نبيل عودة
افتتاحية المؤلف
هل يكتمل الحب بلا وطن؟
وتكتمل الآمال بلا بيت؟
وتكتمل الأحلام بلا ملاعب الطفولة؟
ويجد الانسان غايته، بعيداً
عن عرائش صباه ؟!
ويتمتع بالراحة، في مجتمع
القيمون عليه لصوص ؟!
*****
هل تسمى حياة، هذه الملعونة
أمام خرائب شعبنا،
بظلال تاريخنا المهدم …
وحاضرنا المنفي …
وثقافتنا المصلوبة بين اللصوص،
وحضارتنا المسروقة …
ودمنا النازف باستمرار ؟؟!!
*****
اذن …
ما هو الحب ؟!
وما هي الحياة ؟!
*****
هل يوجد حب
بلا وطن.. ؟!
هل توجد حياة
بلا وطن .. ؟!
نبيل عودة
حازم يعود هذا المساء
(حكاية سيزيف الفلسطيني)
تجلى امام عيني بلا سابق توقع. انبثق وبرز من حيث لا أدرى. رؤيته فاجأتني. وقفت مشدوها مستنفرا ما استطعت عليه من حواسي، للتأكد من حقيقة ظهوره.
لوهلة أكاد اكذب عيني. لا أدري ما يجري حولي. ربما لم استوعب حقيقة ظهوره؟! مسألة لم تخطر على البال. أقرب للمعجزات. ما أصعب تصديق رؤيته. فجأة ينجلي أمام عيني. هكذا بلا توقع. كصفعة فجائية تركتني مذهولا عاجزا عن الفهم والادراك.
كان التفكير بلقائه، منذ غادر… نوعا من العبث. ولكن ها هو أمامي! بصورته التي أعرفها. بكيانه المميز. أتفرس به بذهول، بحيرة. أراه ولا أصدق، أتفرس بوجهه المليء المكتنز، بوجنتيه البادئتين بالترهل، بقامته المتوسطة الطول، المليئة تماما، بحركاته الرصينة…هو ولا أصدق. متى عاد؟ وكيف؟! وهل تجوز عودته؟! يقبلها المنطق؟! أنفض الاسئلة من ذهني وأواصل تفرسي به بفقدان القدرة على الفهم…
ذكراه كانت دائما في البال، ولكن منذ غادر، أيقنت ان ما بيننا انتهى، لا شيء الا ذكرى طيبة عن أيام لا تنسى، نستعيد أحداثها بحماس وشغف، غير مبالين من فقدان بعض التفاصيل والهوامش، فحماس الذكرى يكمل ما نقص… ثم ها هو يصعقني بظهوره؟!!
يفاجئني!!
وقفت مذهولا أمام حقيقة ظهوره. يتناثر المنطق ويفر مهزوما أمام تجليه الذي لا شك فيه. أواصل وقوفي مرتعشا ومتفرسا به، بوجهه، بقامته، بحركاته، به كله. هو؟ ليس هو؟! كانت المفاجأة مزدوجة، اللقاء بحد ذاته، ولقاؤه هو بالذات، بعد أن غادرنا للأبد كما كان واضحا!!
غادرنا؟!
لكنه عاد. ها هو مجسم أمامي. حقيقة لا جدال فيها. نفس الحركات، والقامة ذاتها بالكرش المندفع للأمام. هل هو نوع من المستحيل ؟! من اللامنطق ؟! من الوهم ؟! ام هو حلم عابر ؟! نزوة طارئة ؟! شطحة ذهنية ؟!
لا أدرى … غير ان ما يحدث مثبت بالرؤية، فهل أكذب نفسي ؟! أغالط عيني ؟! أنكر حواسي ؟! أتنازل عن يقيني ؟! أتخبط ؟! حيرتني نفسي وتراكم ذهولي، واشتدت هواجسي. احترت.
كان الوقت قبل الظهر. هذا اذكره تماماً. ولا أدرى ان كان لذلك قيمة ما. كنت عائدا من السوق ببعض أكياس الخضار والفواكه. على الاغلب كنت لوحدي، فما علق بذاكرتي لا يشملني الا انا وهو. انا في جهة … وهو في جهة اخرى، وما يحيطني وما يحيطه، لم يعلق بذهني منه شيء، ظهر بلا سابق توقع. مفاجأتي به كانت تامة، استحوذت على حواسي، صعقتني. أربكتني. فجرت مئات التساؤلات في ذهني، دخلت لأعماق نفسي حائراً. ولم أستوعب الا حقيقة واحدة … أنى أقف بمواجهته، أنا هنا وهو هناك … انظر اليه بلهفة مأخوذاً من المفاجأة، أستعيد في ذهني صورته. بوجهه غير القابل للنسيان، بذكراه التي تثير الحسرة والشوق، والحنين الجارف لأيام مضت. هو بلا أدني شك، ملامحه نفس الملامح المطبوعة في ذاكرتي، وقفته … حركاته … كل شيء يطابق الأصل.
كنا وكان، كانت ايام وليال، وبقيت احداث لا تغيب عن البال ابداً، تتردد باستمرار، متوهجة كأنها حدثت أمس، لكنها عبقة خافقة حياة وحيوية، كأنه لا ماض يبعدنا عنها، أو يبعده عنا.
تواصلت حيرتي وتراكم عدم يقيني، وتهت بين مبتدأ الأشياء وخبرها، فقدت اتجاهي وانا قبالته، وربما فقدت القدرة على إدراك حالي. انفصلت عما يحيطني من اشياء. انظر اليه بين مصدق ومكذب لما اراه. هو نفسه !! اخيراً عاد ؟! كيف تمت عودته ؟! ومتى تحقق هذا الاعجاز؟ تتشابك وتتعثر الأسئلة. ها هو بوقفته المعتادة … دافشاً كرشه الضخم امامه … صدره منفوخ بعض الشيء بأبهة طيبة. قسماته هادئة لا تعبر عن شيء. حيرني اللا تعبير الواضح. ربما يفكر بأمر ما ؟! قلق من وحدته. وهو الذي اعتاد الجلسات الصاخبة ؟! او يكون مخبولا من طول الغياب ؟! ربما أثر فيه السكون الأزلي، وهو العاصفة التي لا تهدأ، المندفع بحيوية، متأجج العاطفة، المتألق دوماً بحديثة وأفكاره ومظهره ؟!
أحقا عاد ؟!
تناول شيئا وجلس، كانت أمامه كأس مترعة، وبعض صحون المازة. هذا مؤكد بالرؤية.
طويلاً نظرت اليه، متوقعا ان ينتبه لي، ان تفاجئه رؤيتي، فيسرع فرحا لملاقاتي ومعانقتي، بعد هذا الزمن الطويل … بعد هذا الغياب الطويل.
او يكون ما اراه اضغاث احلام؟ اوهام عابرة؟ تخيلات عقيمة ؟؟
ابعدتنا الايام في اتجاهات لا تتلاقى، وها هي تجمعنا بلحظة مجنونة لا تفسير لها، لحظة مجردة من المنطق. عصية على الفهم. اكاد لا اصدق نظراتي. انظر اليه وقلبي يخفق بشدة. ربما توجسا من خداع الرؤية. او من سراب الم بي؟! وهم قريب من التجسد؟ ما بالي اخرف؟ هل اكذب نظراتي؟ اكذب يقيني؟ أنكر وعيي؟ لم نعد في عصر العجائب انما في عصر العقل، فأي عقل يستوعب ما ارى؟! اي عقل يفسر غرائب ما يحدث لي؟ اعترف أنى أقف في مواجهته عاجزا عن الفهم والتقدير مشلول القدرة عن تفسير ما انا به. أتخبط وأتوه وراء مشاعري. أخلط بين اليقين والوهم. ما هو اليقين عند الانسان؟ انها ذات الانسان نفسه، فهل اكذب نفسي؟ اكذب ذاتي؟ أنكر يقيني؟!
منذ متى لم اراه ؟!
منذ متى لم تجمعنا جلساتنا الممتدة حتى آخر الليل؟ ربما عقد كامل، اطول قليلا او اقل قليلا، ولكنه يبدو زمن طويل، شديد الطول. يهيأ لي انه اطول من حياة انسان. ربما بعمر عدة اجيال، فزخم ما عشناه، أكثر من ان تستوعبه حياة واحدة، واقول لنفسي: ” ان ما يبعد بيننا لا شيء بمقياس عمر الزمن “. فلماذا لا تحركه رؤيتي كما تحركني رؤيته ؟! لا ينفعل ولا يبدو عليه التأثر، يستمر بالصمت والحركات التي تبدو محسوبة، وانا قبالته الوح له عبثا !
كان بيته منتدانا ومركز سمرنا، لا نفوت ليلة الا ونتجمع عنده … بموعد او بلا موعد، كأمواج البحر، لا بد لها من شاطئ تصله. او نكون على اتفاق مسبق للقاء في بيت أحدنا. تجمعنا لا بد منه. صرنا نعيش يومنا من اجل اللقاء مساء. صارت اللقاءات محور حياتنا، ومهما تمضي السنون، ستبقى تلك الايام متجلية في ذهني، بزخمها وحيويتها، برونقها وحرارتها الانسانية، وكلما يبتعد بي الزمن، يشتد شوقي لتلك الايام. بفرحها الذي لا يعرف نهاية، بانطلاقتها التي لا يدركها الوهن.
كم اختلفنا واتفقنا، نتناقش، نتحاج، نصرخ. نصمت. نصر. نرخي. ثم نضرب كؤوسنا المترعة، بكؤوس بعض، ونشرب نخب تجمعنا وصحبتنا وصمتنا وسعادتنا.
اتعود تلك الايام ؟! ايعود ذلك الفرح ؟!
كان حجة في الحديث، يتقن الرواية. بل هو راويتنا بلا منازع. يخيل لي أنى لم التق بمتحدث – راو في مثل موهبته وقدرته على الحفظ، فهو مثقف واسع الثقافة والاطلاع، ومجتهد في استنتاجاته وتحليلاته، لا يستسلم امام ما يبدو لنا طلاسم، سريع الخاطر، باهر البديهة، مرهف الحس، له منطق لا يهزم بسهولة ويعرف كيف يسوق الحجج والبراهين والامثلة والسوابق.
ما باله ينظر نحوي ولا يحرك ساكنا؟! ربما لم يعرفني، مع أنى لم اتغير شكلا. أيجوز أنى لم انتبه لتراكم التغييرات الصغيرة والبطيئة. فانا يخيل لي احيانا أنى لم اتغير جسمانيا منذ ربع قرن، اما هو فلم يتغير فيه شيء كأنه لم يفارقنا الا لأمسية واحدة، ها هو امامي كما عرفته دائما. الوح له بيدي. ينظر باتجاهي. هل حقا ينظر باتجاهي ؟! ام ينظر الى لا شيء؟!
كان صوته جهوريا نقيا، تعلم في صغره – يوم كانت يافا مدينة عظيمة، يتدفق اسمها عبر الموانئ، لكل اصقاع الارض، كعلامة مميزة للبرتقال الجيد، وقبل ان تهب عليها العاصفة الهوجاء اللعينة – تعلم تجويد القرآن …. فحفظه وجوده بطلاقة، فكان يتحف جلساتنا بصوته الرخيم الجميل. مجودا ما تيسر له من آيات كرام، يسحرنا بجمال اللغة وقوة البيان، ونقاوة الصوت، فنتمنى ان لا تنتهي جلساتنا، رغم يقيننا المطلق، اننا على موعد بلقاء جديد متكرر … فنوغل في الليل، او يوغل الليل فينا غير دارين من امر الزمن شيئا. مسحورين بجونا البديع، وبشملنا المجموع على مسامرته، موغلين بالسعادة بأنانيه متجردين عن كل ما يقلق راحتنا، وما ينهي هدوء بالنا، وما يخرجنا عن اطوارنا.
ما باله ينظر الي ولا يحرك ساكنا، اهتف باسمه بلا صوت، ارفع يدي بإشارة السلام، وعيناي تترصدان حركات وجهه، حركات يديه، اتجاهات نظراته.
في ليالينا وسهراتنا كان ينطلق احيانا … مغنيا بعض ادوار عبد المطلب، او عبد الوهاب، او ام كلثوم مفسرا بأستاذية، الطبقات الصوتية واصولها. مشيرا للأبداع وقصور المغنين، في هذه الطبقة الصوتية او تلك، او نصمت مستمعين الى سيمفونية، وكأن على رؤوسنا الطير، وحقيقة تقال، انه يفهم بالموسيقى الكلاسيكية، كما يفهم بتجويد القرآن وبالموسيقى العربية، فهو يذكر عشرات الالحان الكلاسيكية ومؤلفيها وبعض مقاطعها، ومناسبة تأليف كل لحن، وتركيبته بحيث يجعلك تتلمس ادق الاحاسيس واجلى المشاعر، التي تتوهج بها المقطوعة الموسيقية المعينة، مما يسهل فهمنا لهذا اللون الذي كان، حقيقة … بعيداً عن جونا وميولنا وثقافتنا، وكان ” البوليرو ” لرافل، و “الدانوب الازرق ” ليوهان شتراوس، هما اللحنان اللذان لا ينفك يصفرهما خلال نهاره ، متلذذا ، غارقا في نفسه وعمله .
كان يعطينا من اعماقه، نافذة اوسع لعالمنا، وشمولية شاسعة للفنون والثقافات، لا تزال متجلية في نفسي ونفوس بقية الاصحاب.
كان يعشق الادب بحديثه وقديمه، ويحفظ مقاطع مختارة ونوادر طريفة .. له ذاكرة ممتازة، وكثيرا ما اعاد على مسامعنا مقاطع لا يزال يحفظها منذ ايام شبابه المبكر. ويحفظ نوادر الادب القديم ويعرف كيف يرويها، جاليا بأسلوبه الفذ، أجمل معانيها، فيبهرنا ويفتح اعيننا على كنوز لا حصر لها.
وماذا لا اذكر عنه ؟! ولكنه يصدمني بنظراته التي لا معنى لها! يراني؟! بلا أدنى شك!! يعرفني؟! الوح له بيدي مرات متكررة، يثيرني ويقلقني بصمته وانطوائه غير المفهومين. اردت ان اصيح به ” انا هنا ” ولكن نظراته الباردة الموجهة نحوي اصمتتني.
ما الذي اعاده ان لم يكن حنينه الجارف للأصحاب ولأحلى الاوقات ؟!
اتذكر نهمه وحبه للطعام، وتفننه في تحضيره. والحق يقال انه سيد المطبخ بلا منازع … فاذا وضع يده على شيء. يجعله يؤكل حلالا، وهذه مسألة لا نقاش حولها، بحكم كوني أحب الطعام مثله، ولكنني أعجز عن مجاراته في الكميات، وكثيرا ما قال لي بحماس وتأكيد:
– انت احسنهم، كل !!
ويقول لبقية الاصحاب:
– الطعام متعه يا كارهي المتع . تعلموا منه ومدوا ايديكم. انا أكره الذي لا يأكل.
اما اسوأ صفاته فهي صفة الافراط في الشرب. لا يعرف لشربه حدودا، وكل الاوقات مناسبة لديه للشرب. لا فرق بين صباح ومساء، احيانا يجعلك تشعر انه لا يشرب بهدف الترفيه والمتعة والمسامرة، وانما لان هناك عدوا ينتقم منه. كيف ؟! لا أدرى !! نحاول بألاف الحجج ان نضع حدا لافراطه فيغلبنا ويجعلنا نفرط مثله، وها هو يعود وحنينه للكأس اقوى من كل حنين. يشرب ولا ينتبه لي او انتبه ولم يعرفني. ربما يدندن لنفسه بلحن ما، ها هو يرفع الكاس لشفتيه. يشم الخمرة مستمتعا قبل ان يرشفها.
لم نكن نستطيع ان نجاريه بالكميات التي يشربها، فهو إذا ما يسيطر دافع الشرب عليه، ومتى لم يسيطر؟! يشرب كل ما تطوله يده من اصناف الخمرة. بأبيضها وأحمرها !!
كان بيته منتدانا كما قلت. وكان اخا لنا، صديقا، وحبيبا، سنديانة ضاربة جذورها عميقا في قلوبنا، لا بد لنا من المرور به يوميا. نتجمع بأغراضنا، ونمد الطاولة، بكل المجازات التي تخطر على بال، بل بكل ما يصلح للأكل!
