“اكتئاب العنوسة.. أكثر أعراضه هو إنكار البنت لاكتئابها”. هذا الكلام لم يطلقه شخص محافظ أو أمي، بل بكل بساطة.. دكتور نفساني من السعودية.
نحن إذن أمام دكتور نفساني درس لسنوات في الجامعة وتخصص (علميا) في الأمراض النفسية. دكتور يفترض أنه يفرق بين المرض النفسي وبين الخرافة والمعتقدات الاجتماعية.
بداية، من المؤسف حقا أن دكتورا نفسيا لا يأخذ مسافة من الكلمات التي تنتجها الثقافة الشعبية والتي تحمل معاني قدحية. في الطب النفسي كما في علم الاجتماع ومختلف العلوم الإنسانية، لا نتحدث عن “الشذوذ” بل عن المثلية؛ ولا نتحدث عن “العاهرة” بل عن مهنية الجنس. وبنفس الطريقة، فلا حديث عن “العانس” أو “العنوسة”، بل عن سيدات غير متزوجات؛ لما تحمله كلمة عنوسة من مفهوم قدحي ميزوجيني مؤلم للمعنية بالأمر. وهو للإشارة مفهوم تسقطه المجتمعات التقليدية حصريا على المرأة. لماذا لا نسمي، مثلا، الرجل الذي يبلغ الخمسين دون زواج، بـ “العانس”؟ لأنه يظل “صالحا للاستعمال” في كل الأعمار؟ لأنه في سن السبعين يستطيع الزواج من فتاة في سن العشرين أو أقل (وهذا سلوك يطبع معه المجتمع التقليدي، حتى وإن استحق أن نتوقف عنده قليلا).
ثم، في أي سن يقرر المجتمع أن فتاة ما وصلت مرحلة “العنوسة”؟ الثلاثون؟ قبل ذلك؟ بعد ذلك؟ في مجتمعات يتم فيها تزويج النساء في سن الحادية عشر والثانية عشر، قد تعتبر بنت العشرين عاما من “العوانس” مثلا!
تتحدث العلوم الإنسانية عن “العزوبة النهائية” حين يصل الشخص (رجلا كان و امرأة) إلى سن الخمسين دون أن يكون قد تزوج ولو مرة واحدة. و”العزوبة النهائية” مصطلح إحصائي يدرج ضمن مختلف الإحصائيات المجتمعية الأخرى في أي مجتمع (معدل سن أول زواج، نسب الزواج والطلاق، معدل الأطفال لكل أم، إلخ). مصطلح ليس فيه أية حمولة قدحية لا للرجل ولا للمرأة. هو ببساطة توصيف موضوعي لحالة اجتماعية معينة.
لكن، في النهاية، وفي المجتمعات التقليدية، قد نتقبل استعمال الأفراد لعبارات قدحية متداولة من قبيل “العنوسة”، التأخر في الزواج (تأخر مقارنة مع ماذا؟ هل هناك سن “موضوعي” إن تجاوزناه نعتبر قد “تأخرنا” في الزواج؟)، سن اليأس (وهذه معضلة أخرى في مجتمعات تحكم باليأس على نساء قادرات على العمل والدراسة والتعلم والحب والزواج، لمجرد تغيرات هرمونية مرتبطة بانقطاع الدورة… مجتمعات تربط دور المرأة في الحياة بالإنجاب والولادة، فإن فقدت قدرتها على ذلك أصبحت في سن اليأس)، الشذوذ، وغيرها من العبارات القدحية.
لكن المشكل هو حين يصبح الشخص الذي وصل مستويات عالية من العلم والتحصيل الدراسي، غير قادر على مساءلة مسلمات المجتمع. بل والأدهى أن يكون هذا الشخص قد حصل على تعليم جامعي في إحدى التخصصات التي يفترض أن تسائل، قبل غيرها، التصورات والضغوطات المجتمعية التقليدية.
في مجتمعات محافظة تختزل دور المرأة في الزواج والإنجاب، قد يصبح عدم زواج الفتاة ابتداء من سن معينة، إشكالا نفسيا ليس بسبب عدم الزواج نفسه، بل بسبب الضغط المجتمعي وعشرات الأسئلة التي توجه للفتاة وتشعرها بالفشل وفي كون “أحد لم يخترها” وأنها لن تؤدي أهم دور في حياتها. طبيعي، أمام هذا الكم من الضغط المجتمعي، أن تتعرض بعض الفتيات لحالة كآبة… ليس لأن العنوسة في حد ذاتها تؤدي للكآبة (وإلا فسيكون علينا ربما أن نسأل العشرات من النساء المتزوجات اللواتي يعانين من كآبة حقيقية… بسبب الزواج!) بل لأن المجتمع يخلق من عدم زواج الفتاة سلاح ضغط يولد الكآبة.
لو أن جدتي كانت بعد على قيد الحياة، كنت قد أتفهم عدم استيعابها لهذا الأمر… لكني أجد صعوبة كبيرة في تقبل وجود دكتور نفسي، يحتاج لهذا الكم من تفسير الواضحات!