جيان و”دلمون”.. والعودة الى الاسطورة

يحيى عبد المجيد بابان "جيان"

يحيى عبد المجيد بابان “جيان”

جيان و”دلمون”.. والعودة الى الاسطورة
موسكو– عبد الله حبه

لقد كثُر كتاب الرواية في العراق في العقود الاخيرة من السنين. ويبدو أنهم وجدوا فيها وسيلة ناجعة للتعبير عن افكارهم ودخائل نفوسهم في ظروف مأساوية، في جو بغداد الملفع بالفزع والقتل اليومي بعد فترة الاحتلال الامريكي للعراق في عام 2003، التي اعادت البلاد الى القرن التاسع عشر. فقد ساد الطغيان العثماني والعشائرية والطائفية الظلامية. لقد تمتع الكاتب العراقي قبل هذ ه الفترة وخلال فترة قصيرة بعد سقوط النظام الملكي في تموز عام 1958 بفسحة من حرية التعبير، ووجد المجال لكتابة ما يريد قوله. ولكن هذه الفترة لم تدم طويلاً إذ سرعان ما سحق الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963 جميع براعم الحرية والديمقراطية قبل ان تجد المجال لتفتتح وتتحول الى أزهار وثمار الابداع. وعندئذ انقسم الأدب العراقي إلى قسمين، أحدهما في الداخل والآخر في المهجر. واصبح لكل واحد منهما أهدافه وإمكانياته التعبيرية.
ان النثر العراقي الحديث، من قصة ورواية، هو شئ حديث العهد في البلاد. ويمكن القول انه بدأ خلال فترة الاستقرار النسبي بعد نشوء الدولة العراقية برئاسة الملك فيصل الاول. فظهر الكتاب الرواد مثل محمود احمد السيد وعبدالحق فاضل وذو النون ايوب وغيرهم. واتسمت محاولاتهم الإبداعية بشئ من البدائية في طرح الموضوع واعتماد الخطابة وتقليد الاعمال القصصية التي ازدهرت في مصر ولبنان وسورية والمتأثرة بالاعمال المترجمة العالمية. علماً أن الرواية نوع أدبي دخيل على العرب، الذين كان الشعر وسيلة التعبير الادبي الرئيسية لديهم. لذا اخذ الكتاب العرب الكثير من تجارب الروائيين الغربيين بالذات.
بيد ان الحرب العالمية الثانية تركت آثارها على المجال الثقافي في العراق، ولربما بسبب الاستقرار النسبي أيضا الذي ساد في البلاد خلال الخمسينيات وما رافق ذلك من انفتاح على الثقافة العربية والعالمية. فظهر فنانون وكتاب وموسيقيون عملوا على تأسيس مدارس فنية وأدبية عراقية في محاولة لاستعادة انجازات الحضارة العراقية. وعرف المجتمع الثقافي اسماء الفنانين جواد سليم وفائق حسن ومحمود صبري وحافظ الدروبي وخالد الرحال ومحمد غني حكمت وعشرات آخرين من المبدعين الذين أثروا الفن العراقي حقا بنتاجاتهم. وفي ميدان الأدب ظهر شعراء مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وغيرهم الذين واصلوا مسيرة الرواد الرصافي والزهاوي والحبوبي والجواهري قبلهم.
