أرجوكم اقرأوه بهدوء، ولا تجعلوا من طول الفصل سببا لتجاوزه.
ليس مهما أن تمتلك القدرة على العطاء، بقدر ماهو مهم أن تمتلك روح العطاء.
فلو امتلكتها أنت بالتأكيد قادر على أن تعطي…..
روح العطاء فياضة كما هو نهر جارف….
تشعر أنها لا تملك شيئا، وتملك كل شيء…
هي تملك لتعطي ولا تملك لتخزّن….
كل شيء في الكون ملكها، وكل أملاكها ملك لغيرها…
للعطاء مليون شكل، وكل أشكاله جميلة وزاهية….
………
تحضرني قصة حدثت معي يوم زرت سوريا لأول مرة
بعد أن هجرتها، وكان ذلك عام ٢٠٠٣،
أي بعد حوالي ستة عشر عاما….
طبعا هذه الفترة الزمنية كانت كافية لأن تغيرني،
كانت كافية لأني تعلمني شيئا لم أتعلمه في وطني،
وكانت كافية لأن أرى الشح الذي تركته ورائي واضحا ومتبلورا…
زرت صديقة لي في مدينة دمشق.
صديقة تعيش في بناية من عدة طوابق…
بناية مقززة رغم أنها مبنية بطريقة هندسية جميلة.
مدخل البناية مفتوح من الطرفين على شارعين…
الريح حملت أطنانا من القمامة ورمتها فيه،
قمامة من ورق وأكياس ومخلفات أشجار وحطام أثاث
وكل ما بإمكانك أن تذكره.
لكن، لو نظف شخص المدخل مرة في الاسبوع لما احتاج
إلى أكثر من نصف ساعة من عمل خفيف جدا وغير مجهد.
عندما اقترحت على صديقتي أن ترسل اثنين من أولادها الأربعة لتنظيفه، والذين كانت أعمارهم تقارب العشرين،
رمقتني بنظرة عتاب واستهجان، وهي تقول:
لا أحد من سكان البناية يقبل أن يتعاون،
فهل تريدين أن يكون أولادي زبالين وخدما؟
………………..
كلنا خدم، وكلنا نخدم!!
وكل عمل لا تخدم أحدا من خلاله هو عمل شيطاني
ولن يُثمر…
ما القضية إذا ساهم شاب في مقتبل العمر بتنظيف مدخل بنايته، سواء ساعده غيره أم لم يساعد؟!!!
وخصوصا معظم الشباب هناك يجترون
وقتهم الضائع بدون أية فائدة.
هل يُشترط أن تكون الخدمة مأجورة؟
أليس أجمل أشكال العطاء أن تعطي بلا مقابل؟
………
في سنتها الدراسية الثالثة في كلية الطب، اتصلت بي انجيلا
لتدردش معي بعد يوم طويل ومرهق.
سألتها كالعادة: كيف كان نهارك؟ ماذا تعلمتِ اليوم؟
ردت ببراءتها المعهودة وببعض الإحراج:
كان يوما عصيبا، ثم تابعت:
تعلمت أن اُدخل اصبعي في مؤخرة المريض
وأحركها في كل الاتجاهات، لنفي وجود أي ورم.
وعلى الفور قلت:
ركزي على نبل المهمة لا على طبيعتها،
فأنت ستمارسين أقدس مهنة على سطح الأرض!
وسمعتها تنددن: أعرف يا أماه!!
…….
أقدس مهنة على سطح الأرض؟!!!
لا أظن، ولم أعد اؤمن بتلك المقولة!!!!
فالكارثة السورية كانت نقطة انعطاف خطيرة
قلبت الكثير من مفاهيمي رأسا على عقب.
لا يهم أن نحافظ على الحياة أكثر مما يهم
أن نسعى لتحسين نوعيتها.
وفي هذا السياق، ليست مهنة الطبيب أقدس
من مهنة عامل التنظيفات!!
لقد تعلمت من هذه الكارثة أن الحياة تُقاس بعمقها،
وليس فقط بطولها!
الطبيب قد يضمن لك طولها، لكن عامل التنظيفات
يضمن لك عمقها…
فماذا لو عشت مائة عام فوق أرتال من الزبالة؟!!!
أي حياة تلك؟!!
ولكي تعيش الحياة بعمقها يجب أن تكون معطاءا،
لا فرق بين أن تنظف مدخل بنايتك،
أو أن تدخل اصبعك في مؤخرة مريض لتجس أورامه.
كلا المهمتين مقدستان!!
تلك السيدة التي لم تشأ أن يكون أولادها خدما و “زبالين”
في وطنهم الأم،
وافقت لاحقا على أن يرموا أنفسهم في المحيطات
هربا من ذلك الوطن، إلى أوطان تعتني بمداخل بيوتها،
تماما كما تعتني بنظافة مستشفياتها….
إلى أوطان لا تفرق بين أطبائها وعمال التنظيفات….
خاطروا بطول حياتهم أملا في أن يعيشوا عمقها!!
……….
