سليمان جبران: لائحة الدفاع
[من كتاب”ملفات الذات”، خيال طبق الواقع، ص. 69 – 71]
مرّة أخرى اجتمعنا. في جلسة طويلة، وصعبة هذه المرّة. كانتِ الجلسة هذه صباح يوم سبت من أيّام الصيف، وكانتْ هذه المرّة مقصورة على الرجال. لمْ نتعمّد ذلك طبعا. حتّى لو رغبنا في جلسة من هذا النوع، فلا أظنّنا نجرؤ على المجاهرة بهذا المقترَح الرجعيّ. كلّ ما في الأمر أنّ زوجة “الحكيم” لمْ تستطعِ المشاركة في هذا اليوم. اِبنها والأحفاد ضيوفها اليوم، والتحضيرات قائمة قاعدة. بذلك فرطتْ زوجة الحكيم العِقد النسائيّ، فتحوّلتْ جلستنا إلى جلسة عربيّة نموذجيّة!
لا يمكننا المجاهرة بذلك طبعا. إلّا أنّنا نشعر بحرّيّة أكثر في غياب الجنس الآخر. طبيعيّين أكثر نكون: نتحدّث بحرّيّة تامّة، وبأسلوب يختلف ألى حدّ ما عنه في الجلسات المختلِطة. لا نجاهر بذلك بحضور ذوات الشأن. لكنّها الحقيقة: إذا غابتْ عنْ جلستنا السيّدات غابتِ الرسميّات!
في هذه المرّة انضمّ إلينا صديق رابع أيضا.”العنيد” اسمه على لسان الحكيم. يبدو العنيد كأنّما يتبنّى المواقف مسبقا، السياسيّة خاصّة، ثمّ يبحث عن المسوّغات.عنيد بحيث تصعب مناقشته، لكنّه ابن صفّنا وطيّب القلب، رغم عناده ومناقشاته المضنية.على كلّ حال، حضوره فلفل القعدة. يجعل للقاء طعما، ويزوّدنا دائما بموضوعات للنقاش والتسلّي. لا ضجر ولا صمت إذا انضمّ العنيد إلى الحلقة. دائما هناك موضوعات للنقاش والخلاف، حتّى الصبح أحيانا!
مكان لقائنا تغيّر أيضا، وفقا لتغيّر المشاركين فيه. اِقترح الحكيم أنْ يكون لقاؤنا، هذه المرّة، في مقهى جميل على جبل الكرمل. لماذا نُثقل على إحدى الزوجات بزيارة صباحيّة دمها ثقيل حتّى بين الأصدقاء؟ سأل الحكيم سؤاله الإنكاريّ. وافقنا جميعا طبعا، فالحكيم صاحب نظر، ومقترحاته الإجرائيّة تفوز عادة بالإجماع.
ظننتُ أنّ موضوع النقاش سيكون، بغياب السيّدات، سياسيّا طبعا. لكنّ فألي لم يكنْ في محلّه هذه المرّة. الحكيم هو منْ يفتتح النقاش عادة، وفي هذه القعدة لمْ يطرح قضيّة سياسيّة، كما توقّعنا جميعا. طرح للنقاش قضيّة شخصيّة. تخصّني أنا بالذات. اِتّخذني موضوعا للمناقشة في هذه الجلسة الذكوريّة! شعرتُ تماما شعور مَن يقف في قفص الِاتّهام في المحكمة. لم أوافق على شيء من اتّهاماته. مع ذلك، لا بدّ من احترام المحكمة، والانتظار بصمت وأدب حتّى يُنهي الحكيم أقواله.
قال الحكيم إنّ أسلوبي في النقد قاسٍ ثقيل. لا يتحمّله كثير من الأدباء، والناس أيضا. على المرء أن يكون دبلوماسيّا، لا يقول كلّ شيء في الوجه، وأذا قال فلا يوجع ولا يُزعل. الفرق كبير بين نقد أملس ناعم ونقد كالدبابيس حادّ. في رأيه أنّ معظم الشعراء والكتّاب أيضا لا يطيقونني، لكنّهم لا يجاهرون. لا يُعجبه العجب، يقولون. وكثيرون غير الأدباء أيضا لهم الرأي نفسه، والموقف نفسه.