كما ولج الساحة الادبية كتاب مثل عبد الملك نوري وادمون صبري وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي. ويعتقد كثير من الباحثين إن رواية غائب طعمة فرمان ” النخلة والجيران” تمثل بداية نضوج الرواية العراقية. ولهذا يعتبر صدورها في عقد الستينيات نقطة الانطلاق التي يجب البدء منها في تقييم الاعمال الروائية في بلادنا في النصف الثاني من القرن العشرين. علما انها كتبت في المهجر شأنها في ذلك شأن الأعمال كثيرة للمؤلف والتي ظهرت في الفترة التالية. وكان الكثير من الباحثين ينتظرون اللحظة التي يبرز فيها دوستويفسكي أو تولستوي أو تشيخوف العراق، الذي يخرج الادب العراقي من الاطار المحلي الضيق إلى الاطار العالمي . لكن هذا لم يحدث، وللأسف. لقد اضعنا ذلك في العراق، ونحن نشعر بالحنين إلى تلك الفترة نظراً لما أنجز خلالها في الميدان الثقافي. ونشير إلى ذلك بالاخص اليوم حيث أصبحت الثقافة على هامش نشاط الدولة السائرة نحو التشرذم والانهيار. وصارت التقاليد الدينية التي نشأت في العصور المظلمة، والدين الحقيقي منها براء، تطغي على التفكير السليم والمنطق البشري. وساد النقل على العقل. وكأن ما جاء به كبار المفكرين العرب في فترة ازدهار الحضارة العربية الاسلامية لا علاقة له البتة بمجتمعنا اليوم. في الوقت الذي تدرس في جامعات العالم أعمال الجاحظ وابن رشد وابن خلدون وابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي وغيرهم، بينما يتم تجاهلهم او المرور عليهم مر الكرام في مؤسساتنا التعليمية. كما يتهم بالكفر والالحاد كل من ” انكر بدعة معروفة او جحد خرافة مألوفة وكأنما مفاتيح الجنان في يد فلان ، يدخل فيها من يشاء ، ويذود عنها من يشاء”، على حد تعبير الكاتب الكبير طه حسين في مقالته ” الإيمان ليس ملكاً لأحد”.
ان الكتاب العراقيين في الداخل عانوا ما عانوا في الفترة الماضية من الانظمة القمعية. ولهذا غالبا ما كانوا يلجأون الى الرمز والتجريد الوجودي والسريالي خشية التعرض إلى اضطهاد السلطات، أو الى عدم نشر أعمالهم وحفظها حتى يحين موعد نشرها المناسب. وهذا يذكرني بما فعله بعض الكتاب السوفييت مثل ميخائيل بولغاكوف واندريه بلاتونوف وباسترناك الذين لم يتقبلوا الأحكام الايديولوجية المفروضة على رجال الأدب في بلادهم من قبل موظفي اللجنة المركزية. أما الذين غادروا العراق ومن ابرزهم غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وانعام كجه جي ونجيب المانع وعشرات غيرهم من الذين يقيمون الآن في السويد والدانمارك والولايات المتحدة والمجر وبولندا واستراليا والاردن، فقد واصلوا الكتابة بحرية وبهمة يحسدها عليهم كتاب الداخل. لكن وسائل الاعلام المحلية كانت لا تشير إلى أعمال الكثيرين منهم. ولا يعرف الكثيرون مثلا الكاتب المبدع “جيان” الذي يعيش في المهجر منذ حوالي القرن من الزمان. ويلاحظ تجاهل شبه تام لاعماله. بل يعتقد بعض النقاد في الداخل ان ادبهم يعتمد على ذكريات قديمة بعيدة عن الواقع اليوم. طبعا ان هذا الكلام بعيد الواقع اذا ما اخذنا في الاعتبار روائع الادب العراقي في المهجر الذي حاول البعض نسيانه ومنه رواية “دلمون” لجيان.
إن يحيى عبدالمجيد بابان ( جيان ) هو أحد الكتاب الشباب المبدعين في الخمسينيات الذين تمنى الكثيرون لهم آنذاك مستقبلاً مرموقاً في ميدان القصة والكتابة للمسرح. لكن غياب النقد الجاد في العراق حال دون ظهور بحوث تستحق الذكر لأعماله لكونه من أدباء المهجر. وقد فرحت كثيرا عندما تلقيت بالبريد رواية بقلم هذا الكاتب الذي يعيش في براغ منذ اكثر من خمسين

آثار دلمون

آثار دلمون

عاماً. وجذبني على الاخص اختياره ” دلمون” لعنوانها. وتدور أحداثها في “دلمون”، وهو الاسم القديم لجزر البحرين وتاروت، والتي كانت قبل أكثر مكونة منذ خمسة الآف سنة من عدة جزر اختفى بعضها من الوجود بمرور الزمن وتركت تاريخاً مترعاً بالأساطير. لكن بقيت في البحرين قبور الاكديين والسومريين الذين كانوا يعتبرون هذه الجزيرة مكاناً مقدساً لهم وسميت ” جنة دلمون”. ولدى زيارتي الى المنامة مؤخراً، دُهشت لما رأيته من آثار حضارة دلمون في متحف التاريخ القديم فيها. ولذا فإن دلمون هي أكثر من جزيرة صغيرة في الخليج العربي، بل أنها رمز لحضارة وأساطير أجدادنا القدامى المنسيين التي تدعونا اليوم الى النهضة من جديد. وأظن أن “جيان” اختار هذه التسمية لروايته، بالرغم من إن موضوعها ليس تاريخياً. فلم تكن غاية المؤلف كتابة رواية تاريخية، بل أعطاها هذا الاسم من أجل اكسابها شيئا من الاسطورة.