في أحد الأعوام وعندما فاحت رائحة الاوساخ من نهر بردى،
نزل سفير اليابان في دمشق مع طاقم سفارته إلى النهر،
وراحوا يجمعون الاوساخ؟
ماذا تقول عن سلوكهم هذا؟
أليس هو خدمة انسانية غير مأجورة؟
أليس عطاءا أفرزته أرواح فياضة وخيّرة؟
أيهما أسهل أن تكون سفيرا وتنزل مع طاقمك إلى نهر يفيض وسخا، في بلد غير بلدك لتساهم في تنظيفه،
أم أن تكون شابا ممتلئا بالحيوية والنشاط، وتساهم
في تنظيف مدخل بنايتك دون أن تنتظر أجرا أو مساعدة،
كما لم ينتظر هذا السفير أجرا؟
هل أحد فيكم يتساءل لماذا تصحّر نهر بردى؟
أليس لأن أرواحكم قد شحت…..
أليس مانراه من قحط على أرض الواقع أفرزته أرواح شحيحة لا تعرف معنى العطاء؟!!
هل فهمتم ماذا أقصد بروح العطاء؟!!!
إنها ثقافة وسلوك وطريقة حياة،
وما دونها لن يثمر إلا فقرا وشحا وخرابا….
الشعب يشتم الحكومة التي (تستحق كل الشتم)،
ويشتم العالم ويتهمه بالمؤامرة،
لكنه لا يدرك أن فقدانه لروح العطاء جرّ
هكذا حكومة ومعها كل المؤامرات،
فالقمل لا يجر إلا بيوضه!!!
أنت تستقطب الخير عندما تعطي وتستقطب القحط عندما تشحّ….
الطاقة تستقطب مثيلتها….
…………………………….
Feng Shui
فلسفة صينية قديمة جدا تتعلق برحابة وديكور المكان الذي تعيش أو تعمل فيه.
تقوم على أساس أن كل غرض يتراكم حولك ولا تستخدمه، يحجب عنك الدفق الكوني، فتشح حياتك.
يجب أن تتخلص من كل شيء لا تستخدمه، ويستطيع غيرك أن يستفيد منه.
وقبل أن تعطيه لغيرك يجب أن تتلو عليه صلاة شكر، فتقول:
أشكرك لأنك قدمت لي خدمة في يوم من الأيام،
وها أنا أعطيك لشخص آخر كي يستفيد من خدمتك….
فهم يؤمنون بأن للأشياء أرواحها، وعندما تقتنيها
يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أرواحها.
مهما بدت تلك السلوكيات “بهلوانية” وغير موثقة علميا،
هل أحد يستطيع أن ينكر الأثر الإيجابي الذي تتركه
لدى من يؤمن بها؟!!
اتركوا الحكومات والمؤامرات على طرف، وفكروا قليلا:
أليس لمداخل البنايات المكتظة بالأوساخ دور في
حالة الشح التي تعيشها سوريا، أو أي بلد على غرارها؟
ليس كل ماهو حقيقة وواقع نستطيع أن نراه
تحت عدسة المجهر،
فهناك ما نحسه ولا نجسه،
ولاحاسيسنا الطبيعية والنقية مصداقية تفوق مصداقية أي مجهر!!!
قارن بين هذه الأحاسيس عندما تولج مدخلا يعج بقاذوارته،
وبينها عندما تسير في درب يحيط به الجمال من كلا الجانبين؟
المدخل الذي يعج بقاذوراته هو ثمرة
لأرواح شحيحة استقطبت القحط،
والطريق الذي يحف به الجمال من الجانبين
هو ثمرة لأرواح معطاءة،
استقطبت الخير والوفرة من كل الجهات….
……..
عندما أصل إلى البيت أصفّ عادة سيارتي داخل الكاراج
وأدخل البيت من الباب الخلفي.
في الاسابيع الأولى بعد أن انتقلنا إلى بيتنا الجديد،
كنت اصف السيارة خارج الكاراج وأدخل من الباب الرئيسي، خوفا من أن أتأثر طاقويا بالكركبة الموجودة
في الكاراج، وبالتالي أضطرب نفسيا وروحانيا.
بعد أن تم فرز تلك الأشياء المتراكمة من البيتين
السابق والجديد،
والتبرع بمعظمها للجمعيات الخيرية، اكتسب البيت رحابة وطاقة فياضة.
إنّ كل ما أملكه اليوم من أثاث أستطيع
أن أجمعه في غرفة واحدة،
ولن تبدو أكثر كركبة وازدحاما من ذلك المدخل الذي ولجته يوما في دمشق.
ذلك المدخل الذي مازال قضيتي،
ومازال يزاحم مدخل بيتي في ساحة رؤيتي مشوشا عليّ سكينتي!
إنها لعنة مهدك التي ستلاحقك حتى لحدك…..
……………..
لذلك، قلت في بداية هذا الفصل:
الروح المعطاءة تملك كل شيء، ولا تملك شيئا…
تملك كل شيء عندما تستمتع بالجمال،
ولا تملك شيئا عندما تفيض وتمنح ذلك الجمال….
هي تفيض ولا تحتكر….
هي تستمتع بالخير وتشارك الغير فيه….
هي تأخذ وتمرر ما تأخذه إلى غيرها…
ابحثوا عن الجمال والخير، وأينما تجدونه
سترون أرواحا تتدفق وتفيض،
أرواحا تملك الكون، لكنها لا تقبض على شيء…