كان اخوه، شريكه الوحيد في بيته، صيادا هاويا، يصيد ولا يأكل، يمارس الصيد كنوع من الرياضة كما يبدو فكان يزودنا بكميات كبيرة من السمك، كنا ننظف احيانا فرشا كاملا … وكان صاحبنا يتحفنا بمعرفته لكل انواع السمك، وكيف لا، وهو ابن بحر يافا ؟! وبسببه، اكتشفت ان الذ مأكولات الارض واطيبها هو السمك بلا منازع !!
بدأ اليأس يعتريني من تجاهله لي. احترت واشتدت حيرتي، وبدأت اشعر بثقل الوقت. ضايقني وضعي، واقفا قبالته كالأبله مصعوقا من ظهوره … وهو ينظر الي ببرود او ربما لا ينظر الي ؟!
كانت جماعتنا تضم تشكيلة من الاصدقاء مختلفي الاتجاهات والميول. فالهندسي والأكاديمي والدهان والاديب المحترف وشاعر العامية والمغني وانا العب دلله.
وبالطبع صديقنا … سنديانينا.
كان الوقت يمر ثقيلا كئيبا وانا أقف في مواجهة نظراته عله يعرفني، كنت متحمسا لمعانقته، يشدني الشوق لجلساته وأحاديثه وموسيقاه.
يراني؟ …
لا يراني …؟
لست أدرى !!
كنت وما زال مصعوقا من رؤيته. ظهوره قلب كل مفاهيمي. هز روتين حياتي. فيقيني انه لن يعود تلاشى بلحظات، وايماني غير المفهوم الان، بأن من يذهب لا يعود، يتبدد !!
كان الموقف يزداد تشابكا بين المنطق السليم وحقيقة ما يجري. بكيناه يوم ودعناه، وأيقنا ان أجمل ايام العمر انتهت بوداعه، وتحولت جلساتنا الى واجب ممل بعده، كآبة وانتظار لفرج لا يأتي، ثم بدأنا بالتفرق والتشرذم وأبقى الواحد بالكاد على علاقة بشخص اخر … وتحولت صداقتنا الى رصيد غير مستعمل … نلتقي بحرارة لتبادل تحيات عابرة. ويمضي كل في سبيله. صحيح ان ذكراه بقيت في اذهاننا، في وجداننا، في حرارة اللقاء بيننا، ولكنها ذكرى لشيء جميل غادرنا. تلاشى من حياتنا. فقدناه. هل حقا فقدناه ؟! ذهب ولن يعود ؟! ووجهه المطبوع في ذهني؟ وقامته المعروفة والمشهورة بكرشه المدفوع للأمام ؟! ووقفته، نفس الوقفة التي يتجلى فيها الان … والكاس بيد والسيجارة ” الجيتان ” باليد الاخرى.
كان يقول مشيرا الى سيجارته:
– هذه حارة تماما كما لو انها غجرية بالفعل !! (جيتان تعني غجرية).
حتى سيجارته تؤكد انه هو نفسه. لماذا يصمت هذا الصمت في مواجهتي ؟! ويبدو غارقا بنفسه بذهول غير مفهوم ؟!
يراني ؟!
ربما يراني، ولكنه لا يحرك ساكنا.
ترى هل استبد به السكر؟ ربما يشرب منذ زمن ؟!
آه يا صاحبي القديم … لا بد من شيء غير عادي في الموضوع. انت نفسك ولست انت. وجهك البادئ بالترهل. ولكنه غريب بلا حيويتك. أهي الخمر ؟! ولكن السكر لم ينسك اصحابك مرة. كنا نحن عائلتك ودنياك … لا تطيب لك الحياة بدونا، ولا تطيب لنا الحياة بدنك.
اشرت له بيدي شاعرا بكابوس يأس وضيق، اردت ان اناديه .. ان أعلن عن نفسي بطريقة حاسمة، ولكنه لاه عني بكأسه وسيجارته، وببعض المكسرات المالحة امامه.
صامت. مدد من الصمت يحيطه. ربما يفكر. يحزنه ما يراه بعد هذه الغيبة الطويلة. بحث عن صحبه فلم يجد منهم احدا حوله. وهو الذي اعتاد ان لا يجلس بلا صاحب.
يبدو كئيبا شديد الكآبة، لدرجة تشغله كآبته عما حوله. شدة صمته وجموده تجعله يبدو كلوحة مؤطرة … رغم انه يتحرك. اللوحة الجيدة ايضا ملأي بالحيوية والحركة، ولكنه يتحرك بلا حيوية، يؤلمني ما به. يرفع كأسه لشفتيه. يقبل الكأس؟… يبلع بلعة … يأخذ نفسا عميقا من غجريته. ويطلق الدخان بتلذذ وبطء، ثم يلتقط بضع حبات من المكسرات ويلتهمها … نفس الرغبة بالأكل والتلذذ به. اما حيويته فمفقودة. لا اراها. لا المسها. يبدو غريبا بدونها …!! رغبته الجلية بالأكل والتلذذ به جعلتني ازداد انتباها له تيقنا منه. وازدادت رغبتي لإثارة انتباهه لي.
اعتراني حماس شديد وانا اتخيل نفسي أخبر الاصدقاء بالمفاجأة. مفاجأة ظهوره المذهلة. عودته مخالفا كل منطق.
وما يهمني المنطق امام الحقيقة المتجلية؟
سأرفع تلفونا لكل الاصحاب. افاجئهم وأبشرهم بعودة سنديانينا.
– الو … سهيل … لقد عاد … اليوم رأيته … اقسم أنى رأيته.
سيفاجأ اولا بصوتي ونبرتي. لن يفهم ما اعنيه والا ذهبت حلاوة المفاجأة. وتقريبا اتوقع جوابه:
– نبيل ماذا جرى لك ؟! منذ فترة طويلة لم ارك، وتتصل لتقول لي كلاما غير مفهوم ؟!
– حازم … حازم بلحمه ودمه. اليوم رأيته. التقيته فجأة. شيء لا يصدق. لا تسألني. اترك المنطق جانبا. اتكلم عن رؤية بأم العين. لا تصدق؟ أنا ايضا لا اصدق. نلتقي عنده مساء !!
واقفل السماعة، ليصعق بالخبر والمفاجأة. لن يصدق حتى حازم بعينية. تماما كما اراه امامي. ليهرش ذقنه مفكرا حائرا. ليتحرك عن مقعده باحثا عن صاحبنا. لينقل الخبر لكل الاحباب والمعارف …
– الو … فوزي ؟!
وكالعادة ترد زوجته …
– من يريده ؟!
– انت سكرتيرته … منذ متى لديه سكرتيرة …؟!
– نبيل ؟!
– نفسه .. يا خبيرة بالأصوات. أين فوزي ؟! سلامات يا اسمر يا عربيد، لماذا لا ترد على التلفون بنفسك … عندي خبر مفاجأة … اصمت واسمعني للأخر، اليوم التقيته صدفة. وجدته امامي. كان يشرب كاسا عند منصور !! … عرفت من ؟! … يدخن سيجارة جيتان … بتلذذ وكأنه بوصال مع غجرية حقيقية. لا تصدق ؟! انا رايته ولم اصدق. اسمع بلا مقاطعه … اترك المنطق برعاية زوجتك. هل عودك جاهز ؟! مساء نلتقي عنده !!
واقفل السماعة !! واتصل مع الاخرين:
– جميل ؟ … سلامات. سيمون؟ اين وصلت مع صاحبك النواب ؟!
وانشر المفاجأة عليهم. اجعلهم يطيرون من الفرح. عادت ايام زمان. الايام التي لا تنسى. ايام الفرح. والسمر حتى الفجر. لن تتبدد ليالينا امام التلفزيون ومقارعة الاولاد، عودته أجمل من الحلم.
هل حقا عاد ؟!
هل يعود من يغادرنا؟
كنت لا ازال اتحرك امامه محاولا لفت انتباهه. ينظر لجهتي ولأمر غير مفهوم لا يحرك ساكنا.
ربما لا يراني ؟!
يثيرني ببرودته غير المتوقعة؟ يربكني بتجاهله غير المفهوم.
أيجوز انه ليس هو ؟!
اكاد أفقد ثقتي بنفسي. ما يعتري هذا الرجل؟ هل عاد جسدا بلا روح ؟! فقد ذاكرته؟ فقد صلته بماضيه؟ نسي ما يربطه بالأصحاب؟ تلاشت ذاكرته؟ أمّحي الماضي من ذهنه ؟!
مذهلة الافكار التي تراودني عنه. شعرت ببعض الخوف من استمرار تدفقها وغرابتها. نفضتها من ذهني ثم ناديته كمن افاق من غفلته:
– حازم ..
ينظر الي فيقشعر جسدي وتنقبض نفسي انقباضا مؤلما. يتأملني بهدوء غريب وعميق كمن يحاول ان يتذكر شيئا … فاشعر بحرارة اشد من حرارة النار تصليني. يغرقني العرق والضيق. يعود الى كأسه بتلقائية دون ان تسبب رؤيته لي لأي رد فعل عنده. يواصل سحب الانفاس من ” الجيتان ” ورشف الخمر والتلذذ بالمكسرات المالحة. ينتقل جسدي من الحرارة الشديدة الى برودة كبرودة الماء المثلج.
يعذبني تجاهله لي. ماذا اقول للأصحاب؟ هل كتب على شملنا الا يتجمع ثانية ؟! ان يمتد الفراق ويغيب اللقاء ؟! تتلاشى السعادة وينتهي الفرح ؟! يتضاءل الامل ؟! يسود خريف ؟!
نشتهي الربيع وتفرع احلامنا من الامنيات؟ تزاحمت استفساراتي وتوالت تعجباتي. سعيت وراء مجهول يهبني الهدوء. ظهور غريب امامي. هل انا في زمن غير زمني ؟! في مكان غير مكاني ؟! في عالم غير عالمي ؟! اومأت اليه يائسا. واصل صمته ورشف الخمرة من كأسه. شعرت أنى أطلت الوقوف في الشارع ناسيا نفسي، غير منتبه لنظرات الناس المارين حولي. ربما يقولون اصابه الهوس فجأة ؟! لطف الله حل عليه ؟!
هل اتقدم وأخبره بحقيقتي؟ انشط ذكرياته؟ هل اكشف اللثام عن بعض ما يجمع بيننا؟ انزع الحجب عن ايامنا وليالينا؟ افتح ابواب الماضي … وأطلق ذاكرته من سبوتها ؟!
اردت ان انطلق نحوه واعانقه عنوة. ولكن برودة رد فعله غير المتوقعة على ندائي اوقفتني. اثقلت لساني واضاعت مني الكلام، وانزلت على الصمت.
مضت برهة ثقيلة وانا اتنقل بين الحر الشديد والبرودة القاسية. وفجأة اتقدت فكرة في ذهني فخف حملي.
تقدمت نحوه بوجل ما. تخلصت من اكياس الخضار والفواكه قرب المدخل ووقفت قبالته مستنفرا كل حماسي مجندا كل حواسي، وموقظا كل افكاري، متحضرا لمرافعتي. واجهته وقلت بهدوء وانبهاري باد متجل:
– حازم ؟… متى عدت ؟!
– اشتقت فجئت ؟!
اجاب ببرودة حيرتني. فأصررت:
– متى ؟!
– منذ اشتقت !!
لا يبدو عليه شوق لشيء سوى كأسه. واصل اتكاءه، غير أنى لمست اتساع حدقتيه وهو ينظر الي فاستبشرت خيرا، رغم بلادة اجاباته وعدم وضوحها وغموض احاسيسه.
– اشتقنا لك يا حازم .. الواقع ان مجيئك غير متوقع. نوع من المستحيل. شيء لا تفسير له. لو أيقنا أنك عائد لسعينا لا عادتك … الى لقائك.
يبتسم ابتسامة صغيرة لا تعبر عن فرح ولا عن يقظة. مع ذلك كانت كافية لإثارة حماسي وأملي ويقيني بقرب ذوبان الجليد بيننا. كأنه يخبرني بابتسامته عما في قلبه. وعلى نقيض ذلك، كنت كلما ازددت تأملا في حقائق ما يجري تفيض حيرتي أكثر.
هل حقا غادرنا ام أنى واهم ؟!
ربما انا من فقد ذاكرته وها هي تعود لي؟ ربما هو لا يتوقع عجيبة تعيد ذاكرتي ؟! ماذا يحدث لي ؟! وما هذا الذي يخطر على بالي ؟! واين تغيب الحقيقة ؟! ولماذا يتأملني بهذا الشكل ؟! ها هو يحرك شفتيه … ترى ماذا يريد ان يقول ؟!
– هل تعرفني ؟!
ما هذا السؤال ؟! بل ما هذه الورطة ؟! يفحصني ؟! سأل بهدوء وبكلام قاطع لا يتفوه به الا ذوو المعرفة القاطعة. شعرت برأسي ينقطع عن جذره، بأفكاري تعوم حائرة مترددة، وبخواطري تتلاشى.
اجبت وكنت كمن يتعربش خشبة نجاة في بحر لجوج:
– اعرفك ؟! وكيف لا اعرف حازم ؟! لم يكن لي صديق عزيز على نفسي مثلك !!
– انا لا اتذكرك !!
نفس اللهجة الواثقة القاطعة التي لا يتفوه بها الا ذوو المعرفة القاطعة … ومع ذلك لمست، او هذا ما اردت ان أشعر به، بانه لم يوصد الباب بعد. ومع ذلك آلمني جوابه.
اندفعت لذهني بلا ترتيب ذكريات متشابكة من الزمن الماضي. حاصرتني الذكريات ولم تترك لي منفذا. انكمشت وانخرست لحين غارقا بكابوس شديد.
اصفاد ثقيلة تقيد فكري وتحول دون تذكر ما كان بيننا.
اصررت على العودة لذاكرتي للتأكد من حقيقة افكاري وتوضيحها. كنت كمن يصعد جبلا بالغ الارتفاع وعلى كاهله حمل ثقيل … ما ان يبلغ بحمله قمة الجبل، حتى يهوى حمله للقاع … فيعود ليسحب حمله صاعدا مرة اخرى. انها مأساة سيزيف، تتكرر بأسلوب عصري، دون تدخل الالهة واحكامها الغريبة.
عدت افحص يقيني. افحص نفسي. افحص وضعي، ربما وهما عابرا يعتريني؟ خلل بالرؤية؟ خيال جامح يشق طريقه متجاوزا منطق الاشياء واصولها.
أتأمله وهو لا يحرك ساكنا. لا يضايقه وقوفي امامه وتحديقي به …
**********
كان يسافر للعمل معي يوميا، كنت امر عليه في بيته في الصباح الباكر، وكثيرا ما ايقظته ودخلت مطبخه اعد فنجاني قهوة منتظرا ان يرتدي ملابسه. نشرب قهوتنا ونسافر للعمل. كان المسافر الوحيد معي، وبسببه لم التزم بنقل عمال اخرين، محافظا على علاقات خاصة وتفاهم تام ولغة مشتركة جمعتنا، وصداقة مميزة شدتنا بحبالها فلم نفترق.
مساء وبعد انتهاء العمل … لا بد من شرب عدة زجاجات بيرة اثناء العودة، فالمسافة على حد تعبيره تستغرق ساعة سياقة كاملة مما يشكل تبذيرا للزمن لا بد من تغطيته بشيء يشرب او يؤكل، ودائما يؤكد بخطابيه يتقنها وبمرح ظاهر:
– كلما شربت اكثر يزداد ظمأي .. هل تعرف من هو اشعر الشعراء ؟! انه صاحبي ابو نواس. هو الوحيد الذي يفهمني كما فهمته، مع ان زمني غير زمنه. علماء اللغة والادب لن يفهموا تجليه وعليائه إذا لم يمارسوا الشرب ويدمنوا عليه. الشرب يا صاحبي هو زهرة الحياة، هو الفردوس. الم يعد سبحانه وتعالى الصالحين بأنهار من الخمر والعسل! فما البأس علينا إذا لم نصبر ؟! نحن هنا كفئران التجارب … شربنا وسعادتنا وانبساطنا هو النموذج والمثال الذي ينتظر الصالحين. فليهنأوا بما كتب لهم ولترتو اعينهم بما ينتظرهم. فلهم الانهار اما نحن فلنا بعض الزجاجات والمدللة …. هو الوهاب. فقط ابو النواس يفهمني … وانا افهمه. وداوني بالتي كانت هي الداء. والدواء من داء الخمر هي انهار الخمر، فهل يطولنا نصيب فيها ؟!