لقد تعرفت على (جيان) في أواخر الخمسينيات حين كنت أعمل في مجلة “الفنون” العراقية التي كانت تسمى سابقا ” السينما “. وقد أسسها المخرج كامران حسني لدى عودته من الولايات المتحدة حيث درس الفن السينمائي من أجل نشر الثقافة السينمائية في البلاد. لكنه أدرك لاحقاً وبسبب انشغاله في اخراج فيلمه البكر” سعيد افندي” إن مشروع المجلة يتطلب توفر المصادر المالية المستمرة. ولم تكن الحكومة مستعدة أيامذاك لدعم مثل هذه المشاريع. وقد وافق كامران على اعطائها الى مجموعة من المهتمين بالفن والثقافة لاخراجها لاحقا بالاسم الجديد “الفنون”. وقد عملت مع الشاعر صادق الصائغ في جمع المواد لاصدار المجلة، حيث كان صادق يشرف على قضايا الادب بينما أشرفت على قضايا الفن التشيكيلي والمسرح والسينما. وساعدنا د. صلاح خالص والفنان يوسف العاني كثيرا في اصدارها بشكلها الجديد وكنا نحصل على الدعم من تبرعات الاصدقاء. ويومذاك برزت فكرة إجراء مسابقة لأحسن قصة لنشرها في المجلة. وقد تلقينا مجموعة من القصص وشكلنا لجنة من الادباء لاختيار أفضل قصة. وقد اتفق الجميع على أن قصة “نزوة” لجيان ستكون الفائزة في المسابقة. وقد نشرت القصة في المجلة وجاء كاتبها إلى مقر المجلة ( في قبو كانت توجد فيه مطبعة الأمة في الحيدرخانة ) . و جذبت انتباهي وزميلي صادق شخصية الكاتب الشاب. فهو هادئ ومتواضع وقليل الكلام ودمث الخلق ويحب الاستماع إلى الآخرين، ولكنه كان يقهقه بشكل عجيب. إنها قهقه طريفة وكأنها سيل من ماء ينسكب من قارورة بصدى خافت وساحر. وبعد ذلك توطدت أواصر الصداقة بيننا وقد شجعناه على مواصلة التعاون مع مجلتنا وطرحنا عليه أيضا فكرة كتابة مسرحية. وسرعان ما كتب مسرحيته ” المقاتلون” عن الثورة الجزائرية. وقد أُخرجت لاحقا من قبل فرقة المسرح الحديث وشاركت أنا شخصيا في إداء أحد الادوار فيها.
بعد مغادرة جيان الوطن للعمل في اذاعة براغ العربية في مطلع الستينيات، كان العمل في الاذاعة يمتص كل جهده. لكنه نشر مع ذلك عدة قصص في مجلة ” الاداب” ونالت مسرحية ” المقاتلون ” الجائزة الاولى في مسابقة المجلة . كما نشرت لاحقا مسرحية “الطاحونة ” التي حازت على الجائزة الاولى في مسابقة نظمتها مجلة تابعة لمصلحة السينما والمسرح. وكان يتولى إدارتها آنذاك الفنان يوسف العاني الذي بعث اليه بمبلغ الجائزة. ويقول جيان إنه اشترى سيارة ” سكودا” بهذا المبلغ. وفي الواقع إن جيان الكاتب العراقي الصميمي كان طوال الفترة الماضية منذ ان غادر الوطن مقلاً في نشاطه الابداعي، واقتصر نشاطه آنذاك على نشر بعض القصص والمقالات، ولم ينشر حسب علمي أية مجموعة قصصية. ولهذا دهشت كثيرا لدى استلامي رواية “دلمون”. وزادت دهشتي اكثر عندما علمت إن جيان ارسل الى المطبعة رواية ثانية ستصدر قريبا.
