دليلك إلى حياة مقدسة (الفصل 95)

الكاتبة السورية وطبيبة النفس وفاء سلطان

تقول الكاتبة الأمريكية مارلو توماس:
There are two kinds of people in this world, givers and the takers.
The takers may eat better, but the givers sleep better
(هناك نوعان من الناس في العالم، المعطاؤون والآخذون.
الآخذون قد يأكلون أفضل، لكن المعطائين ينامون أفضل)
وأنا أقول:
المعطاؤون هم أيضا يأخذون، لكنهم معبر
ومصب لكل شيء جميل يأخذونه.
عندما تكون مصبا للنهر تصبح أنت النهر…
وعندما تكون معبرا للدفق الكوني تصبح أنت ذلك الدفق…
العطاء كأي ابداع آخر هو موهبة وفن،
ولكي تتقنه عليك أن تصقل موهبتك وتدرب عليه باستمرار.
والأخذ كما العطاء أيضا موهبة وفن،
ولكي تتقنه عليك أن تمتن له، ومن ثمّ تسمح له أن يعبرك ليسعد غيرك كما أسعدك.
الأم تريزا تقول:
Give until it hurts
اعطِ حتى يؤذيك العطاء.
أما أنا فأقول:
Give until it helps
اعط ولا تخف، فالعطاء مهما استنزفك آنيا،
سيباركك لاحقا، ومن المستحيل لعطاء أن يؤذي!
وحده الشح يجر شحا ويساهم في القحط والتصحر!
أذكر مرة ولا أنساها، قرأت مقالا لكاتبة لبنانية، تنعي فيه وفاة الفنان اللبناني جوزيف صقر.
ذكرت في المقال، أنه وفي سنواته الأخيرة عاش حالة من الفقر والعوز والحاجة يندى لها الجبين،
ولم يتقدم أحد من أثرياء لبنان أو من المقتدرين
بأي نوع من المساعدة،


من منطلق ردّ الجميل لفنه الجميل.
العبارة الأخيرة في المقال نقرت على عصبي الحساس.
لأنني أحسست أنني من كتبها، وبأن الكاتبة (قرأت) أفكاري واستولت على واحدة منها،
فهكذا تشعر عندما يعبّر أحد عمّا في نفسك.
العبارة تقول بما معناه:
(لم تساعدوه لأنكم تخبئون قروشكم البيضاء
لأيامكم السوداء، آمل أن تأتي هذه الأيام سريعا….)
قالتها من منطلق قهر لا أكثر ولا أقل….
وكم أتذكرها اليوم وأنا أتابع أخبار الوضع في لبنان!
جاءت الأيام السوداء وطارت معها القروش البيضاء…..
غاصت تلك العبارة في تلافيف دماغي لأنني
ومنذ بدأت أقرأ وأعي،
وقبل أن أعرف الكثير عن فلسفة الأخذ والعطاء،
كنت أكره ـ بل وأحتقر ـ المثل العربي
“خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”!
كل قرش تخبيه من منطلق الحرص والخوف من النقص
هو قرش أسود.
فالمثل الأمريكي يقول:
القرش الوحيد الذي تملكه هو الذي تصرفه!
وكل يوم أسود تتوقعه سيأتي حتما.
فأنت تتوقعه لأنك لا تثق بالحياة، والحياة لا تعطي
من لا يثق بها….
…………..
السبب الرئيسي، وقد يكون الوحيد، لأن تحجب عطائك عن الآخرين، هو الخوف من أن ينقص ما لديك.
ولو كنت تثق بالحياة وبالدفق الكوني لم انتابك هذا الخوف.
أنت لا تخاف إلا عندما تفقد الثقة،
وعندما تفقد الثقة بالجانب الآخر سيتوقف
ذلك الجانب عن العطاء.
لماذا تشتري كمية من البذور وترشها في الأرض؟
لأنك على ثقة أن الأرض سترد لك فلوسك مضاعفة.
تصور لو أنك فقدت الثقة بالأرض، واحتفظت بالفلوس التي اشتريت بها البذور، ماذا كان سيحصل؟
ستشح مونتك في ذلك العام، وفي كل عام لاحق
حتى يصبح الشح طريقة حياة.
العطاء يرتكز على الثقة بمنبع لا ينضب!
اعط دائما وكأنك ترش بذورا في أرض خصبة،
‏فالكون يردّ ما تعطيه عندما تثق به!
تصور لو أنك مدرس في أحد الصفوف، ولاحظت أن هناك طالبا
متخلفا في كل دروسه، لكن انتابك إحساس من أن لديه قدرات هائلة، فقررت أن تضع ثقتك به وعبرت له عن تلك الثقة،
ماذا تتصور أن يكون المردود؟
لهذا يجب أن تثق بالحياة عندما تمنح عطائك،
فالحياة (كما هو ذلك الطالب) تقدر ثقتك بها،
وستملأ خزائنك حتى عندما يهددها حجم العطاء.
إياك أن تتوهم بأن العطاء، مهما كبر أو مهما كنتَ بحاجة لما تعطيه، سيستنزفك….
لذلك عندما قالت الأم تيريزا “اعط حتى يؤذيك العطاء”
قلت:
اعط ولن يؤذيك أي عطاء مهما كبر.
……..
لا تستطيع أن تتأكد من سلامة أية خطوة تخطوها في الحياة، إلا عندما تشعر في أعماق أعماقك
أنك تخطوها في سبيل خدمة الغير، ولن تؤذي بها أحدا.
دع نيتك في أن تخدم بدون أي تمييز
هي الحافز الأول والأخير لأي فعل تنجزه.
لا تتخذ من سلوكيات البشر حيطانا تحجبك عنهم،
بل تغاضى عن شرورهم عندما تمد يدك إليهم…
فقد يكون أكثر الناس بحاجة لمعروفك هم الذين لا يستحقونه،
والعطاء يجب أن يكون مبنيا بالمطلق على حاجة الآخر
دون أي اعتبار آخر.
لو فعلت ستكون حياتك دفقا كونيا لكل شيء جميل….

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.