كنت أصل للبيت جائعا، وكثيرا ما دعوته للعشاء معي، او دعاني للعشاء عنده. وعلى اي حال لا بد من اللقاء بعد العشاء لتوديع يومنا ببضع كؤوس من الخمر. حتى تملكتني عادة الشرب اليومية. غير أنى لم أفرط بالشرب مثله. كنت أقف على الشاطئ بالا قدمي، وكان صاحبي يغوص في اعماق البحر ظمآنا لا يعرف الارتواء، جذلا سعيدا كالأطفال، ثم يطلق عقيرته بالغناء، او بما تيسر له من سور كرام. فيتجلى في صوته وابداعه !! فما باله لا يتذكرني ؟! ربما يتجاهلني ؟! ربما. ؟! ألف سبب وسبب ؟!
– لا تتذكرني حقا ؟! ألم نعمل سوية لمدة سنتين في مكان عمل واحد ؟! الم تسافر معي يوميا ؟! وامسياتنا وسهراتنا ؟! والليالي التي قضيناها متسامرين حتى الفجر، فربطنا ليلنا بنهارنا دون ان نعرف للتعب معنى وللارتواء طريقا ؟!
– صح صح .. الان اتذكر. لم اعرفك في البداية…!
قال خارجا من هدوئه، تاركا لابتسامته ان تشع أكثر.
تيقظت احاسيسي ونفضت عني الكآبة ودبت الدماء في عروقي من جديد. ومع هذا بقيت وجلا. فكلامه خال من الحرارة. كلمات تنطلق من جهاز تسجيل على شكل انسان. لا يبدو انه يعيرني اهتماما، او يلقاني بحرارة صداقة طويلة. تصرفاته تتناقض مع اندفاعه وحميته بلقاء الاصدقاء. ربما ليس هو ؟! كل الظواهر البارزة تؤكد انه هو. اتكون المشكلة في نفسي ؟! هل هو يسايرني ؟! تراه يشك بعقلي ؟! ام يجرب قوة اعصابي ويقيني ؟! ظهوره فاجأني. صعقني. ظهر مخترقا حدود المنطق. متجاوزا للأدراك العقلي. ولكني صاح ويقظ وافكاري مستقرة رغم ظهوره الغريب. لم أفقد قدرتي على التفكير بترو. لم تعم افكاري في بحار هوجاء. ولم تتخبط امام ظهوره المذهل، ولم تنحدر قدرتي على التمييز والملاحظة. انه حازم !! ما باله يحطم نسوتي بلقائه؟ وما هو الغريب فيما يحدث معي ؟!اليس ما يلم بي حالة غريبة تتناقض مع منطق الحياة ؟!
بدأت الحيرة تنتابني من جديد وبشدة أكبر. بدأت اشك جديا بما يجري معي. الى ذهني تتصاعد اسئلة متكررة تتقاذفني بين الكآبة والانفراج. بين فرح اللقاء وبرودة الاستقبال. اين تلاشت ايامنا المتوهجة بالسرور وليالينا المترحة بالنشوة ؟!
هل هو حلم يعتريني في صحوتي ؟! كيف وكل الامور واضحة جلية ؟! هذا انا، هذه اكياس الخضار، هذا شارع البنك، هنا مقهى منصور بوجوه زبائنه الذين لا يتغيرون، وهذا حازم بكرشه المندفعة للأمام وبوجهه الممتلئ. بقامته المربوعة. بأناقته في اللباس، وبالعطور التي تفوح منه. بخطيبته. بصوته. بسيجارته ” الجيتان “، فكيف لا اعرفه ؟! كيف وبيننا زمالة عمل، وصداقة شخصية عميقة لم يهزها الزمن تمتد على مساحة عقد كامل من السنين ؟! الم نكن نلتقي لمدة تزيد عن خمس عشرة ساعة يوميا بين العمل وجلسات السمر ؟!
مضت لحظة التقطت فيها انفاسي. طفوت الى اعلى عليين. ثبت يقيني وترسخ، ورأيت الصورة بكمالها العجيب، متجاوزة لأبسط قواعد المنطق.
ذكرته بأسماء الاصدقاء، وسألته ان كان يذكر ايامنا الحلوة. حاولت التأكد ان كان يدرك فعلا ما كان بيننا. فبدت حالي كممتحن لا يعرف أكثر مما يعرفه تلميذه. تذكر الجميع ونسيني وانا الاساس، فوثب على حزن عابر وحيرة شاملة، فصمت التقط انفاسي مزمعا على الخروج والذهاب في طريقي. غير انه ضحك وطلب لي كأسا، واشار لي بالجلوس على مقعد مرتفع قبالته. تأثرت من دعوته. همهم بكلمات لم افهمها، ثم اشار لأكياس الخضار، وسألني ان كان معي بعض الفاكهة؟ اسرعت واحضرت تفاحتين، وحبتي خوخ وبعض المشمش. فأبدى حماسا زائدا، وقال سعيدا واساريره تنفرج:
– التفاح ملك الفواكه !!
واضاف:
– لم آكل منذ زمن طويل … منذ غادرت.
حسبت فترة غيابه في ذهني وأجبت مذهولا:
– مستحيل … ثماني سنين بلا طعام ؟!
– وبلا فاكهة !!
حيرني كلامه فأثرت الصمت، متوقعا ان يكون قد حدث لعقل الرجل شيئا. ولكنه يبدو رزينا كما عهدته، هادئا كما عرفته، فما باله يروي لي قصصا لا تخطر على بال ؟!
سألته بنوع من الاستسلام امام ظاهرته الغريبة منذ البداية:
– وهل كنت تشرب الماء …؟!
لم يرد على سؤالي بقصد او بغير قصد، لا أدرى !!
الوقت الذي جمعنا ووهبنا السعادة هو الذي فرق بيننا واغرقنا بالحزن، وهو الذي يجمع بيننا اليوم بشكل لم أجد له تفسيرا معقولا حتى يؤول الزمن الى انتهاء.
رفع كأسه:
– بصحتك …
دعاني للشرب سعيدا
– بصحتك …
اجبت متوجسا من سعادته او من حقيقة ما انا فيه، مؤكدا لنفسي خلو ما يعتريني من الاحلام. وبقي غموض شديد يتحصن في ذهني، أعجز عن الولوج اليه وفهم محتواه، فقبلت بالأمر الواقع، وانا على يقين انه سرعان ما يعود الى طبيعته التي اعرفها. وقلت لنفسي: ” لعله اشتاق لكأس خمر فجاء يشربها ويعود من حيث اتى ؟! “
ساد صمت حار بيننا. وتسربت لأنفي روائح الريحان الذي ينمو بكثرة فوق القبور التي تقع مقابل مقهى منصور، حيت فاجأني لقاؤه. فاعتراني خوف وقلق شديدان، ولم أدر ما الدافع لهذا الربط بين الريحان والقبور. بحثت عن صورة او فكرة اهرب منها مما يعتري ذهني من افكار غريبة. استعصى الموقف على فاذا بالكرب يجتاحني اجتياحا. ما لي اخوض الطرق الوعرة معذبا نفسي ومرهقا فكري ؟! لأقبل بما هو واضح جلي، فلحظات السعادة قد لا تعود.
افرغت بعصبية نصف الخمر في جوفي، وتجلدت متحملا حدتها، فخف كربي ونشط فكري ولمعت بذهني صور عدة وذكريات متلاحقة. فسالت كمن افاق من غفلته:
– هل تذكر أمينة يا حازم ؟!
– آه … زوجتي !!
رغم مفاجأتي له بالسؤال الا ان جوابه جاء تلقائيا وبشكل عادي.
– ولكنكما لم تتزوجا ؟!!
– أمينة كانت دائما زوجتي .
يقينه هز ثقتي بنفسي وجعلني اتساءل بيني وبين نفسي: ” ما بال الانسان يتجاهل ويتعامى ويدعي ما لم يحصل. ويفضل الظلام على النور والغموض على الوضوح ؟! ” .
عدت اساله غير قادر على اخفاء استهجاني وحيرتي من المفارقات الغريبة التي تحدث معي:
– أمينة نفسها ؟… اليافوية ابنة التركي ؟!
– أجل زوجتي … دائما كانت زوجتي !!
اختلطت حواسي بشكل يصعب فصله، واحترت في معرفة حقيقة مشاعره وحقيقة نفسه.
ربما هو حقا انسان آخر يحمل نفس الصفات ونفس الشكل ونفس الميول ؟! كيف أتأكد من حقيقته ؟! ربما يهذي وقد عاد مصابا بالمس ؟! او تهيأ له اشياء غير واقعية ؟! يخلط بين ميوله ورغباته، وبين واقع الاشياء وتطور الاحداث ؟!
أين أنت من أمينة يا حازم ؟!
هل انت حازم حقا ؟! حازم المتجلي دوما ؟! الفطن ؟! المستقصي عن الحقائق من صميم الغموض ؟! الحذر في تقييماته ؟! المباغت في وضوح افكاره ؟! هل انت حازم حقا ؟!
الوجه وجهك رغم الشحوب البارز. القامة قامتك، والكرش المندفع للأمام كرشك. والصوت صوتك. نفس اسلوب التنفس واللهاث. دائما ينقصك شيء من الاكسجين. ربما يعتريه ذعر غير مفهوم ؟! هل حقا كانت نهاية لا بداية بعدها ؟! نصلٌ غاص للأعماق فقطع سبل الافكار والآمال والاحلام. فاقعى الأسد عاجزا عن الحركة، وتجمدت العاصفة فانتهت الرسالة وانتهى الانسان وتجلى العدم ؟!
حقا اقول ان نظراتك لا تعجبني. فيها كل شيء غير مفهوم، اخاف ان اقول غير بشري، نظرات انسان من عالم متجمد. ارتشفت نصف الخمرة المتبقية بالكأس عل نارها تحرق قهري من حقيقة ما يجري وغموض ما يعتريني وعذاب ما يعصف بي.
ماذا اقول للأصحاب ؟!
كيف أخبرهم بعودتك ؟!
اقول لهم عاد حازم الذي نحبه ولكنه مختلف عن حازم الذي نعرفه ؟! ام اقول عاد حازم الذي نعرفه ولكنه مختلف عن حازم الذي نحبه ؟!
لأول مرة اشعر بالندم من لقائي به. اخاف ان تتشوه صورته والذكريات التي احملها عنه. ليتني لم القاك.
هل اتجاهلك وامشي ؟!
همي الان ان اتخلص من شرب ما في الكأس لأغادر مهزوما مبهدلا. أشعر بالألم حتى الأعماق.
أقول لنفسي: ” هذا هو الفراق حقا “!!
كأني بمركب بلا شراع ولا دفة، يتأرجح مع الامواج، يعلو وينخفض بعنف. وتدفعه الامواج بلا اتجاه. ينشد من عليه النجاة، لكن لا قبطان يضبط سيره، ولا يابسة تلوح مبشرة بأمل الوصول للبر، ولا حمامة مع غصن زيتون !!
– اشرب !!
يحثني كعادته مما يثلج صدري بعض الشيء. ربما البعد المتواصل يجعله حذرا في الانطلاق على سجيته مع اصحابه القدامى. او يكون نام نوما طويلا يجعله كالمخبول، متراخي العاطفة والمشاعر، متجلد الحواس بعيدا عن التواصل، لا يعي ذهابه ولا ايابه، خالي الفكر، متلاشي الذهن، ماضيه راقد في نفسه، وحاضره خالي الملامح.
كانت أمينة خطيبته، يوم كان شابا يافعا، يقيم مع والديه في مدينته يافا، التي يذكرها دوما بحماس خاص، فارتبطت يافا بأسرار حبه وارتبط بيافا، فكمل الواحد الاخر. وكان نهار وكان مساء، وتكون زمن الوجد وامتد ليتصل مع البحر، يتسع به. يكبر بكبره. فتجلى برفقة حبيبته ومدينة حبيبته. وبحر حبيبته. فعاش في دهشة الحب المتكررة. حتى جاءت العاصفة الهوجاء فاقتلعت الناس وعصفت بهم دون حساب للارتباطات والعواطف والآمال والاحلام … فحل زمن السفر الدائم والشوق الهائم. وظل كل شيء يدور بلا استقرار. وجرد الناس من الآمال والأحلام والامنيات. وحل شقاء بلا شطآن وتشتتت الجذور !!
وانفصل الحبيب عن حبيبته. وانفصل الانسان عن ملاعب صباه. وتاه في عالم غريب. يحاول ان يجدد ما كان. فيرفضه المكان الغريب. يبحث عن تجديد ما انقطع فتصده حقائق عصية عن الفهم. تلاشى النور وانتشر التأوه … تلاشى الحب وانتشر القهر. تلاشى الانسان من الانسان. صارت الحياة قرينة الموت.
وكان صباح …
وكان خريف …
وكان شتاء …
وكان صيف …
وافتقد الربيع …
ومضى الزمن …!!
مضى بطيئا عسيرا مليئا بالقلق. وكان لسان حازم يقول:
– الفرج يا مالك الجنة. الفرج يا واهب الراحة وموزع الحب ومهندس الاماني. أنقذنا من هذا الطريق الغريب. خلصنا من هذه الحياة الاليمة. ما بالك تتجاهل وتعمى عن رؤية الظلم؟ هبنا شيئا من حقنا يا وهاب. اشفعوا لنا يا انبياءنا واولياءنا. اشفعوا لنا يا اهل الجنة الكرام. أنقذونا من الفراق العسير والضياع الاليم. اعطونا ضوء نشد السير نحوه. حلما نشق الدرب اليه. وهما نتعلق به.
بعد ضياع وتنقل وصل حازم ووالداه واخوته لمدينة الناصرة، فاستقروا فيها.
وغرق الناس بمآسيهم ومشاكلهم. كل يبحث عن جذوره، وما تبقى من أهله. أين اوصلتهم العاصفة. هل ما زالوا احياء. من مات منهم. من نجى. أين استقر بهم المقام. كيف يتدبرون. بمحاولة اولى لالتقاط الانفاس …
يومها لم اعرف حازما.
كنت طفلا وكان شابا يافعا.
يوم عرفته لم يكن قد تزوج أمينة.
ويوم غادرنا لم يكن قد تزوج أمينة.
ومن يومها لم يعد.
وأمينة ايضا أصبحت ذكرى.
ويافا التي شهدت توهج الحب بين القلبين الشابين لم تعد يافا التي تحتضن اهلها.
اصبحت غريبة. مغتصبة. لا تجد من يداوى جراح روحها.
فمتى تزوجها اذن ؟!
سألته وانا ادق كأسي بكأسه:
– بصحتك !.. متى تزوجت أمينة ؟!
– منذ التقيتها !!
لعله يبصر ما لا أبصر. حدقت بوجهه طويلا فاستسلم لنظراتي المتفحصة دون اعتراض، بل ودون أدني اهتمام.
سألته بشيء من العبث:
– وعندك اولاد منها ؟!
– لا ادري اسالها !!
ايقنت ان حالي كحال الذي يخوض غمرات جهاد ضعيف الامل. هل هو في سبات ؟! صاحي الجسد نائم العقل ؟! ربما انفصام شديد في شخصيته ؟! كنت انظر اليه بحواسي كلها شاعرا بلغزه يكبر ويتفرع، وبشجوني تترسب. انه ابعد عني أكثر مما ظننت. بحثت عن مدخل لذاكرته علني اوقظها من سباتها الممتد.
ما زلت محتارا من ظهوره واقول لنفسي ” ربما ظهر بلا ذاكرة “؟ فارفض الفكرة فورا. اشعر أنى عائم بأفكاري، غير متمكن من ضبطها. ربما انا الذي صرت نوعا جديدا ؟! تغيرت لدرجة لم اعد اعرف نفسي. ولم أعد أعرف اصحابي ؟!
كان قبالتي ينفخ دخان سجائره باستمتاع. يحيرني هدوؤه وصمته، ويبعث في قلبي توجسا غير مدرك !!
********
في سنوات السبعين تعرفت عليه. كنت في بداية العقد الثالث من عمري وكان في نهاية العقد الرابع.
جمعتنا صدفة عند حلاق. كان يشرب كأس خمر. انيق المظهر كعادته مرتب الهندام حلو الحديث.