إن رواية ” دلمون” التي أصدرتها دار ” الفارابي” في بيروت تتضمن الكثير من وقائع السيرة الذاتية للكاتب. ويظهر فيها السلوب الذي ميز الكتاب الواقعيين العراقيين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي تعكس تطور مؤلفها ثقافياً لحد كبير بعد مغادرته لوطنه. علما إنها نشرت في الاعوام الأخيرة وفي المهجر حيث لا توجد أية قيود مفروضة على الكاتب العراقي من قبل الرقابة. زد على ذلك إن الكاتب وجد خلال فترة المهجر مجالاً واسعاً لكي ينهل من الثقافة الاوروبية واكتسب الكثير منها، وبالاخص في النظر إلى الإبداع الأدبي . ولا يتحدث جيان في روايته عن ” عبثية الحياة العراقية ” اليوم كما فعل مثلا احمد سعداوي في روايته “فرانكشتاين في بغداد” الحائزة على جائزة البوكر مؤخرا ، والتي سايرت ” موضة” كتابة الروايات ذات المواضيع التاريخية والخيالية بغية اسقاطها على الواقع الحالي. فقد اتبع جيان الاسلوب الواقعي الكلاسيكي في رسم العلاقة بين الشكل والمحتوى، وتقديم صورة للواقع في مجتمعه كما يراها. لقد كان هذا طريق جميع القصاصين العراقيين من جيل الخمسينيات والستينيات، ولم يبتعد جيان عنه، لأنه ينتمي إلى هذا الجيل. لكنه يعرض افكاره بإسلوب مبتكر يميزه عن الكتاب الآخرين. وتتضمن روايته عدة محاور أولها عرض الشخصيات وعلاقاتها بالبطل، وثانياً الأحداث في بلاد يعيش فيها منفيا، وثالثاً أفكاره الفلسفية التي تشغل حيزاً واسعاً في معالجته لموضوع حياة الانسان والموت وبؤس المنفيين والمهاجرين بحثا عن الرزق والموقف من المرأة. ويربط جيان بين موضوع النفي والاسطورة. ويورد المؤلف أقوال صديق ابراهيم بطل الرواية التي كتبها له من باريس حول “أن دور الاسطورة في تنمية الوعي بالنفس وبالآخر وارتباطها بالسياسة ساهم في ابداعها اجدادك واجدادي “. إن جلجامش كان يبحث عن سر الخلود، وبطل الرواية يبحث عن ألواح في الجاهلية تخص الصنم “هبل العظيم” التي يدور فيها الحديث عن ” من غيركم ” و” من منكم ” كشرط لوجود الانسان البسيط الذي يجب أن يخدم هبل وعائلته.
