ورد في الفصل السابق هذا المقطع:
(لكنني ومن خلال تجاربي في الحياة لاحظت أن أكثر
الناس احتراما لحدود الآخرين، هم أكثر الناس دفاعا عن حدودهم،
والعكس صحيح.
فالإنسان الذي يعرف حده ويدافع عنه، لا شك أنه يحترم حد الآخر،
ويرفض أن يتجاوزه!)
وصلتني عدة رسائل تشكك في صحة هذا المقطع!!
أهمها على الإطلاق تحمل سؤالا:
هل الطاغية الذي يحكم شعبه بقبضة من حديد،
ويستبيح كل حق من حقوقهم،
هو يفعل ذلك لأنه مهان ولأن حدوده الشخصية مباحة؟
كان جوابي باختصار شديد، وبثقة كبيرة: نعم!
………….
لذلك ارتأيت أن أخوض قليلا في هذه الموضوع علّني أجنّب القارئ سوء الفهم.
باختصار: لا يهين إلا المهان، ولا أحد يستبيح حدود أحد إلا كنتيجة
لإحساسه بأنه مباح.
انتبهوا إلى كلمة “إحساسه”، إذ أن أغبية قرارت الإنسان، إن لم يكن كلها،
تأتي كردة فعل لأحاسيسه وعواطفه، وليس كثمرة لتفكير منطقي وعقلاني بعيدا
عن طبيعة ومدى صحة تلك الأحاسيس.
والأحاسيس هنا ليس شرطا أن تكون ناجمة عن أسباب حقيقية، بل قد
تنجم عن أسباب وهمية لا وجود لها إلا في ذهن الشخص الذي يشعر بتلك الأحاسيس.
لا يوجد طغيان على سطح الأرض إلا وتطايرت حممه من بركان،
بركان تفجر من نفس مضطربة،
خائفة، منهزمة، بعكس مايطفو على السطح من جبروت!
نعم الجبابرة هم مخلوقات خائفة منهزمة مضطربة،
تلجأ إلى الطغيان في محاولة
للسيطرة على هذا البركان الذي يتأجج داخلها،
وفي محاولة من اللاوعي ليقنع الوعي أن كل شيء على مايرام،
وبأن الأمور تحت السيطرة!
الطاغية، أية طاغية، يعيش حالة من التشويش الذهني والإضطراب العاطفي،
التي يحسّ عندها بالضياع،
وما طغيانه إلا محاولة توهمه بأنه يمسك بزمام الأمر،
وبأن كل شيء على خير مايرام.
كلما ازداد خوفا من رعيّته كلما ازداد طغيانه تأججا،
وكلما تأجج طغيانه كلما ازداد خوفه، وهكذا
يدور في حلقة مفرغة…..
لو كُتب لنا أن نراقب طفولة كل طاغية تحت عدسة المجهر، كما نراقب فليما سينمائيا،
متسلحين بأبسط قواعد المعرفة في علم النفس والسلوك،
لمسكنا جذر المشكلة متورطا بالجرم المشهود!
من لم يستطع أن يرى تلك الحقيقة في أولاد صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي،
سيصعب عليه فهم ما أقول!
صحيح أنهم وبالنسبة للإنسان العادي، ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب،
لكن الحقيقة مغايرة لهذا التصور!
فلقد ولدوا في بيئات استباحت طفولتهم، ودربتهم منذ نعومة أظفارهم
على أن يكونوا طغاة.
لم يمارسوا تلك الطفولة، فالطفولة هي براءة وعفوية وخوض تجارب شخصية
بحرية وضمن قيود توجه ولا تقمع!
تدربوا منذ نعومة أظفارهم على أن يأذوا كي يسيطروا على زمام أمورهم.
ومن يؤذي يخاف دوما من ردة فعل الشخص الذي تأذى!
الأمر الذي يدخله في تلك الدائرة المغلقة:
قمع يزيد من خوفه، وخوف يزيد من قمعه، وهكذا دواليك!
…..