بدا لي للوهلة الاولى مختارا او ثريا من اصحاب الاراضي والاملاك … وليس بحاجة لعمل من اجل معيشته. كل ما هنالك انه يتلذذ بكؤوس الخمر، وبالأحاديث الشيقة. أو ربما مخفيا اوجاع نفسه من فقدان حبيبته لا يجعل صحبه يدركون ما يراود فكره. ولا ما يجول بخاطره.
فوجئت انه يبحث عن عمل بالحدادة. سألته غير مصدق ما سمعته اذناي:
– انت حداد ؟!
فأكد لي ذلك. وصادق الحلاق على قوله. وها هو حديثه المهني ومعرفته المهنية كما يشرحها لي، لا غبار عليها. وتبدو معرفته النظرية والعملية واضحة، لا يلم بها الا عامل واسع الاطلاع وجيد الخبرة. كنت مديرا لجودة الانتاج في أحد المصانع الكبيرة في الجليل. رتبت له عملا في المصنع. فجمعتنا الزمالة اولا، ثم تلاقت الافكار والميول، فزالت حواجز التوجس بيننا وتعززت الثقة المتبادلة، فسحرني بسعة اطلاعه وثقافته الواسعة. وقدرته على الرواية. وتألمت بنفس الوقت لحالته الاجتماعية عازبا يقترب من الشيخوخة. يهرب من الأحاديث عن الزواج والابناء. فاحترمت رغبته وتوطدت صداقتنا مع الايام. فعرفته على اصدقائي، وعرفني على اصدقائه. فتكونت شلتنا التي استمرت نشطه تضج بالحياة لعقد كامل.
نظر الي فجأة كمن تذكر شيئا سها عنه. وسألني محتارا:
– اما يزال أخي حيا ؟!
وتذكرت اخاه هاو صيد السمك. بقامته النحيلة بسيارته ” الجيب ” القديمة والمشهورة. وبملابس الصيد الخاصة به. كان حازم يقول عن أخيه:
– انه اكثر من أخ .. انه بمثابة والدي !!
كانا يسكنان نفس المنزل. كلاهما غير متزوج. علمت فيما بعد أن للأخ الأكبر ابنة من زواج مختلط سابق لم يدم طويلا. كأن القدر حكم عليهما بالوحدة الابدية. كانت تسود بينهما علاقة تفاهم وطيدة رغم اختلاف الأمزجة. وكان الأخ الكبير دائم القلق من افراط حازم بالشرب. فيستنجد بنا لحث حازم على التخفيف. فيغرقنا البحر. فنعود اليه وبأذيالنا الفشل. فيقول متألما:
– انه اخوكم .. ان صار عليه شيء أنتم الخاسرون.
فنحاول مجددا ان نكر على بحر لا ينضب. وحالنا كحال الذي يفرغ نبعا بدلو، وبحرا بزنابيل بصل. فيصرخ بنا حازم بصوته الجهوري:
– يا معشر القوم … لا تبيعوا حبيبكم. تذكروا ” ابو النواس ” إذا احببتموني أنقذوني ببئر من كفركنا.
فنفرط معه بالشرب ناسين او متناسين مهمتنا.
– اجل مات … ذلك الرجل الطيب.
أجبته. فلم تتغير سحنته … وكأن الخبر لا يخصه !!
********
حثثته يوما على الزواج. كانت زلة لسان مني عن موضوع تعمدت ان لا اضايقه به. كنا عائدين من العمل. مزاجه رائق ومصاب بحالة سعادة فجائية. يغني ويؤذن بصوت مرتفع. وانا منطلق بالسيارة. أسرع وأبطئ حسب نغمة غنائه. قلت مستغلا فترة التقاطه لأنفاسه:
– امنيتي يا حازم ان اراك متزوجا !!
– ما احلى الأماني . عندي منها بضاعة كثيرة. من ايام يافا وانا اجمعها واجمعها واجمعها !! آه ما أثقلها !!
وضحك بصخب. غير أنى شعرت ان ضحكته تخفي كآبة نفسيه سوداء. فلمت نفسي على طرح الموضوع، وسارعت أقول:
– انا آسف اذا ضايقتك ؟!
ورفض أسفي وقال بحرقة:
– أفهم قلقك علي .. ولكني لن أخون أمينة !!
ولم أفهم ما يعني بأمينة. ومن تكون أمينة هذه التي لا يريد ان يخونها؟ لأول مرة أسمعه يذكر اسمها امامي. شعرت أنى فجرت آلاما قديمة يتجاهلها وتعذبه.
– أمينة ؟!
– حبيبتي منذ خلقت .. أحيا وأموت على دينها.
– تزوجها ؟!
– فاتني الميعاد .
– هي .. تحبك ؟!
– كنا احلى عاشقين .. بادلتني حبا بحب وجنونا بجنون … لم تسع يافا حبنا. ولا اتسع بحر يافا لعواطفنا …
فهمت انه يعني حكاية قديمة من ايام شبابه الباكر قبل ان تعصف بيافا الرياح. فقلت لنفسي: ” لعله يعيش صدمة من ايام شبابه. ربما تزوجت أمينة التي أحبها من غيره فصدم …؟ هل من المنطق ان تنتظره فتاة ثلاثة عقود ؟! ” .
سألت بوجل فاحصا كلماتي قبل أن أتفوه بها خوفا من جرحه:
– هل افهم ان أمينة تزوجت ؟!
– أبدا !!
– وماذا تنتظر ؟!
– انا نفسي لا اعرف .. أشعر أحيانا بالخوف من الظهور في حياتها بعد هذا الزمن الطويل. انا واثق انها لم تتزوج بسببي. انتظرتني طويلا. كدت أعود اليها لولا انه اعترتني لحظة ضعف. ليست لحظة ضعف … خفت أن أصدمها بلقائي. وضعها لم يكن يسمح. كانت محروقة. ليس شيئا جديا كما علمت فيما بعد. ولكني لم أظهر وهي في قمة رونقها. لم أظهر وهي تأمل برؤية فارس أحلامها. فكيف أجيئها وهي يائسة مشوهة. ؟!
بدأت ابني افكارا وتصورات عن الاحداث التي يرويها خطفا. كونت عدة افكار تصلح لصياغة قصصية. ثارت النار التي تعتريني كلما توهجت فكرة لصياغة قصصية امامي. ولكني زجرت رغبتي التي اعلم تماما ان لا سيطرة لي عليها. المأساوية التي يحاول حازم ان يطويها بضحكاته، كانت أقوى من كلماته، التي يلقيها وكأن ما يرويه لي، لم يعد يحتل كل حجزات حياته. وكل ذرة من تفكيره. انا امام اكتشاف غير عادي. هذه الفكرة المجنونة تجعلني مندفعا بلا ترو. ولكني لم اخرج بصورة واضحة من النتاتيف التي استطعت ان اجمعها في ذهني.
– انت تزيدني تعقيدا اذا كان يضايقك الموضوع فانا اسف واطوي الصفحة …
– ابدا ابدا .. يا للسعادة التي اشعر بها كلما مرت أمينة بفكري. هذه حكاية قد احكيها لك يوما.
وأنا هل أستطيع الصبر؟
اثار شجوني بسلبيته من موضوع الزواج. قلت سلبيته ولم اقل رفضه القاطع. وشتان بين الموقفين. هناك شيء يقيده، يمنعه من الاندفاع. لماذا لم يتزوجها قبل ان تحترق؟ او بعد ان احترقت؟ ولماذا احترقت وكيف ؟! وهل له دخل بموضوع حرقها؟ … أيكون بسبب حبها وانتظارها له ؟! وهو ؟! وتردده ؟! لمحت وحافظ على صمته بمضض بارز. كأن حاجزا في نفسه يشده بعيدا عن خوض التجربة. كانت حبيبته في يافا منذ كان شابا يافعا فما المانع من استمرار العلاقة وترسيخها بإطار مقبول ؟! وها هو اليوم يدعي ان أمينة زوجته ؟! ومن مثلي يعرف أن أمينة وحازم لم يجمهما الزواج ابدا؟
– واليوم … الم يحن الوقت للأقدام. أمينة ما زالت على حبك ؟؟
لفه صمت وهبوط في حماسه الذي كان يميزه في أحاديثه واثناء سفره معي، حتى كدت أنكره.
– أنت تعيدني الى أيام أحبها بكل جوارحي .. لا تؤاخذني على سرحاني. انا معك جسدا. ولكن روحي تطير في شوارع يافا. تركض على رمل البحر الذهبي. تعانق امينة. نخترق الأمواج متعانقين. أشعر بدفء شفتيها. أعانقها فتتملص مني ضاحكة. لا تؤاخذني على دموعي. هذه ليست دوعر حزن. بل هو الفرح الذي ينقلني الى أحلام غادرتني يوم غادرنا يافا .. لا لن أخون حلمي.
مسح دمعتين. وشعرت بالغباش على عيني. مسحت عيني بطرف يدي كي ابقي رؤيتي للطريق واضحة.
– ومع ذلك تواصل الهروب من أمينة ؟
– انت تضطرني لسرد الحكاية .. ربما هي الطريقة الوحيدة لتفهمني. ولم يسبق ان حكايتها الا لنفسي. كل ليلة لا أنام الا بعد ان اخدر ذهني. انا لا أنام منذ فقدت أمينة. منذ ابعدت بيننا العاصفة. انا اخدر ذهني. ولكني اعود الى وعيي من جديد. تمضي الأيام. وانا ما زلت شابا اركض على رمل يافا الذهبي. تمضي السنون وامينة يتأصل حبها في نفسي. ربما أخاف ان يعتريني من رؤيتها ما يفسد حلمي عنها. اريدها كما كانت في يافا. عروس البحر الساحرة والرائعة. هل تعود تلك الأيام؟ كيف تعود بعد ان ماتت يافا. بعد ان اغتصبت وشوهت؟ ربما حبيبتي هي التي اغتصبت، احيانا لا اميز بين حبي ليافا وحبي لأمينة. انا اتحدث عن مشاعر قوية تثير غضبي المكبوت. تفجرني من داخلي. ولكني بيني وبين نفسي اعترف بأني عاجز عن انقاذ حبيبتي من مغتصبيها. عاجز عن انقاذ امينة من الضياع … هل راودك مثل هذا الشعور؟ انت لم تغادر الناصرة. لا تعرف معنى فقدان الوطن. معنى فقدان الحبيبة. معنى فقدان الرغبة بالحياة.
– آسف .. لم أقصد ان اثير أحزانك.
قاطعته. ودافع مجنون في نفسي يحثني على استخراج المزيد من اعترافاته.
لم يلتفت لمقاطعتي. أخذ نفسا طويلا. وأخد جرعة من زجاجة البيرة الباردة. انتعش، وواصل حديثه:
– انا احبها وهي تحبني . انا واثق من حبها وانتظارها لي. اقول لك لم تتزوج بسببي. هذا الشعور يتملكني. ولكن المشكلة ليست هنا. انت تضطرني لسرد الحكاية. لم احكها لاحد. انت أقرب الأصدقاء لي. ربما يشعرني ذلك ببعض الراحة. لا أعلم. ستكون اول العارفين بحكايتي. بعد ان تسمعها قد تفهمني. انا اعرف ان بعض كلامي يبدو طلاسم … أو اضغاث أحلام. ولكنها الحقيقة يا نبيل. بلا اضافات. بلا تزويق. انت كاتب وتتصيد الحكايات. اعرف ذلك وأحسدك، ربما هي طريقة للتفكير بالحياة وفهم مشاكلها. قد تجد في حكايتي مادة خام. ولكني أحذرك. لا تضيف ما ليس في الاصل. لا تشوه حبي. لا تشوه أمينة.
كانت امينة جارتنا. والدها تركي الاصل كأمي، أمي ايضا من أصل تركي. مما جعل العلاقات العائلية تتوطد لحد الشعور باننا بيت واحد. في هذا الجو من العلاقات الحميمة وعيت شابا يافعا ممتلئا بحب جياش للحياة وللفرح.
تفتحت براعم شبابي الباكر على يقين ان أمينة لي. جزء مني. لم اتصور يوما، ومنذ وعيت شابا، ان حياتي ستخلو من أمينة. لم تكن أمينة مجرد صبية أعشقها، انما نمط حياة وانفتاح على العالم واكتمال الرجولة. وفوق ذلك سحرتني هذه الصبية الجميلة، ابنة الجيران الممشوقة القوام، الحلوة والساحرة، السمراء من لفح شمس البحر، عسلية العينين بشعرها الاسود المحرر دوما على ظهرها، لا تجمعه الا حينما تسبح ملاطمة الامواج بجرأة وخفة، فسحرتني بكمالها المتجلي وشدتني انوثتها المتفتحة وبشرتها المحروقة النحاسية من شمس البحر. وعيت عليها فجأة. انا احيانا لا افهم نفسي. كانت رفيقة طفولتي. لعبنا أولادا. وفجأة أرى أمامي انثى مشتهاة تدفع لنفسي أجمل الانفعالات. فصرت كمن يعوم في ذرى شاهقة من السعادة.
اصررت على الارتباط بها خوفا من التقول، ولرغبتي الشديدة بها، رغم صغر سني نسبيا، اذ كنت ما دون العشرين عاما. ولي اخ يكبرني.
رحب والدي برغبتي ولم يعترضا. وربما يكونان قد لاحظا شيئا علينا، فآثرا دفع المركب، كذلك رحب والداها ايضا بسعادة، ورأيا بذلك تمتينا للجيرة الطويلة الطيبة والعلاقات الممتازة الحميمة، فاكتمل سعدي وانتشر فرحي ولم يسعني جلدي.
اوصيت على علبة الخطبة عند نجار كما كان متبعا وقتها، ولا تزال علبة الخطبة لدي، هي الشيء الوحيد الذي حملته من بيتنا في يافا يوم اشتدت العاصفة. وعلى جانبيها اول حرفين من اسمينا باللاتينية.
اراني حازم علبة الخطوبة فيما بعد وكانت بداخلها خصلة شعر سوداء ملفوفة بكيس نايلون ذكر بشيء من الارتباك:
– من شعرها يوم كنا عاشقين صغيرين !!
*********
صعدت نظري فيه محاولا فهم ما يدور برأسه من افكار، وهل هذا الجمود الواضح يعني ان باله غير مشغول ؟! كان يشاربني صامتا مستسلما لنظراتي المتفحصة دون ان يثير اهتمامه أي شيء حوله.
كنت ارتعش بين برهة واخرى من اللا بشرية المتجلية بوجهه وتصرفاته. هذا الجمود التام وكأنه لوحة مؤطرة. لا ارتعاش ولا حرارة كما يبدو لي. لا أدرى. فيه شيء لا أستطيع الاقتراب منه. حتى رائحة الريحان الطيبة … بدأت تضايقني في موقفي غير المفهوم امامه.
يشرب دون ان يبدو لذلك إثر على وجهه. ترتفع الكأس وتنخفض ميكانيكيا وبحركة محسوبة مقدرة. يبتسم احيانا. احيانا يضحك دون ان يغير ذلك من نفسيته او من تقاسيمه. ضحكته تبدو مستأجرة. تمنيت لو أغمضت عيني وفتحتهما فأجد نفسي في مكان آخر بعيد عنه !!
لن اتصل بالأصدقاء ما دام الوضع بهذه الصورة الكئيبة كما ظهرت لي. مشاربه بالحالة التي ظهر بها معاناة قاسية. مع ذلك هناك اصرار في نفسي على التروي والتمهل. ما زالت آمل ان تتحقق عجيبة اخرى كعجيبة ظهوره تعيده الى نفسه تعيده الينا بكل حيويته. يتجمع شملنا من جديد، ونربط ما مضى من ايام. نجدد ما انقطع.
*********
سألته وكنت قد شعرت انه يتردد في متابعه حكايته:
– وكتبتم الكتاب ؟
– لم يحصل.. لم يتسن لي خطبة أمينة رسميا.
قالها بحزن شديد وتأوه طويل جعلني اشعر بما يؤلمه.
فقلت الوم نفسي:
– انا اسف من تطفلي يا حازم . اود لو أستطيع ان احقق لك حلم شبابك.
– بعد ان عجز الاسد ؟!
– الاسد يبقى اسدا !!