لقد كتب ايفان بونين الحائز على جائزة نوبل ذات مرة إن الانسان يُمتحن بثلاث مصائب هي الموت والمرض والحب. وهذه المصائب الثلاث تواجه بطل رواية ” دلمون” أيضا. وبالفعل يورد الكاتب ثلاثة أبعاد تجسد معاناة البطل، أحدها فلسفي يظهر فيه موقفه من الموت ومغزى الوجود، حين أوشك في طفولته على الغرق في نهر المدة في البصرة ولم يجد قشة يمكن التشبث بها ولا صخرة يركن اليها، أو حين واجهت المركب الذي كان يستقله إلى دلمون عاصفة هوجاء في البحر و”تمنى ابراهيم اللجوء الى أرض أية أرض ما بسبب هذا الانطباق العاتي للماء وللسماء” خوفا من الموت. ونجد صورة الموت في مواضع كثيرة من الرواية. ربما إنها فلسفة الكاتب نفسه ونظرته إلى الموت. والبعد الآخر موقفه من الحب والعلاقة الجنسية مع المرأة وهذا البعد يشغل حيزا كبيرا في الرواية. ويلاحق المرض أيضاً البطل وبقية شخوص الرواية، سواء جسدياً أم نفسياً مثل مرض زوج عائشة وموته ومعاناة “الشيخة”. إن نظرة البطل إلى الوجود تتجسد في عبارات لا ترتبط بالمرض، بل بالنفى الذي هو مؤلم كالمرض. ويوردها الراوي مراراً مثل ” أن المنفى الذي يعيشه ليس نزوة ولا بحثاً عن الثروة أو الزواج” و ” أن العالم ملئ بالمنفيين والمغتربين”، وكذلك ” الانسان المنفي ليس كمثل من لديه أوراقه الرسمية”. وإن ” المنفى اكثر تعقيدا مما يتصوره المرء” و ” صحيح ان بعض المنفيين يموتون ولكن قد يبدو الموت بعيداً عنه الآن على الاقل”. ويقول عن عشيقته واسمها الشيخة “إنها منفية مثله”.
تتألف هذه الرواية تتألف من 16 فصلاً، وتتحدث عن ابراهيم الشاب العراقي الذي ضاقت به سبل العيش في وطنه بعد اعتقاله وتعذيبه وقرر التوجه إلى البحرين حيث لا تطلب منه سلطات الاحتلال البريطانية جواز سفر أو أية وثيقة بغية القيام بأي عمل. فهناك لا يطلبون منه وثيقة ” حسن السلوك” التي فرضها نظام نوري السعيد في العراق أيامذاك. وكانت السلطات العراقية في ذلك الزمان تعتبر كل عراقي سئ السلوك مالم يبرز هذه الشهادة التي تؤكد أنه مواطن صالح لا يعمل ضد الحكومة. وكان ابراهيم في يفاعه يحلم أن يكون طياراً كما تمنى أن يكون كاتباً سينمائياً. إنه الآن شاب مثقف وصحفي وكاتب قرأ “الابله” لدوستويفسكي وغير ذلك من كنوز الأدب العالمي. وكان يكتب في الصحف ويحب مطالعة شتى أنواع الكتب التي علم من اصدقائه البحرانيين الذين كانوا يدرسون في العراق إنها متوفرة في البحرين ولم تمنع السلطات البريطانية اي كتاب منها. وعندما وصل إلى دلمون اضطر للعمل كمسجل بضائع في الميناء لدى تفريغ حمولات السفن القادمة الى البحرين. لقد ترك العمل اليومي الشاق وظروف الحياة الصعبة آثارها في شخصيته وتعامله مع الآخرين وبينهم خطاط من لبنان وصاحب دكان بحريني وصانع سفن خشبية ومعلمة مطلقة أصبحت “امرأته” سراً في ظروف المجتمع المحافظ في البحرين ، وكذلك عدد من الشبان البحرينيين الساعين الى تغيير مجتمعهم بواسطة جريدة ” الساعة”. ولكل شخصية من هذه الشخصيات مكانتها في الرواية، ويعرض الكاتب خلالها وضع المجتمع البحريني في ظل الانتداب البريطاني.
كما يروي المؤلف حياة البطل في بغداد وذكرياته عن عمته العانس وحكاياتها وجلوسه مع اصدقائه في مقهى الاداب أو مقهى عارف أو في حانات المدينة. ومنذ ذلك الحين ترسخت لديه في سياق المناقشات معهم فكرة مفادها انه “ما من شئ ثابت لا السياسة ولا الايمان ولا الانسان نفسه”. علماً “أن الجدل بينهم كان يتناول شتى القضايا من التراث والسياسة والاشتراكية والحياة والاخرة والحب والادب والنساء والنكاح واللذة الجنسية واكلات الفشافيش وهلمجرا..” وتبقى المقولة حول عدم ثبات أي شئ في صلب الرواية حتى النهاية حين يتم ابعاد البطل عن البحرين بسبب نشاطه الصحفي.