قرأت مرّة قصة بطلة الجمباز الرومانية ناديا كومانتشي، وعلاقتها بابن الطاغية
رئيس رومانيا السابق تشاوسيسكو، وكيف كان يطفىء سجائره على جسدها،
حتى فرّت هاربة إلى أمريكا بعد سقوط والده.
وقرأت قصة روتها سيدة لبنانية عن علاقة عدي صدام حسين بابنتها، وكيف قص
لسانها بمقص حاد، ورماها في نهر الفرات من طائرة الهليكوبتر التي كانت تحلق به.
وروى لي شخص صادق وأمين ماحدث يوم
كان موظفا في القصر الجمهوري بدمشق.
خرج بشار الأسد من القصر متوجها إلى سيارته يحيط به حراسه،
في تلك اللحظة سمعوا صوتا مرعبا، فالتفتوا باتجاه الصوت وإذ به
عامل كهرباء داخل القصر كان متسلقا عمودا،
فتعرض لصدمة كهربائية اسقطته من أعلى العمود
جثة هامدة على الأرض.
تابع بشارسيره بدون أن تهتز شعرة في رأسه،
ثم ركب سيارته وغادر…
عندما يغيب قطي بسبوس عن نظري وأتخيل أن ذئبا قد فتك فيه،
ترتعد مفاصلي واُصاب بالدوار، فما بالك لو مات شخص أمام ناظري
وداخل أسوار بيتي بينما يؤدي خدمة لي!!!
هؤلاء الطغاة سُلبوا انسانيتهم في طفولتهم المبكرة جدا، ولم يُسمح لهم
أن يعيشوا تلك الطفولة ببراءة وعفوية….
لقد اُنتهكوا بكل ما للكلمة من معنى….
ملاعق الذهب في أفواهم لم تستطع أن تحمي حدودهم، بل على العكس
مكنتهم من استباحة حدود الآخرين.
………
لم يكن حفيدي آدم قد بلغ الرابعة من عمره، عندما استاء من طفل في صفه
لأنه قال له: You’re a baby
ـ أنت بيبي!!!
شكى الأمر لمعلمته وعبر عن استيائه، فزميله في الصف أهان “رجولته”!
قامت المعلمة بالحديث مع الطفل الآخر: (آدم ولد كبير، وليس بيبي وعليك أن تعتذر).
يتابع آدم: لقد اعتذر وأنا سامحته!
انفجرت ابنتي في وجه طفلتها وهي داخل السيارة في طريقهم من المدرسة
إلى البيت.
صرخت بدون أي سبب، يبدو أنها كانت تعاني من ضغوط العمل ذلك اليوم.
عندما وصلوا إلى البيت، انفردت بها قائلة: أعتذر منك يا جازي، فأنا
صرخت في وجهك بدون أي سبب، فقط لأنني كنت مرهقة!
ردت الطفلة وكان عمرها أقل من خمس سنوات:
لقد سبق وسامحتك في قلبي لأن المسيح قال لنا: اغفروا!
هل تتوقع أن طفلا يعيش في هكذا بيئة سيتمكن من أن يحرق سجائره على
جسد شخص آخر،
أو أن يقص لسان شخص آخر،
أو أن يموت أمامه أحد موظفيه بطريقة كارثية،
وكأن شيئا لم يكن!!
…..
اليوم بدأ جمر القهر يتّقد تحت الرماد السوري منذرا باشعال نيرانا
ستحرق ماتبقى من وطن محكوم بالنار والحديد.
لكن الكارثة أنه كلما ازداد ذلك الجمر اشتعالا كلّما ارتفعت نسبة الطغيان والقمع،
فالحية تنفث أكبر كمية من السموم وهي تحتضر،
والطاغية يحتضر لكنه مشبّع بالسموم!
الأمر الذي قد يقود البلد إلى كوريا شمالية في منطقة الشرق الأوسط،
حيث يكون متوسط عمر الإنسان اربعين عاما، ومتوسط وزنه أربعين كيلو غرام،
ومتوسط طوله أربعة أقدام.
بسبب الجوع والفاقة،
كمصير حتميّ لكل بلد يحكمه الطغيان!