– احيانا اظن ان ما مضى لا يتعدى بضع سنين .. ولكن عندما اعود لعلبة الخطبة واقرأ السنة واحسب ما مضى بذهني اصاب بذهول. لا اصدق ان السنوات تمضي بهذه السرعة والسهولة. يخيل لي أنى لم اعد أصلح للزواج.
– عاجز نصفي ؟!
فهمني وقال ضاحكا:
– ابدا ابدا .. لا أعنى القدرة. انما لا ارى معنى لحياتي. أن أبدأ وأنا في مثل عمري ببناء اسرة واولاد، هذه مسالة تحتاج الى اندفاع ومغامرة. اشعر أنى لم اعد قادرا عليهما. انا انشد الراحة… كأس خمر مع الاصحاب. ما يساعدني على تمضية العمر…
– والمرأة كأنثى .. الست حاجة ضرورية للرجل كرجل ؟!!
– تعني الافتراس . انت تسميه الحب. أنتم جيل اليوم لا تدرون ما هو الحب. التنقل من سرير الى اخر تسمونه حبا. انا اسميه افتراسا. انا مفترس ايضا. ولكنه ليس حبا. اتركوا للحب معناه السامي، معناه الخاص، رباطه الخاص، جنونه الخاص.
– بالنسبة لي كله حب … حب عابر، حب متنقل، وهناك حب دائم.
تأملني رافضا ما اقول. أفرغ غضبه من اقوالي بكز اسنانه ببعض وقال بهدوء:
– طز في هكذا حب !!
بعد برهة صمت ابتسم بصفراوية وقال كمن يتابع موضوعا لم يفه حقه:
– اي التي تدفع لها تعطيك حبا مقابل نقودك ؟ كله حب ؟ تلك تعطيك بضاعة وليس حبا. الحب ليس بضاعة. الحب لا يشتري ولا يباع !!
اثرت الصمت متفهما لنفسيته، مكتشفا أنى تفوهت وبشكل غير مباشر بكلمات تجرحه حين تحط من قيمة الحب.
قلت محاولا اخراجه من الموضوع:
– اذن انت ذهبت بطريق وامينة بطريق اخر ؟!
– ليس تماما. انا لم اختر طريقي، وامينة لم تختر طريقها. القدر ابعدنا عن بعض. انا لا أؤمن بالقدرية. العاصفة الهوجاء كانت على الابواب. سبقت رغباتنا وأحلامنا وآمالنا وأفراحنا فتشردنا. تبعثرنا. وأضعنا صلتنا ببعض. ولا زلت حتى اليوم اتأمل علبة الخطبة وأفكر بالكارثة التي لم تتمهل. أفكر بأمينة وبأيام امينة التي لا تنسى، وأفكر بالحب القديم الباقي الذي يتجدد يوميا مع اطلالة كل شمس.
هدمت حارتنا. زرتها بعد سنوات وشعرت نفسي غريبا في مدينتي. هدمت تماما وتهدمت مدينتنا. تهدمت عائلاتها إذا صح هذا التعبير. ضاعت وفقدت ذاكرتها. حين زرتها هربت من منظر الخراب المنتشر. صدمت. لم اعرف احدا من السكان. ولم أدر ما العمل. رأيت طفولتي تصلب. شراييني تقطع. لم اعرف الناس ولم يعرفني الناس. ناجيت احلامي. راية انهيار عالمي وتلاشى حبي الجميل … رأيت نهاية حلم لا يكتمل الانسان بدونه. ولا تسمو الحياة الا به …
بعد ان استقر بنا الحال في الناصرة، بدأت البحث عن أمينة وأهلها. سالت الكثيرين من عرب يافا الباقين. الصدمة سحقتهم. كانوا اشبه بالدمى الشبيهة بالإنسان. سألت في تجمعات اللاجئين داخل وطنهم. أرسلت تحيات بالراديو. ودعوة للاتصال معنا على عنواننا الجديد. انتظرت. تجلدت. صبرت. عانيت طويلا حتى يئست من الوصول لنتيجة. وايقنت أنى فقدت أمينة للأبد. ولكني لن اخون حبها !!
وها هي الايام تسير. الزمن لا ينتظر احدا.
كنت اقود سيارتي بسرعة نوعا ما حين صمت متأوها ولافتا انتباهي قرب احدى محطات الوقود:
– ادخل للمحطة نأخذ علبتي بيرة من المطعم .
حسبت ان حكايته انتهت. نزل من السيارة يشتري علبتي بيرة، فغرقت لبرهة في تأملاتي محاولا الربط بين ذكرياته وآماله الضائعة، وواقعه اليوم. لأول مرة منذ وعيت اتحسر على الماضي كما تحسرت اليوم، بعد استماعي لحديث حازم. كنت أثق ان ما يجيء من أيام، لن يكون أسوأ من الايام الغابرة. الأمل للأمام. الآن أشعر ان خسارتنا أكبر من ان يعوضها الزمن.
حازم فقد حبيبته وفقد مدينته وفقد وطنه. وانا ولدت بلا وطن … والحب بالنسبة لي متعة عابرة تهبني اياها انثى. أشعر أنى غريب في بلدي. أنا الآن أفهم أشياء كثيرة من زاوية لم أفكر بها سابقا.
ألا يكتمل الحب الا بوطن ؟!
وما هي علاقة الانثى بالوطن ؟!
ولماذا لا افهم الحب كما يفهمه حازم ؟!
كم هي شاسعة المسافة بين افكاره وافكاري. لا ارفض موقفه، ولكني لا أستطيع الاندماج معه، او الشعور بما يشعر به. ربما يكون تمسكه بحبه نوعا من التمسك بمدينته، بملاعب طفولته .. بربيع حبه. بأمنيته وأمينته. ببحره. برماله. بسمائه. بشمسه. بقمرة. بنجومه … بوطنه !!
سألت نفسي:
– ايكون هذا ما يجعل حازم مثاليا في اخلاصه لحبيبته المفقودة ؟! ام هو طبع تربى عليه ؟!
انه صادق ايضا في اخلاصه لأصدقائه. صادق مع الناس. ودود للغاية. لا اذكر أنى سمعته يوجه قولا حادا لاحد. يحيرني بصدقه واخلاصه. ولكني لا استوعب سببا وراء تصرفاته التي تجعله يخسر شبابه. يخسر بها كل مستقبله.
هل زواجه وبناؤه لبيته الخاص يعني خيانة حبيبته التي ضاعت مع ضياع الوطن؟
هل هي خيانة لأمينة؟ وخيانة لمدينته ووطنه ؟!
لا شك لدي بالرابطة العضوية بين حبه لأنثى اسمها أمينة، وارتباط هذا الحب بدائرة اسمها يافا والوطن.
اعترف أنى عاجز عن اختراق هذا الاشكال. المؤكد ان الموضوع يختلف بوعيه عما هو بوعي شاب مثلي، لا يعرف عن ضياع شعبه الا من مما يسمع ويقرأ. وغني عن القول ان حازم بضميره، وبأعماق لا وعيه، بدمه، بشرايينه، تتشابك الامور لتكمل بعضها البعض .. بصورة عصي عن ادراكي العاطفي. ربما لو فقد أمينه دون ان يفقد يافا ووطنه لخرج من أزمته ووجد حبا آخر.
قلت لنفسي:
– لا تهب السعادة نفسها للنهاية حتى لا تفقد معناها . فالحزن كما يبدو شرط للسعادة. فلا لذة بلا الم، ولا سعادة بلا حزن، ولا حب بلا فراق. هل كان عليك يا صاحبي ان تعبر كل هذا الصبر؟ ان تعكف على الاماني القديمة الضائعة وتتخلى عن الاحلام ؟! وآية حياة هذه الخالية من الاحلام والامنيات ؟!
عاد للسيارة بعلبتي بيرة. جلس مظهرا مرحه .. ولكني لم أستطيع الا ان ارى مأساته.
نظرت اليه بشيء من الحيرة. لا يبدو كمن فقد حبيبة علق كل اماله واحلامه عليها. لا يبدو كمن أضاع ملاعب صباه، لا يبدو كمقيم في الرحيل الدائم بلا استقرار، وبلا لحظة راحة. انه يتحدث بهدوء وباعتيادية، وأحيانا بابتسامة. سعيدا من ذكرياته ؟! حتى تلهفه لمعرفة مصير أمينة لا يلاحظ عليه.
قلت لنفسي:
– الذكريات علامة لمن في صدره قلب وفي ذاته امل . القلب تحددت حياته بمفاهيم علمية، اما الامل فما الذي يحدده؟ واي مفهوم يحكمه؟ هل هناك حياة بلا امل؟ ام ان الذكرى تتقمص كل ما يحويه الامل من سعادة وفرح ؟!
وعدت انطلق باتجاه الناصرة، محاولا تحطيم الصمت الذي ساد بيننا بغمغمة كلمات اغنية ما غير واضحة حتى لي نفسي.
قدم لي علبة بيرة آمرا كعادته:
– اشرب !! إذا صيرني الزمن ملكا ستكون سائقي الخاص!
– انا كذلك من دون ان تصير ملكا !
ضحكنا وشربنا وانساني الغم الذي أدخلني فيه بحكايته. انزاح الصمت المربك. أخذ نفسا طويلا من سيجارة اشعلها، واستمر يروي وكأنه يواصل حديثا لم ينقطع:
– في اواسط سنوات الستين علمت من بعض عمال الناصرة العاملين في بيارات الرملة ان رجلا يحمل نفس اسم عائلة امينة يشتغل معهم وهو من اصل تركي على الاغلب ، ويقيم هو وعائلته في ” الجيتو ” العربي في مدينة الرملة . وكانت اول مرة اسمع تعبير الجيتو بوصف احياء العرب .. ولكن بعد يافا التي ضاعت، لم اعد اشعر الا ببعض الألم.
واضاف بعد ان تأوه .. وأخذ نفسا طويلا:
– هزني الخبر عن التركي ..اعادني الى حلمي القديم .. السعادة الحقيقية نبضت في صدري مرة اخرى. الحروف تراقصت على لساني. ارتعش قلبي بقوة وتملكني بكاء شديد !!
بدا التأثر واضحا على وجهه كأنه يمثل دورا حفظه واتقنه. وحتى انا البعيد عن مشاعره اشعرني بتأثره الواضح بروعة الخبر الذي بلغه.
قلت لنفسي:
– حقا ان الفرح الكبير في اقصى درجاته يجعلك لا تعرف الابتسام انما البكاء من شدة الفرح .
وتابع يقول:
– تحضرت للسفر الى الرملة للتيقن بنفسي من وجود حبيبة الصبا وزهرة العمر . عادت يافا الى مخيلتي. كنت أغفو وانا اسمع هدير الموج وبشيشة، فاصحو مزمعا بكل عقلي للنظر من شباك نافذة غرفتي في الناصرة نحو البحر، فيصدني منطقي، فأعاود النوم، فيعود بشيش الموج لاذني. لو كنت موسيقيا لكتبت سيمفونية عن بشيش الموج وضجيج البحر. كلما ارتسمت ملامح امينة في مخيلتي ترتسم يافا وبحرها الازرق الممتد. لم ار بحر يافا منذ تلك الايام. حتى عندما زرتها تلك الزيارة اليتيمة، تجاهلت النظر للبحر. ربما فقدت قدرتي على احتمال الالم. في زمن واحد فقدت امينتي وبحري ومدينتي وبيتي. وها انا يتجدد أملى بلقاء أمينة، فيطفو البحر الى وعيي. ترتسم الحارات والمقاهي والشوارع الممتدة الرحبة. أعرف انها اصبحت ركاما، ولكني اراها عامرة بناسها، ويمتلئ ذهني بوجوه الاصحاب والاهل وحكايا السهرات وقصص البحارة التي لا تصدق، والمثيرة للخيال الجامح.
أرى أمينة بانطلاقة الامواج وتحررها على الشاطئ. أرى أمينة تسابق الموج نحو الشاطئ بمهارة وتصميم فتحويها موجة بحب، وتدفعها للشاطىء بقوة. كيف أنسى البحر وأمواجه التي كانت تعانق امينة بأمومة وحب؟ تغسل مياهه جسدها البض. يرطب شعرها الاسود الطويل. يساعد الشمس على اعطاء جسدها لونه النحاسي الجذاب. البحر أمينة. يافا أمينة. الشوارع أمينة. الذكريات أمينة. الحكايات أمينة. الهواء والشمس والقمر والنجوم. كلها تحكي لي عن أمينة. فكيف أنسى حبي ؟!
*******
اعادني من الذكريات وهو يرفع الكأس الى شفتيه داعيا اياي للشرب. ملامحه لا تعبر عن مشاعر خاصة، بل من المستحيل ان يكون وجه كهذا بلا مشاعر، وجها لإنسان طبيعي ؟!
– اذن مات اخي ؟!!
فاجأني بعودته للموضوع فأكدت.
– الله يرحمه..
– لم يتصل معي قبل موته . لم يخبرني بشيء. اعتقدت انه حدث له مكروه. كان عليه ان يخبرني بأحواله. انتظرته طويلا !!
احترت مستعصيا عن الفهم. كلامه يخيفني، كأني اسير في نفق مظلم مقطوع عن جذوري. لا أدري مخرجا للنفق. أبحث عن المنطق في رحم الغيب. أنشد بداية الفهم ونهاية المفارقات. بحثت عن جسارتي لوضع النقاط على الحروف. أعجزني ما انا فيه من ارباك ومباغتة، بدءا بظهوره المفاجأة وغير المفسر، وانتهاء بحديثه وشكله الغريب والبارد .. ووجدت ذكرياتي عنه تشدني بحبالها الحريرية …
*******
كنا ننطلق باتجاه الناصرة وكان يتابع روايته:
– قبل سفري للرملة بلغ مسمعي من نفس عمال الناصرة ان زوجة التركي توفيت . صدمت وغاب عني التفاؤل وتوجست من طالعي.
ترددت بالذهاب للتعزية. قلت لنفسي إذا ذهبت للتعزية فربما يطولني لوم لاختفائي عنهم كل هذه الفترة الطويلة. وهل وصلت لبيتهم لأقدم واجب التعازي فقط؟ هل ستستقبلني أمينة كشخص يقوم بواجب لجيران ابعدت الأيام بينهم .. وهل ستصدق أنى ابحث عنها منذ تلك الأيام التي سحقت احلامنا ومدينتنا؟
لا قدرة لي على لوم الحبيب، ولن تصدق أنى لم اعرف اخبارهم الا قبل ايام فقط. فآثرت السكون والانتظار. انا اعرف ان حجتي ستبدو تافهة، ربما يكون بعض التردد والتوجس داهماني فأيقنت أنى امام مرتقى صعب. لا اريد ان أبدو أمامها كالمراهق المتعجل. كنت متحمسا وخائفا. نقائضي تتصارع بين الاقدام والتمهل. أعرف ما اريد وأخاف ان اصدم. ربما الجيل لعب دوره. انا لم اعد ذلك المراهق الشاب الذي لا يوقفه شيء عن اندفاعه. اليوم لم يتبق لي من الشباب الا اقله. ووحدتي الطويلة لها أثرها وقيودها. هل أستطيع ان اكون زوجا كأولئك الشباب الصغار؟ صحيح ان امينة ليست صغيرة ايضا، ولكنها تنتظر ما تسمعه وما تتوقعه كل فتاة. ربما لو كانت مطلقة او ارملة لاختلف الامر. الواضح لي أني لم اعد حازم الشاب ابن يافا، ابن البحر المندفع بلا تردد كالأمواج، انا ابن الضياع، فقدت حبيبتي. وفقدت بيتي وفقدت مدينتي وفقدت وطني. أعيش مع شعب مكلوم يضمد جراحه، يبني ذاته من جديد. ولكن الجراح باقية ما بقي السبب. الالم باق ما بقي المؤلم. والدم ينزف ما بقي السكين بيد آثم. اما الخوف فلا أدرى ان كان له دور في تكويني الجديد. ربما في البداية تجسم الخوف على فقدان ما تبقى بالنسبة لي. لم يتبق لي الا ذاتي. نفسي كما خلقها ربها. احيانا لا افهم حبي للحياة، هذه الملعونة التي تنكرت لي !! ولا افهم بحثي عن السعادة العابرة. ربما هي طبيعة الانسان. يجدد نفسه وآماله. يبني أحلامه وعالمه من جديد، بما تبقى وبما لم يتبق .. ويواصل الخلق والابداع والارتقاء فوق مآسيه وجراحه، ولكنه لن يغفر ولن ينسى، وسيورث ابناءه ذاكرته بكل حدتها، بكل آلامها، بكل احلامها. هل تدري؟! قد تكون الاحلام هي الدواء لداء الحياة، كما ان انهار الخمر هي الدواء لزجاجات الخمرات!!