وجد ابراهيم نفسه في صراع مع السلطة في العراق، ومن ثم في البحرين بالرغم من إنه لم يكن سياسيا بالمعنى الذي يهدد النظام القائم. وحدث هذا في وطنه بشكل أسرع مما كان يتوقع حين قبض عليه عند قاعة الملك فيصل لدى مرور مظاهرة مع آخرين حاصرتهم الشرطة في هذا المكان. ووجد نفسه في معمعة الصراع السياسي رغم ارادته. وفيما بعد انجذب الى الكتابة في الصحف. وقال” ما من أحد يكتب عن القهر والظلم إلاّ ويشير إلى المستقبل. والقهر موجود في عالم الحياة اليومية والمهم هو حالة التعامل معها”. وكذلك يواجه القهر”الانسان في علاقاته بنفسه ومع الآخر والطبيعة والعالم… وإن اقصاء الآخر ، المعارض، أمر مألوف في السياسة والفكر هنا”.
ويولي المؤلف حيزاً كبيراً إلى المرأة في روايته. وجذبت اهتمامه في البداية المرأة الملتفة بعباءتها والنقاب على وجهها في السفينة، لكن عينيها واسعتان سوداوان تطيلان النظر في الوجوه وفي البحر. ثم التقى في (البيت العالي) لأول مرة بنساء يمارسن البغاء، وعرف المزيد عن اللقاءات المحرمة في الجزيرة ذات المجتمع المحافظ. وعرف ذلك عندما دعته المومس في (البيت العالي) في لقائهما الاول” الى الجلوس في حجرتها ورأى في عينيها نظرات امرأة مجربة تنتظر اختباره”. لقد ألف زيارة البيت العالي وبات يذهب إليه كما كان يذهب إلى بعضهن دون غيرهن هناك حيث كان يحظى بشئ من التعاطف من بعضهن، من اجل ارضاء حاجته الجنسية الطبيعية.
لكن علاقة الحب النقية تبدأ مع المعلمة (الشيخة) الشابة المطلقة التي تعيش مع شقيقتها الارملة عائشة. وقد تعرف إليهما عبر صديقه موسى الخطاط اللبناني الحالم في جمع مليون ريال سعودي من مهنة الخط التي تقتصر على كتابة الآيات القرآنية باسلوب فني من اجل بيعها في الدمام حيث سوقها رائجة. ويشير الكاتب إلى أن ابراهيم “لاحظ أن عائشة تراقبه بحرص امرأة شرقية واسعة العينين ، وميضهما مستتر او هكذا خيل اليه، تتفحص رجلاً يدخل بيتها للمرة الأولى”. بينما يصف (الشيخة) كالاتي : “عيناها واسعتان ، أهدابهما طويلة يطوقهما حاجبان أسودان ، بوجه ربما سومري متناسق فس ملامحه، الانف والشفتان والنظرات الحاطفة المحترزة والدقيقة”. ويقول عنها ” في حياتها علموها تحذيراً مألوفاً رددوه أمامها قبل زواجها، سمعت به وهي صبية ثم امرأة ، إن الرجل رجل، وإنها امرأة . وبالتالي فإن قيمتها وصورتها هما كما يريدهما الآخر لها ، ولا تزال تكره هذه الصورة عندما تمر في ذهنها. لكن علاقتها الفاشلة مع زوجها الذي غرق في البحر جعلتها تشعر لدى ممارسة الجنس معه إنها مستأجرة له، وخامرها شعور بالنفور معه. إذ بدا رجلاً غريباً يغتصبها نصف عار صامتاً وأنفاسه لاهثة ووجهه يطفح شهوة وهي صامتة نصف عارية تحس بثقل جسده. ولكنها شعرت بعذوبة الحب لأول مرة “عندما سحبها ابراهيم من يدها لأول مرة وغمرها للحظة دوار لم تر خلاله شيئا .. شعرت بانفاسه الحارة واقتراب وجهه من شفتيها شاعرة بلدغات الدم في عروقها ودوار في رأسها، فكرت أن ساقيها المرتجفتين لن تحملا جسدها”. وتواصلت اللقاءات السرية بين العاشقين في بيته. كانت (الشيخة) مغمورة بغبطة مع ابراهيم ما بعد لقائهما الثاني تقريبا. لكنها لم تفكر البتة فيما ستؤول إليه العلاقة المحرمة بينهما. إنها علاقة لا مستقبل لها. وفي النهاية حين ترغم السلطات ابراهيم على الرحيل من دلمون، نراها حتى لا تأتي إلى الميناء حيث كان في انتظاره المركب الذي سيسافر فيه من أجل قول كلمة وداع له. إنها لا تريد أن تفقد ذكريات الساعات الحلوة معه.