هذا هو ملخّص لائحة الاتّهام التي عرضها الحكيم ضدّي. طبعا كانتْ أطول بكثير على لسانه، مشفوعة بالأمثلة والأسماء أحيانا. وكان عليّ أن أقدّم دفاعي مفصّلا، بعد أن طرح الحكيم تهمتي بالتفصيل!
بدأتُ بالعلاقات العامّة مع الناس، في دفاعي الطويل، ردّا على اتّهامات الحكيم الطويلة هذه. لاحظتُ أنّ الأكثريّة كانتْ توافق الحكيم خلال مرافعته، بهزّ الرءوس في صمت. حتّى العنيد وافق الحكيم في دعاواه، قبل سماع دفاع المتّهم. لذا، كان لا بدّ من التفصيل وأيراد أمثلة عينيّة، لنْ أوردها هنا طبعا.
أحترم الناس جميعا، قلتُ. حتّى الذين تعرفونهم أنتم، ولا يستحقّون الاحترام . أعاملهم بالرسميّات. أسلّم عليهم سلاما مقتضبا. لكنّي أكذب عليكم إذا قلتُ إنّي أفعل ذلك بحماس. يكفي أنّي أصمتُ في لقاءاتنا. أكثر من السلام والكلام المقتضب مع هؤلاء معناه نفاق، وأنا لا أنافق السلطة نفسها، ولم أنافقها يوما، فكيف لي أنْ أنافق الأفرد، متجاهلا ماضيهم، وماضي السلف قبلعهم أحيانا؟ كثيرون من هؤلاء كانوا، هم وآباؤهم، من أزلام الحكومة في الماضي. أمّا اليوم، وقد غدت الوطنية ببلاش، فقد انقلبوا جميعهم وطنيّين. صحتين. أنا أعرفهم، وأعرف تاريخهم وسكوتي هو أكثر ما أستطيع. لو عرغتم المرحوم والدي لكنتم تثمّنون سكوتي هذا عاليا!
مِن ناحية أخرى، أرتاح بشكل خاصّ للناس الطيّبين. المخلصين بالفطرة. ليس هؤلاء مثقّفين يعرفون كلّ شيء. ناس يعرفون ما يعرفون، ويعرفون ما لا يعرفون. لا يخجلون حتّى من السؤال عنْ كلّ ما لا يعرفون. ليسوا موسوعة يعود إليها الناس في كلّ جلسة عامّة، فيجيبون في كلّ ظرف، ولا يخيّبون سائلا. يجيبون بما يعرفون، ويختلقون إذا لم يعرفوا. أحترم كلّ مثقّف يُسأل بما لا يعرف فيأبى الخنفشاريّة، ويصرّح بأنّه لا يعرف. الرجل الحكيم هو من يعرف ما يعرف، ويعرف ما لا يعرف أيضا، غير منكر ذلك!
نأتي الآن إلى الأدباء. الشعراء بوجه خاصّ.مصيبتي مع هؤلاء كبيرة، كبيرة جدّا. معظمهم يريدون الوصول إلى القمّة بدون ثمن. يكتبون سخافات مقفّاة، وينشرونها قصائد! هؤلاء لا يحتملهم كلّ العارفين بتقييم الأدب، شعرا ونثرا، لكنّهم يصمتون عادة. طبعهم الصمت والمسايرة. فيفسّر المتشاعرون الصمت موافقة وإعجابا. لم أذكر أحد هؤلاء بالاسم يوما، لكنّي سلقتهم ذات غصبةعلّهم يتعلّمون، فيحترمون أنفسهم ومعارفهم وقرّاءهم.. هل من لوم عليّ في ذلك؟ كلّ شيء أهون من النفاق، للحاكم أو للمزيّفين هؤلاء!
رأيتُ الحضور يهزّون رءوسهم أثناء مرافعتي، فانبسطتُ أيّما انبساط، وتوسّعتُ في الشواهد العينيّة، بالأسماء أيضا. لكنّ الحكيم ردّ عليّ بِإيجاز، كأنّما كان القرار معدّا سلفا. معك حقّ في المبدأ، قال الحكيم، لكنْ يمكنك أنْ تبقى على مواقفك التي فصّلتَها، شريطة تغيير أسلوبك الحادّ. لم يكنْ أمامي سوى الإذعان لرأي الحكيم والجمهور، وإن كنتُ في داخلي أعرف: “طبعٍ طبعه اللبن ما بتغيّر للكفن”!