دائما يدمج السخرية بالجد. ربما نوع من الهرب من الالم المتجسم بالواقع المرير الذي نحياه. او ان طيبته تفرض عليه هذا الاسلوب حتى يخفف الحزن والأسى عند الاخرين. كأن لسان حاله يقول: ” لا تقلقوا لا تحزنوا الانسان اقوى من المصائب. الابتسامة تهزم جحافل الغضب. اصبروا وتمهلوا. لكل شيء اوان. الضحكة ضرورية للحفاظ على النفس البشرية. ما لا يتحمله الصخر والحديد الصلب يتحمله الانسان ويعبره!”.
********
قال لي وهو يرفع كأسه الى شفتيه:
– رائحة الريحان تملأ حتى كأسي .
جفلت وانا أرد عليه:
– ربما بسبب قربنا من المقبرة .
لم يعر جوابي اي اهتمام. ما ذكره عن الريحان اثار توجسي وعدم يقيني مما يتراءى لي. الريحان جميل الرائحة .. ولكن نموه فوق القبور، وارتباطه بعالم الموت والجمود الابدي اثار تقززي وتوجسي، وإذا ما اكملت الدائرة بظهور حازم الغريب، ومفارقات ما جرى ويجري معي من لحظة لقائه، يزداد الغموض ويتسع وينتشر القلق …
اغرقت ما بنفسي بجرعة خمر كبيرة …
*******
أفرغ حازم علبة البيرة في جوفة بنهم واستمتاع، ثم قذفها من نافذة السيارة المنطلقة رغم معارضتي الشديدة. وواجهني ساخرا:
– قذفونا من حياتنا من بلادنا من خبزنا من اهلنا ، وانت تخاف من قذف علبة فارغة ؟!
أدركت ان قوله جاء للتغطية على تصرف عفوي ابتسمت وقلت:
– هم يرتكبون الموبقات وعلبة البيرة تدفع الثمن ؟!!
لم يرد. كان غارقا بذكرياته يبحث عن جملة يواصل بها ما انقطع:
– قبل سفري للقاء امينة اعترتني فكرة اخرى : ماذا تكون حالها ؟ ربما تكون متزوجة ؟ هل يعقل ان لا تتزوج فتاة بمثل ملاحتها ؟ هل تصمد امام اغراءات الحياة وضغوطات الناس والاهل ؟ او تكون قد اخلصت مثلي لحب بلا امل ؟ ولحلم بلا اطار ؟
قررت تأجيل سفري. قلت لك ان نقائضي احتدت. احترت في واجبي وغاب عني اليقين.
ربما يكون ترددي بسبب خوفي من نهاية تعيسة لحلم شبابي وامل حياتي الوحيد المتبقي.
خفت ان تنتهي امنياتي الطويلة فاقبض على الريح بعد هذا الانتظار والصبر الطويلين. انا لست شابا يافعا صغير السن يفشل في تجربة فيدخل اخرى.
انا لا اتحمل الفشل !!
انا لا أقدر على الهزيمة بعد هذا العمر والامل الممتد المرهق.
أفضل ان أبقي نائما على حلم جميل.
البعد والتمني ولا اللقاء والفراق !!!
ربما هذه هي طبيعة الانسان، يتجاهل ويعمى خوفا من المواجهة.
انا لم أخف من المواجهة.
خفت من الفشل بعد هذا الانتظار الممتد. ان تتبعثر الآمال النضرة وتتيبس الأمنيات. أن تذبل الاحلام وتفقد معناها. أن تفقد الحياة رونقها وجاذبيتها. الحياة حلوة رغم كل المآسي والاحزان. ولكن هل تبقى الحياة حلوة بلا امنية بعد ان اهتديت اليها؟ بلا حلم؟ بلا امل؟ هل تبقى الحياة حلوة بلا أمينة؟
وضعت تعجلي جانبا وقلت لنفسي: ” خطوة خطوة يتلاشى البعد واحوي عبق حياتي الاول .. تلفني ظلالها .. وتلفها ظلالي، ونعيش ما تبقى من عمرنا سوية “.
كلفت أحد اصدقائي العمال مهمة الاستفسار بشكل غير مباشر من والد امينة عن وضع ابنته أمينة.
عشت منتظرا الاخبار، قلقا متوجسا احيانا، وغاضبا بلا سبب، ومنرفزا احيانا اخرى.
لوهلة اقول لنفسي:” تلك الايام ولت بلا رجعة، وما كان لن يعود، فأنسى أمينة وابدا حياتك من جديد “. فيرد دافع قوي منطلق من آهاتي واحلامي: ” ابدا يا حازم. الصبر مفتاح الاماني، ولكل شيء اوان، والقلوب عند بعضها “.
اتخيل جسدها البض النحاسي بين ذراعي والامواج تلطمنا، تبرد حرارة اجسادنا. وصدرها مستكين فوق صدري. شعرها متناثر على وجهي. تنعفه الريح رغم رطوبته فاخطف قبلة من شفتيها. اكاد اشعر بطعم قبلتها الان. بحرارة عناقها. انا في كامل وعيي، ولكن حبي لها واحساسي لملامسة جسدها وعناقها متجذر في نفسي. متسلط على وعيي. كثيرا ما فتحت عيني وانا واهم أني غاف بين ذراعيها، رأسي مستكين كطفل فوق صدرها، بين نهديها. آخذ رحيق الحياة من عنقها، من انحدار الصدر المثير. لم اتمتع بمعانقة امرأة وتقبيلها منذ فقدت أمينة. لم أشعر للعناق لذة ولا للقبلة معنى. كانت علاقاتي نوعا من تفريغ السموم. أحيانا أكره نفسي لأني أخونها. أتعذب فأغرق بالشرب. وكلما شربت أكثر كلما تجلت لي أمينة وكبر احساسي بها. كانت لا تغيب عن احلامي ابدا. دائما معي في نومي. انها زوجتي حقيقة. ولكن بالحلم. فهل تنهزم احلامي ؟!
بدأت أتوجس من الخبر المنتظر. انتظار الخبر عن أمينة مزقني. القلق والتناقض والحيرة سيطروا على نفسي. ويوم رأيت العامل الذي كلفته بالمهمة مقبلا لزيارتي كدت اغلق الباب على نفسي وارفض دخوله. ولكني عجزت عن التصرف. لم أكن أقف بقدمي على الارض، انما على بساط هلامي يرتفع وينخفض، فارتفع وانخفض واطرافي متثلجة. أكاد لا أشعر بها. اما حالتي النفسية فمتقلبة. لا اعرف كيف اصفها. ربما نوع من الموت. نوع من الفقدان الكلي للحواس. من عدم القدرة على الادراك والتفكير. شطط تام !!
هل تعرف ماذا نقل لي ذلك العامل ؟!
قال انه جر والدها للحديث عن بيته وعائلته. قال والدها ان ما يعذبه ابنة له، مجنونة ستقضي عليه بعنادها ورفضها الزواج، رغم كثرة المتقدمين … ابنته ترفض كل من يتقدم اليها. حيرته في امرها. فهو شيخ يوغل بالكبر. ويخاف من الايام ان تغدر بابنته، فيغادر الدنيا وهي عانس. فتضيع وتتعذب. انه يضغط عليها لتقبل الزواج فتهدد بإيذاء نفسها. حتى والدتها ماتت غما من عناد أمينة. ماتت وفي قلبها حسرة على ابنتها، ووصية لزوجها ان لا يتركها على حالها ابدا. انه يخاف من الايام وكلام الناس. راحة الوالد بزواج بناته. لو كانت ابنا لما اعاد عليها السؤال.
هدأت اعصابي ونفسي وغرقت براحة وفرح شاعرا ان أمينة عند اسمها.
صرت واثقا انها صانت حبنا كما صنته أنا. ولكني لم اصنه. !
هل تعتبر تصرفاتي خيانة ؟! وكيف أقبل على نفسي ما لا أقبله عليها ؟!
ولكن هذه مشكلة جانبية ذاتية عذبتني لفترة وعبرتها. سألت نفسي:” ترى هل تحبني أمينة حقا ؟! لا يكفي ما اشعر به. ربما مشاعري نوع من الامنيات. هل رفضت خطابها بسبب استمرار واخلاصها لي، انا الحبيب الغائب. بسبب بقاء حبها لي ؟! اخلاص متفان لا يعترف بالهزيمة ؟! هل هي نسخة ثانية مني ؟! تأمل ان اجيئها فارسا على فرس اصيلة؟ آخذها وانطلق للأفق للسعادة للفرح للحياة ؟!”
انا أحب أمينة وقلبي مليء بالحب والامل ولا من مزيد.
هذا ما لا حاجة الى تكراره وتأكيده. غير أنى بقيت متوجسا من حقيقة موقفها مني بعد هذا الزمن الطويل ؟! قلت لنفسي: ” لعل البدايات تلتقي بالنهايات، ونعبر الحزن الى بقايا السعادة. لقد أبحر بنا العمر في بحر الزمن وحل عهد الملتقى والوصال، وأملى الوحيد ألا يكون رفضها للعرسان حالة مطلقة تشملني أيضا. عندها لن اقبض حتى على الريح ويطيب الموت.
في تلك الفترة توفي والدي وأجلت مرة أخرى حلمي بلقاء أمينة. وبقيت انا وأخي لوحدنا.
كرهت القدر الذي يبعد لحظات اللقاء بيننا. وبدأت أومن بالمكتوب. بالخرافات. ولكني نفضت فكري من كل الشوائب. انا متفائل دوما حتى في أحلك اللحظات. ولم يغب عني تفاؤلي رغم القهر الذي وقع من نصيبي.
تجدد الامل جعلني اشعر بالضرورة الماسة لامرأة أعطيها من عواطفي سريرا، ومن حبي راحة تظللها كطفلة، وتعطيني رحيقا بشريا فاشعر بإنسانيتي، ونتجلى حبا وصبابة. وسوس لي فؤادي، وحلقت بي تخيلاتي. بدأت أفكر بأمينة كامرأة وأم وربة بيت وحبيبة. القى همومي بين يديها. امتلأت جوانحي بالسعادة المتخيلة. فأيقنت ان الواقع أجمل والحقائق أروع وأبلغ.
ومضت على حالي عدة أشهر. ربما سنة وانا متردد وجل. أكر وأدبر بلا قرار. كنت متوجسا من فرحي البالغ. جافلا من عاطفتي المتقدة. متخوفا من العاصفة المندفعة من اعماقي.
وفجأة وبلا سابق تفكير او تخطيط، استيقظت أحد الأيام وأنا مقرر ان أحمل ترددي ورهبتي وفرحي وأملي واواجه مصيري. فأما الموت واما الحياة.
ركبت الباص الى تل ابيب، ثم أخذت باصا من تل ابيب الى الرملة.
وصلت ” للجيتو ” العربي بدون صعوبة. فالاسم معروف لليهود كما هو معروف للعرب، وبقيت حيرتني من هذه التسمية، خاصة عندما يستعملها اليهود، ضحايا الغيتوات في اوروبا، غير ان دافعي الخاص، ذاتيتي، كانت اقوى من التفكير بمهازل الزمان.
دخلت حيا ترابيا تعلو الاوساخ والابنية المهدمة جانبية، اشارة باقية على العاصفة الهوجاء، وعلى المصير الذي صرنا اليه، برز واضحا التفتت والضياع والتشرذم والتلاشي. من مدينة متطورة، ومركزا زراعيا اساسيا الى جيت معزول. حرمنا من وطننا وحرمنا من ذاتنا. يبدو جليا ما يراد لنا من اكوام الاتربة والاوساخ التي لم تنظف رغم مضى عقدين من الاعوام، ولكني جئت بمهمة اخرى، فما بالي أحمل نفسي فوق طاقتها؟ لأنسى نفسي القلقة وشجوني وأحزاني ؟! هل أنسي أمينة وأغرق في تأملاتي عن مصيرنا البائس وحظنا العاثر ؟!
رأيت نفسي في بحر مائج متمسكا بقشة عائمة يدفعها الموج، فازداد امساكا والتصاقا بها خوفا من الغرق. وأنا الذي أحسن العوم ولو في وسط المحيط. فاضطربت وارتج على الامر.
هل صرنا حقا بلا وطن ؟! نعيش فيه وليس لنا ؟! فقدت أمينة وفقدت الوطن ؟!
شدتني أحزاني فسالت نفسي: ” أمينة قد تعود لي. ولكن كيف يعود الوطن ؟!”
وقفت في باب احدى البقالات أشرب زجاجة شراب أرطب بها حلقي من حرارة الطقس وكآبة الافكار وقيظ الحزن والغضب الدفين في اعماقي. كان ذهني يزدحم دوما بأفكار عديدة جديدة ومتجددة. تمنيت فراق الخواطر ليخلو فكري لأمينة، استعدادا للحظة العمر الكبرى. لحظة انتهاء الانتظار الممتد الطويل. لحظة التجلي والصعود. فافهم ما لم افهمه واعرف ما لا اعرفه. نعود انا وأمينة الى جذور الاشياء وبدايات الاحداث. ننسى عذاب الماضي ونعيش لحظتنا باتساعها.
عندما القاها لن أفقدها ثانية!
ولكن كيف ستلقاني ؟!
أقلقني هذا السؤال واصابني شطط. تهت وراء مبتدأ افكاري، وتاهت افكاري وراء توقعاتي.
من انا؟ ماذا اريد؟ هل ينتهي الحلم الجميل؟ يتبدد الامل؟ تتناثر الاحلام اشلاء؟ أهوى من العلياء؟ يتحول الفرح الموعود الى ترح؟ وينقلب الضحك الى بكاء؟ تنتحر السعادة ويسود شقاء. تتلاشى الامنيات التي اينعت ؟!
*******
تنبهت له يرفع كأسه لشفتيه. شربنا. تنهد بعمق شديد وكأنه يروي لي مجددا ما يعبر برأسي من ذكريات عنه. حتى خيل لي أنى أسمع تأوهاته وليس تنهده العميق. ربما يعيش معي ما يعبر بذهني من صور وذكريات تخصه. تأملته فما وجدت تغييرا يذكر على محياه. هدوء متواصل ونظرات من عالم متجلد.
طلب كأسين آخرين وهو يحثني على الشرب. فجأة لمعت عيناه وسلط نظراته بوجهي، فارتعشت. وسألني متذكرا أحد الاصدقاء:
هل تزوج سهيل ؟! –
– ورزق بطفلة . أجبت
– وذقنه ؟!
– لا تزال علامة مميزة .
– تسعدني اخباره .
– نلقاه الليلة .
لم أكن واثقا مما قلت. لم يجب. كنت متوقعا ان يسال عن الاصدقاء بالتفاصيل، فشحذت ذهني لأتذكر ما جرى معهم. فلم أجد كثيرا مما يقال. عاد يغرق بذاته وكأسه، فازداد يقيني من غرابة موقفي، واشتد انذهالي من حال صاحبي. ربما لوهلة فهمت ما يقصده بان أمينة زوجته منذ أحبها. انها زوجة أحلامه، يعيش معها وهو في عالم الكرى. أيجوز ان يكون ظهوره حلما كظهور أمينة الدائم له ؟!
ولكني متيقظ لما حولي ولما يجري معي ؟؟!!
