبين مثلنا الى شيكاغو !!، عندئذٍ تذكرت نكتة الرئيس عبد السلام عارف في الهند !!. صرخ أحد الثلاثة في سيارتنا : هل هو مجنون !؟. جبته ساخراً : لا … لأنه لا يوجد على إمتداد ال
free way
أية قطعة أو لافتة تقول : ( البول هنا للحمير فقط ).

طلعت ميشو .. May – 1 – 2021

This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.