*******
لم يعرف حازم مدى استعداد امينة لملاقاته، وان كان هذا اللقاء بعد هذه السنين الطويلة، سيحمل لها السعادة ام الحزن. كان يطمئن نفسه بان السعادة والحزن هما وجهان لعملة واحدة، لا يكتمل الفرح الا باندماجهما، ولا يكتمل الانسان الا بالفريقين، فتطمئن روحه ويقول لنفسه: ” كيف سألقاها؟ ماذا تغير بها ؟! هل ترك عليها الزمن الرديء أثره؟ هل يخذلني الزمن بعد هذا الصبر الطويل؟”
انه مكلوم وخائف وحزين وحائر. ولكنه مندفع كالعاصفة بقرار لا تردد بعده. يمني النفس بانشراح بعد ضيق، ولقاء بعد فراق، وعناق بعد سعي. يتمنى ان يرى شعرها مرسلا على ظهرها كشلال ينهمر من عل. يتمنى ان يرى بشرتها السمراء النقية … ولكن لا بحر هنا ليلوح بشرتها ببريق نحاسي. يتمنى ان يرى وجهها بطيبته ورونقه وجاذبيته. هل تكون السنون قد ابتزت شيئا من جاذبيتها واكتمالها؟ كم يشتاق لعينيها بلمعتهما ويقظتهما. وكان يقول:
– صرت استنشق الشوق من قربي لبيت أمينة .. ومع ذلك بقيت أتأرجح بين الحزن والفرح. بين الأمل والكآبة. بدأت أشعر بالتوتر من اقتراب اللحظة، التي صار الحلم فيها قريبا للواقع، واللقاء حقيقة قريبة التجسد.
سألت البقال عن بيت والد امينة مضيفا تعريف التركي لوالدها. ويبدو ان صفة التركي هي التي اوضحت له مرادي. فشرح لي كيفية الوصول للبيت، متفاجئا أنى بمثل هذا القرب الى بيتها. ..
ها أنا ظمآن وواصل النبع برمقه الاخير. هكذا كانت حالتي. ووجدت نفسي اخاطب أمينة. أهمس بأذنها:” نلتقي كي لا نفترق”. هتفت باسمها بيني وبين نفسي. ربما يكون الحر اللاهب من قربي لها أثر على تمالكي لنفسي؟ ربما يكون لهيب الذكريات يعيدني شابا يافعا اعانقها بين الامواج؟ مرة أخرى يعتريني التردد من الاقدام. قلت لنفسي: ” تجلد. رغبتك لم تعد ملكك. انتظرتك بأمانة فكيف تهرب منها بعد ان صرت قاب قوسين أو أدنى من لقائها؟ .
كان توجسي من شيء غير مدرك يشتد. ولكن عاطفتي بدأت تدفعني نحو التئام الجمع واكتمال الوصل. وكنت أهتف بيني وبين نفسي مع كل خطوة:” انا احبك يا أمينة !!” أنشري فرحك كما تشائين. عريسك قادم بعد ان أعياه وأعياك الضياع. لن تقوى علينا عواصف التشريد. سنلتقي يا أمينة. عبرنا طرقا وعرة. خضنا مسالك رهيبة. ما عبر علينا لن ننساه. سنورثه لأبنائنا مع مزيد من الحب والامل بدنيا أفضل وحياة أكمل خالية من البغضاء والكراهية.
لأول مرة لا أرى قيمة لوجودي دون وصالها. عفت الصبر والانتظار والاحلام. الوصال هو جذر الحياة الذي لا ينضب. ألم يكن أفضل لو بعثت خبرا انبئها بقدومي حتى لا افاجئها بوضع غير متوقع ؟! وبنفس الوقت كنت اقول: ” سبق السيف العذل. انا لا آتي لأفحصها، لأتعرف عليها، انما لأجدد ما انقطع. وأطلق الآمال من قيودها، والرغبات من سجنها “.
وها انا أقف أخيرا امام بوابة بيتهم. لا تزال تتبادلني الاحاسيس بين الخشية على الاقدام والاندفاع. هذه النقائض مرهقة. أكرهها .. أرى البعد والجفاء .. ولوهلة اخرى أرى انفجار الحزن وزغردة السعادة وانطلاق العصافير من اقفاصها. أرى الوجد والوئام، وكأن الزمن لم يفصل بيننا شبابا ويجمعنا على أبواب الكهولة.
كيف اطرق الباب؟ اي اعصاب احتاجها عندما تفتحه لي أمينة؟ شعوري يوحي لي ان أمينة هي التي ستفتح الباب؟ آه ما أثقل يدي. كأنه ألإخدرار يسري في أطراف يدي. أشد قبضتي بقوة. أتنفس بعمق مالئا رئتي بالكثير من الأوكسجين. بعد لحظات تلتقي عيناي بعينيها. تتناجى بعد سنوات الانقطاع. تلتقي انفاسنا الراعسة. تتشابك امانينا. ينتهي دور الكلام ويسود التفاهم والتناغم بدون لغة. التقاء نظراتنا يغنينا عن الكلام.
وتقترب لحظة المفاجأة التي لا تخطر على بال. أردت أن أصرخ بأعلى صوتي مناديا: ” أمينة !!”. ها انا وصلت بعد سفر. انتصرت على الفراق والزمن. كنت غريبا في بلدي ضائعا في وطني. الان بدأت أجد نفسي !! صار لي وطن بك يا أمينة. عدت بعد تيه. أرفض الهزيمة. اريد الحياة. اريد ان استعيد الماضي معك. ان اجدد ما انقطع. ان أعود الى يافا شابا عاشقا يختبئ مع حبيبته وراء تلة رملية. يقبل أحلى شفتين. طعمتهما لم تفارق شفتي رغم الزمن. أقبل الشوارع التي عشقتها. وألتقي بالناس. أتنشق رائحة السمك المقلي في باحة الدار. أرى وجه امي. وجه ابي. وجهك الناضر مثل زهرة القرنفل. الامس يدك خفية من أمك. آه ما أحلي الذكريات. آه كم هي مؤلمة.
قرعت الباب بقوة وتصميم. ربما للتخلص من ارتباكي وترددي. ومن ضغط الذكريات التي تأخذني بعيدا تحت جناحيها. كنت انا ولست انا. لم أكن مدركا لمشاعري .. بل سابحا لا أحس بالأرض تحت قدمي. مرتجفا. رأسي محلق في الفضاء وقدماي غارقتان في البحر. تتكاثر الأحداث في راسي وتختلط. يمتلئ ذهني بالصور والتخيلات. تتراكم أمنياتي. أحن الى بيتي القديم. أحن الى حارتنا. أحن الى ملعب طفولتي وصباي. حنين فجائي يكاد يسحب الدمع من عيني سحبا. أحن لزمن الصبابة والعشق الأول والأخير. أحن للبحر والشمس والبشرة النحاسية اللامعة. أحن للشعر الأسود الطويل المتحرر للريح. أعرف الملامح ولم انس تفاصيل الوجه. استجمع كافة قواي لانطلاقة عظيمة. فأطرق الباب بقوة مرة وراء أخرى. اه يا منية القلب ويا مهجة الروح. وقفت ودققت طويلا. شعرت بالضيق والارهاق الفجائي.
أين أنت يا أمينة ؟!
ادق ولا من مجيب.
اه على لحظة خلو وتوحد التقط فيها انفاسي وأحوي مشاعري. دققت ودققت ووقعت في حيرة. بدأت ناري تخبو وأعصابي تنتقل للقلق والتوتر. عدت أشعر برأسي بين كتفي ثقيلا متفجرا بالألم. التقط انفاسي بصعوبة، وشعور أليم في صدري يعذبني. أمسكتني الحيرة والتوجس. كان قلبي يتشقق. دققت دققت دققت وكتمت تهيجي. تلفت حولي فلمحت احدى الجارات. استنجدت بها محاولا ان أبدو طبيعيا:
– من فضلك .. عن اذنك. هنا بيت التركي؟ والد امينة؟ اجل؟ شكرا. وأين هم؟ لم لا أحد بالبيت؟
تنظر الي الجارة بتوجس. ربما يبدو القلق والانهزام في وجهي.
– من حضرتك ؟!
ماذا اقول لها ؟! كيف اعرف على نفسي؟ اي كلمات استعمل ؟!
– انا قريبها.. كنا جيران في يافا من زمان. انقطعنا عن بعض. فرقت بيننا الطرق. لم نعرف عنهم شيئا الا منذ ايام. جئت للاطمئنان عليهم ومعرفة اخبارهم.
سكتت الجارة. بلعت ريقها. ارتبكت. لم تتوقع هذا الزائر الغريب. قالت بدماثة وهي تخفي ارتباكها لأمر لا افهمه:
– تفضل عندنا … تفضل ارتاح. ربما يأتي والدها بعد ساعة. لا أدرى تماما متى يعود. على كل حال تفضل حتى يحضر.
– أمينة ابنته.. أين أمينة ؟! أليست أمينة ابنته؟
سألت بلا ترو فاضحا كما يبدو ما بنفسي.
– أمينة ؟!
أجابت الجارة بحيرة وتردد. وجهها يعبر عن الحزن والارتباك. هل أخطأت بالمنزل؟ صمتت. فحثثتها. بعد تردد اجابت:
– مسكينة .. لا اعرف كيف اقول لك ذلك. حرقت نفسها من الهم.
– حرقت نفسها ؟!
كدت اصرخ مصعوقا مذهولا ولكني لم أجد صوتي. انحبس الكلام من الذهول والصدمة. فأردفت بسرعة:
– انها بخير .. أمينة بخير، ستعيش، أنقذت والحمدلله، يقول والدها انها ستكون بخير !!
غرقت بالعرق البارد من راسي حتى قدمي. فقدت توازني. ولم أعد أشعر بالأرض تحت قدمي. كنت مذهولا مصعوقا افهم بصعوبة ما يدور حولي. انهرت بلا شعور جالسا على عتبة الباب واضعا رأسي بين يدي. مانعا دموعي من الانهمار. وصوت الجارة يكرر دعوته لي بالدخول والانتظار في بيتها. آه لو تعلم ما بنفسي. آه لو تعلم ما يربطني بأمينة. لم أشعر بمثل هذا الضياع منذ تشردت عن مدينتي. منذ انقطعت عن بحري. منذ فرقت بيننا المأساة.
ما تشتهيه النفس يتبدد وما يتمناه الفؤاد يتلاشى. اه ما اشد وقعتي ويأسي. تمنيت ان أصرخ صراخا طويلا متواصلا. ان اؤذي نفسي لأشعر بالألم. أن أبكي بحرقة وبلا حياء. أن أرى أمينة لأضمها لصدري طالبا صفحها. أنا أحبك يا أمينة. الآن أنا أحبك أكثر. مهما تكونين أحبك. أنا مسؤول عما يحدث لك. أنا السبب وأنا المسبب. لو أنى ابكرت في القدوم لأنقذتك. سنوات وأنا أتردد. هذا زمن رديء ووعر المسالك. أين أذهب بهمي وصدمتي ؟!
أحضرت لي الجارة كأس ماء متفاجئة من منظري. شكرتها وقلت لها أن تسلم على والد أمينة وتخبره ان الذي حضر هو فلان، وذكرت اسم جار لنا ولهم من يافا قبل النكبة. ولملمت نفسي وألمي وهمومي وقفلت راجعا للناصرة، هاربا ولست بالهارب، حاضرا ولست بالحاضر، يائسا من عالمي ودنياي، فاقدا رغبتي بالحياة، فعزلت نفسي لأيام صائما عن الطعام، منقطعا عن الناس، حتى تراءت لي أمينة في احدى الليالي باكية من وحدتها، فبكيت بكاء مرا. وعندما استعدت بعض توازني، وصحوت من صدمتي. نظرت لوجهي بالمرآة. فهالني ما ارى. استحممت. حلقت ذقني. أكلت قليلا من الطعام، وقلت كأني أخبرها:
– لن أتخلى عنك يا أمينة !!
فيما بعد لمت نفسي لأني هربت من مواجهتها. من مد يد الحب والعطف لها في لحظات محنتها، لحظات هي أحوج ما تكون بها الى قلب محب، وعاطفة تحضنها. ربما خفت ان يفهم موقفي كنوع من الشفقة، او ربما رفضت ان أرى جسمها مشوها. اريد ان احافظ على صورتها كما هي؟ أحبها أحبها كاملة. أحبها مشوهة. أحب أمينة كما تكون. لماذا ضعفت أمام مأساتها؟ لماذا عجزت عن مواجهتها في عاهتها؟ انها عاهتي وليست عاهتها. هل أستطيع التفكير بغيرها من النساء؟
كنا قد وصلنا مدخل الناصرة الشمالي حين وصل بروايته الى هذا المقطع. فصمت متداخلا بنفسه متقوقعا بأفكاره، لا أكاد اسمع صوت تنفسه. أشعر بوجوده قربي من دخان سيجارته. فآثرت الصمت خوفا من تعكير صفو تأملاته، او بكائه الصامت. ولم أجد ما يحسن قوله ويطيب ذكره في مثل هذه الحالة. فتألمت لنصيبه العاثر شاعرا بما يعذبه ويكويه بنار الهجر .. ناقما على واقعنا اللعين .. متمنيا لو أستطيع اسداء المعونة لصاحبي وهو في محنته المستمرة، وسفرته غير المنتهية في الشتات النفسي بعد شتات الوطن. الآن يبدو لي مستسلما لقدره. لا يحيا حياته بمفهوم الحياة الواسع، انما ينتظر انقضاء ما تبقى من عمر شقي مغرقا المه وثورة نفسه بكؤوس الخمرة !! ولكن ما آلمني ان حازما لم ينس حبه أبدا، وظل مخلصا للتي أحبها !!
******
صب لي كاسا أخرى رافضا اصراري على الاكتفاء بما شربت.
قلت:
– لا افهم كيف صارت أمينة زوجتك ؟!
ضحك بلا صوت، وبوجهه الذي لا يعكس ما يعتمل بنفسه، وقال مؤكدا:
– دائما كانت زوجتي !!
تذكرت حكايته القديمة لي يوم ذكر انها لا تفارق احلامه، وانه يعيش معها بأحلامه كرجل وامرأة متزوجين. قلت لنفسي: ” لعل ما يعتريني هو حلم مشترك لي وله؟ أيجوز هذا في الواقع؟” .
أردت أن أبين له خطأه. ولكني توجست أن أكون مخطئا فعلا. غير أن ثقتي بنفسي أكيدة. فهو لم يتزوج أمينة.. فمن أين اصراره انها كانت زوجته دائما ؟! الا إذا كان يقصد احلامه ؟!
بحثت عن موضوع لأخرج من صمتي واخرجه من صمته، سألته:
– هل التقيت بأحد الأصحاب غيري ؟
– انت اولهم .
لا حرارة ولا مميزات خاصة في نبرته.
– هل ابلغهم بعودتك ؟
– بالطبع .
– تود ان نلتقي في مكان ما ؟
– كما تشاؤون .
اقلقتني للغاية اجوبته المقتضبة كأنه يتكلم دون ان يعي ما يقول، وبدأت أشعر أنى أفشل في اخراجه من صمته وبرودة عواطفه.
– هل نلتقي هذا المساء ؟!
نظر الي ولم يجب. وسرح بأفكاره، ولكن لا يبدو انه يفكر. مجرد صامت. ربما لا يتنفس ؟!
*********
بعد سنين طويلة من معرفتي وصحبتي لحازم وقع من نصيبي ان اتعرف على فتاة من الرملة واتزوجها. كانت قصة حازم وأمينة قد صارت في عهدة التاريخ القديم. لا أذكر ان حازم عاد اليها مرة اخرى. وقد تجاهلت أنا موضوعها حتى لا اسبب له الما وحزنا ولوعة يحبسها في نفسه، ودموع يزجرها أمامنا بمرح ظاهر. لكنه لم يعد يخدعني بحقيقة مشاعره التي يخفيها عني وعن أصحابنا. كثيرا ما اردت ان أحثه لزيارة أمينة وتجديد الروابط معها. رغم ما حصل لها كنت مقتنعا من استحالة دفعه للتفكير بالزواج من فتاة غيرها.
وكثيرا ما سألت نفسي: ” لماذا لا يعود اليها وهي في محنتها؟ هو ايضا في محنة. هي حرقت جسمها وهو يحرق جوفه …يحرق ايامه، ويحرق أحلامه.
كنت مقتنعا ومتحمسا لكي يعود اليها ليأخذ بيدها وتأخذ بيده. ليخرجها وتخرجه من ضياعهما ومحنتهما. فقط أمينة قادرة أن تخرجه من ألمه وكآبته. تستأنس به ويستأنس بها. الم يصارحني انه يحبها كما هي ويصر على العودة اليها؟ لماذا لم يعد؟ لماذا يقرر ويتردد؟ لماذا يستسلم للحزن والذكريات؟
احترت بين ان أقدم او أتمهل. ربما هناك شيء ما لم يحدثني به؟ سرا يحفظه لنفسه؟ وآثرت ان لا أتطفل عليه حتى لا يسيء فهمي منتظرا لحظة مناسبة.
أصبحت الرملة محورا اخر من محاور حياتي. كثر ترددي على هذه المدينة التي حررت من ابنائها الطيبين، فصارت نموذجا للعاصفة التي اقتلعت شعبنا من جذوره، وحولته من صاحب البيت الى فاقده. كنت أتذكر وصف حازم للشوارع التي يسكنها العرب والمسماة ب: ” الجيتو العربي”. لم أجد بعد سنوات من حكاية حازم شيئا قد تغير. ربما ساءت الأبنية أكثر. كانت الشوارع الترابية مميزا ” للجيتو “، كأنه معسكر لاجئين، بينما الأحياء اليهودية التي بنيت على البيارات العربية المقتلعة، منظمة بأبنيتها وشوارعها الحديثة وخدماتها وحدائقها وملاعب الاولاد والمدارس والعيادات الطبية والنوادي. كنت كلما دخلت ” الجيتو ” تذكرت حازم وحاولت تصور صدمته. وكلما تذكرت حازم تقفز الى ذهني صور من ” الجيتو ” بشوارعه الترابية وابنيته المهملة والاوساخ المتعالية على جانبي الطرق وبين البيوت. والأطفال يلعبون بوسط اكوام من الأوساخ. وانتشار الجراذين الضخمة التي تقاسم السكان العرب أحيائهم.
في احدى الأمسيات، وانا في بيت والدي زوجتي في الرملة، قفزت حكاية التركي وابنته أمينة براسي. تعجبت كيف لم أسأل عن أمينة ووالدها منذ خطبت. ربما لم آخذ حكاية حازم بجدية. ربما اعتقدت انه يبالغ في وصف علاقته بأمينة ليغطي على نقص ما عنده ؟! وفي الحقيقة كنت قد قررت تجاهل موضوع أمينة ووالدها. قلت ما دخلي في قضايا الناس الشخصية؟ إذا كان حازم يريدها. فهو ليس صغيرا. يستطيع ان يصل اليها. او يطلب المساعدة. ولن أرده خائبا.
ولكن حازم صديقي .. ودوافع ملعونة تصر على ابقاء الموضوع حيا في ذهني. تفقدني هدوء نفسي . حاولت التناسي فتوهجت حكاية حازم وأمينة في فكري. عبثا أحاول تناسي الموضوع. لكنه كان يحتل على كل مسارب تفكيري. قلت لنفسي مهونا الامر: ” لعلها الطبيعة الحشرية للكاتب. لا يستطيع ان يبقي حكاية بلا اكتمال وخبرا بلا تفصيل ورؤية بلا تأويل “.
ايقنت ان أوان معرفتي للجانب الاخر قد حان، فخضعت بلا مواربة لميول نفسي واستسلمت لطبيعتي الحشرية.
سالت والدي زوجتي ان كانا يعرفان تركيا يافوي الاصل ابنته اسمها أمينة أحرقت نفسها منذ سنوات.
– بالطبع نعرفها .. من اين تعرفها ؟!
– لا اعرفها.. اعرف حكايتها ؟!
– حكايتها ؟!
وشرحت الحكاية باختصار شديد.
– فتاة ممتازة .. نشيطة. تشتغل بالخياطة وتعيل والدها. خرفان وهابط.
– وهي ؟!
– مالها ؟!
– حرقت نفسها كما سمعت ؟!
– شيء بسيط .. أنقذوها وربك ستر. كانوا جيراننا “بالجيتو”. ماتت امها واراد والدها ان يزوجها بالقوة فصبت زجاجة كاز على نفسها واشعلت النار. انتبهت الجارة ففزعت الشباب بلحظات. وأطفأوا النار. احترق شعرها ولكنه نما جميلا كما كان. اعتقد ان رقبتها تأثرت أكثر شيء. لذا ترتدي دائما قبة عالية. على حد علمي انها سليمة تماما.
– هل تتزوج صاحبي اذا عاد لها ؟!
– والله العلم عند الله وعندها .. ولكنها ترفض الزواج كما شاع عنها في الجيتو.
ودبت الحماسة في نفسي. وقررت ان أقوم بدور الخاطبة. عل الوصال يكتمل بين محبين بعثرتهما النكبة. لعلي بذلك اداوي جرحا من الجروح. إذا تحقق الأمر على يدي اكون بذلك قد اجزيت خيرا على صعيدين. احقق لصاحبي امنياته. واحقق لنفسي ما لا تستطع التخلي عنه من اكتمال للأحداث وتبيان النهايات.
وفردت شباكي !!
**********
اخذت رشفة كبيرة من كاسي. سألته متأملا ان أستطيع اخيرا اخراجه من جموده اللابشري:
– هل تذكر زيارتنا للرملة ؟!
لمعت عيناه وبرقتا وكأنه يعود من اعماق الزمن. أأكون قد نجحت أخيرا في لفت اهتمامه؟
وهل ينسى ذلك اليوم؟ بصحتك …-
– تلك اللحظات ولت !
– أمر مؤسف .
– هل تتذكر التفاصيل ؟!
– تحقق كل شيء متأخرا
– على حد يقيني لم يتحقق شيء .
ضحك بنشوة، ودعاني للشرب. كان يشرب بسرعة ظامئ.
شربت ما تبقى من خمرة في الكأس فأصر ان يسقيني المزيد، وان لا اتركه وحيدا. واصلت مشاربه مترددا في البداية. ولكن نجاحي بسحبه للحديث شجعني على مواصلة الشرب ومواصلة الحديث.
لم افهم اصراره انه تزوج من أمينة. بات واضحا الان انه يعني الزواج الفعلي وليس الحلم او الأمنية. وانا على يقين انه لم يتزوجها. ربما يدمج من شدة وحدته بين الواقع والحلم؟ او يكون قد فقد جزء من وعيه فاختلط عليه؟ او يكون حدث شيء لذاكرتي انا ؟!
– كيف تزوجت أمينة ؟!
– كما يتزوج الناس …
انه يصر ولا يتردد. ما أغربك يا صاحبي. ما أغرب اصرارك. سألته ساخرا:
– وكيف حالها ؟!
– لا أدري . لم أرها منذ زمن طويل.
أسقط في يدي. ما باله يتكلم بلا منطق ؟!
– لا تزال زوجتك ؟!
– أجل !!
هل حقا هذا حازم ؟! يقيني يؤكد لي غرابة حازم وعدم اتزانه. كلامه غير غامض ولكن فيه مفارقات غريبة. كله غريب هذا الانسان الذي كان صاحبي. لقد تألق وابتهج عندما ذكرته بأمينة، حتى أنى اكاد المح بعض الحيوية تدب بوجنتيه.
قلت لنفسي: ” أجرب مرة اخرى ان ادمجه بالحديث. لعل ذلك يعيده الى اتزانه “.
– هل تذكر لقاءك الاول معها في الرملة ؟!
قال متذكرا:
– سافرنا الى قريب زوجتك. ربما عمها، جار أمينة، هل تذكر؟! سهرنا عنده حتى الصبح. يا لها من ليلة لا تنسى. هل تذكر ماذا شربنا ؟! سألنا ان كنا نريد كأس عرق. فلديه زجاجة عرق يونانية “اوزو” قلت له نجرب، نفحص طعمها، وضعها أمامنا، ففحصناها، بقينا نفحص حتى خوت.
وضحك بمرح. شعرت انه يعود لأصوله. وبدأت أيقن ان السعادة لا تخرب بيتها. استمر يحدث:
– قال لنا عم زوجتك ان لديه قنينة ” اوزو ” من نوع اخر .. قلت له حسنا نفحص الأخرى. يا سلام على ” الاوزو “. شربنا الثانية، ولو كانت لديه ثالثة ورابعه لبقينا نفحص ونفحص ونفحص.
قهقه سعيدا بصوت مرتفع:
– اشرب
شربنا. كنت دهشا لتجاهله اهم موضوع بالحدث. هل يهرب من ذكراها؟ عدت أساله قلقا:
– هذا ما تذكره فقط من مشوارنا ؟!
لم تغادر الابتسامة وجهه، ولكن بعض الألم تجلى على محياه.
– اذكر بالطبع .. دعا امينة. كانت قد علمت منك أنى اود طلب يدها. جاءت خجلي مرتبكة من لقائي، ولكن الشوق يزغرد من عينيها. لن اقول كيف شعرت انا لحظتها. انت كنت حاضرا .. ولكنك لم تر ما في داخلي، لم يشعر أحد بما يجري معي. نار تفجرت واشعلتني. تجليت معها وايقنت انها باقية على حبي. صانت نفسها وحبها. كانت أمينة أسما ومسمى. عصرت قبضتي يدي ندما على الزمن الضائع. نعمت بمسامرتها ونعمت بمسامرتي. سلام على الطل والندى. سلام على الوجد والعشق. سلام على الحب والوصال، ووداعا يا زمن الهجر القاسي. وداعا يا زمن الالم الرابض. وداعا يا زمن الضياع والتردد. ها هو المتشرد يعود الى حبيبته. ها هو المتشرد يستقر بعد ضياع. ها هو المتشرد يجدد ما مضى. يعود الى يافا، الى حبه الأول والأخير، الى بحره، الى رائحة وطنه. الى قبلات الحب الاولى، الى ارتعاشه القلب التي لا تمحى مع الزمن. ها انا استعيد ذاتي من بين أنقاض حياتي ومدينتي ووطني. أخرج من ضياعي وتيهي بفرح يكفي كل الازمان، باندفاع لا يعرف التوقف ولا التمهل !!
استعدنا في جلستنا تلك تفاصيل حياتنا. تحدثنا عن حبنا الذي كان. تحدثنا عن ألمنا وشتاتنا. عن مدينتنا التي أصبحت غريبة. عن مدينتنا بشوارعها وأهلها. عن الانقطاع الكئيب والوحدة القاهرة. عن الألم والقهر الذي لا يمحوه الزمن.
استعرضنا بعطف أسماء سكان حارتنا ونوادرهم ومفارقاتهم. تحدثنا عن نوادر البحارة والبحر. كنت أشعر انني شاب يافع في يافا. وكانت تشعر انها صبية منطلقة في يافا. أبدا لم نغادر يافا بأحاسيسنا. حدثتني انها غير مصدقة انها في الرملة … بل نحن في يافا. هذه حارتنا، وها هو بيتنا هناك. وهذا بحرنا ورماله، وهذه قوارب الصيادين وشباكهم. هذه امي وتلك امها، ترتشفان القهوة. وهناك والدي ووالدها يتبادلان تدخين الأرجلة. ها نحن نلتقي على الشاطئ. نختفي وراء تلة رملية. تتشابك ايدينا تلتقي صدورنا. نتخاطف القبل وجلين مرتعشين. أضمها لصدري بألف حجة وتبرير. تتملص. فأزيد ضغطي حتى تستسلم. أشم رائحة شعرها الأسود المنطلق من اساره. ألمس بشرتها الفتية النحاسية المحروقة. تتوهج الحرارة في نفسي. أزجر دمعه كادت ان تفضح ضعفي. نتملى من وجوه بعض بظمأ لا يعرف الارتواء. نتأمل بعض بحنين جارف. نتمنى لو يخلو لنا الجو. نتوحد. أكثر من عشرين عاما أبعدنا الفراق، وها هو يلمنا زمن عجيب. يجمعنا قبل اليأس. كنا في الرملة ومشاعرنا في يافا. جلسنا في بيت عم زوجتك ووجداننا يقول اننا في حارتنا، في دارنا. لا أعرف كيف أفسر ذلك. كنا نظن اننا إذا أطللنا من الشباك سنرى البحر والصيادين وقوارب الصيد والشباك المنشورة، بل نكاد نسمع بشيش الأمواج المتواصل. حبنا ليس وليد اللقاء الآني. حبنا لا يعرف نهاية لا بداية له، ولا بد ان تكون له نهاية رومانسية. عاشت الرومانسية !!
أنت أسرعت تسابقني على قنينة (الأوزو). أغفر لك ذلك يا صاحبي. أغفر لك بسبب أمينه. أمينة أنستني حتى نفسي. كيف؟ أنسى أمينة؟! حبيبتي. حبيبة شبابي الباكر. حبي الاول والأخير والدائم.
– اشرب .. اشرب!!
لأول مرة لمست تماما انه يدفن ماسي نفسه بالكأس. يحجب آلامه بالكأس. بالخمر.
– وهل تذكر ما حدث؟!
– بالطبع … وهل أنسى أمينه؟! عدت للناصرة لأخبر الأهل أنى وصلت لمرامي، وسأعود لحبيبة يافا. سأعود لحينا المهدوم وابنيه. اعليه. اعيد يافا عروسا. أمسح دموعها المتجلدة. اقبلها. اراقصها. أحضنها في ليلة زفافي. واعاشرها … علها تخصب من جديد. ولن تغار أمينه. اشرب!! هذا الشرب السريع يضايقني، ولكني صبرت املا بمساعدة صاحبي على العودة بفكرة للواقع. ان يستعيد وعيه المفقود.
صمت، وأثار دمعتين بلوريتين تراوغان قدرته على ضبط مشاعره. قال بعد برهة:
– ماتت أمينه يا نبيل. ماتت بعد اسبوعين من لقائنا. قتلها المرض. كذبة كبيرة كانت. كأنها رفضت أن تكون لي بلا يافا. قد تعود لي إذا عادت يافا … ستتجدد مع يافا… التقيتها بكامل صحتها. مكتملة الانوثة. ناضجة. حارة. حميمة… يقتلها الشوق لفارسها، وقد بان الفارس. ولكن الموت كان منتظرا. قدرها ان لا تعرف السعادة أبدا، وقدري أن أبقي من الراحلين أبدا. ليس لي استقرار ولا أمان في مكان. فقدت حبيبتي وفقدت ما يشدني للحياة. لماذا أحيا ما دام حلمي تبدد؟ بعد لقائنا تموت أمينه؟! ماذا جنيت حتى اصدم عبر درب حياتي كلها؟ من يصدق ان أمينة تموت بعد اسبوعين من تجدد الأمل ؟! من يصدق ان الموت يجيء حين لم تعد ضرورة له؟ وحين يفتقده المرء لا يجده !!
أفرغ كاسا كاملة بجوفه واشار للساقي ان يملأ له المزيد. قلت:
– وانت يا صاحبي ؟ الم نودعك بعدها بشهرين ؟!
وأضفت:
– لا زلت اذكر جنازتك حتى اليوم .. كل الذين كرهتهم جاءوا. لم تتعرف عليهم في حياتك فتولوا امرك في مماتك. اما نحن اصحابك فسرنا كالغرباء. كنا نشيع جزءا منا. كان الحزن حزننا والفقيد فقيدنا.
– لا ادري عن ذلك شيئا ؟!
– كيف تدري وانت الفقيد ؟!
– ولكنني امامك !!
– موتك كان صدمة لنا نحن اصحابك …
انقلب وجهه غاضبا وامرني:
– اصمت .. !! اي موت تتحدث عنه ؟!. أنى حي كما ترى ؟!
– انت حي ؟!
– بالضبط !!
– وتصر ان امينة كانت زوجتك ؟!
– تماما.
– لم تمت امينة ؟! ولم تمت انت ؟!
– زوجتي لم تمت وانا لم امت !!
– لا تنفعل يا صاحبي لا تنفعل .. انت تحيرني؟ عودتك محيرة. وظهورك لي محير !! كلامك محير !! ما الذي اعادك لعالمنا؟ اية قوة هذه ؟! هل حقا يعود الأموات الى الحياة ؟!
– الموت مرة اخرى ؟!
انفجر غاضبا بشراسة حين عدت اذكر الموت. اغضبه اصراري على ذكر الموت. لم اره غاضبا أبدا بهذا الشكل. فتحت فمي لأهدئ أعصابه. فأمسك كأسه بقبضته وقذفها بوجهي وعيناه تطلقان شرارا. اغمضت عيني جافلا من ضربته الفجائية، رافعا يدي تلقائيا لتلقي الضربة. فأخطأ بضربته كما يبدو … فتحت عيني متحفزا لمواجهة غضبه. فلم اجده امامي. أمسكتني حيرة شديدة. مددت يدي قلقا لأشعل الضوء. فتحت عيني. صحوت. اخذت نفسا طويلا. ابتسمت، اطفأت الضوء، وعدت أغفو من جديد وصوت حازم يصل لاذني مناديا:
– أمينة !!
تمت – نبيل عودة