إن المؤلف يضع علاقة بطله بالمرأة في محور خاص لأهمية ذلك في تصوير وضع الشخصية في المجتمع. فقضية المرأة الشرقية التي تعاني من الضغوط الاجتماعية والحرمان تعتبر من اكثر القضايا حساسية في مجتمعنا. ولا يوجد للمرأة رأي في الرجل الذي ترغم على قبوله كزوج حتى ولو كان كريها لديها مثل زوج (الشيخة).. ونجد في مجتمعنا المتزمت حتى لدى المتعلمين وأصحاب الخلفية الثقافية ظاهرة الزواج بتوصية من الأهل والأقارب، وأحيانا يقتصر التعارف على مشاهدة صورة فوتوغرافية للزوج أو الزوجة القادمة. إن جيان يريد في روايته أن يُظهر فقط ما يشعر به البطل او البطلة من سعادة في إقامة علاقة تعتبر محرمة في المجتمع. وهذا بحد ذاته إدانة للمجتمع.
إن رواية “دلمون ” ستشغل حتما مكانتها في الادب الروائي العراقي الحديث إن عاجلاً أو آجلاً. فهي تتمتع بكافة مقومات الرواية الناضجة فنياً. وأمل أن تكون رواية “جيان” القادمة إضافة آخرى غلى إبداعه الروائي والقصصي . كما آمل ان يلتفت الباحثون والنقاد الى إبداع كاتب عراقي يحب وطنه – ارض الرافدين ويشعر بالحنين اليه ، بالرغم من كل ما حل ويحل به من كوارث ونكبات.
2/7/2014

About عبدالله حبه

ولد عبدالله محمد حسن حبه في بغداد وفي محلة صبابيغ الآل عام 1936. انهى الدراسة الابتدائية في المدرسة الجعفرية والمتوسطة في مدرسة الرصافة المتوسطة في السنك والثانوية في الاعدادية المركزية. وانهى الدراسة الجامعية في كلية الآداب فرع اللغة الانجليزية. أنهى معهد الفنون الجميلة فرع التمثيل. وحصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في الاتحاد السوفييتي ونال الشهادة من معهد غيتيس للتمثيل في منتصف الستينيات. في بداية مشواره الفني مارس الرسم لعدة سنوات، إلى جانب كتابته للقصة. وأصدر مع صديقه القاص منير عبد الأمير مجموعة قصصية تحت عنوان "الحصان الأخضر" في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. عمل في الصحافة الفنية وتحديداً في مجلة السينما التي كان يصدرها الفنان كاميران حسني في الخمسينيات من القرن الماضي. ثم انتقل للعمل في المجال المسرحي، وفي البداية مع الفنان جعفر السعدي ثم الفنان جاسم العبودي ثم انتسب الى فرقة المسرح الحديث قبل سفره الى الاتحاد السوفييتي عام 1960. شارك في التمثيل في الجامعة وفي اخراج عدد من المسرحيات في كليان بغداد، كما شارك في التمثيل في عدد من المسرحيات وفي تصميم الديكورات والمكياج للفرق التي عمل معها في تلك الفترة. ومنذ منتصف الستينيات توجه للترجمة من اللغة الروسية في موسكو،وترجم للعديد من فطاحل الأدب الروسي الكلاسيكيين والمعاصرين. عمل في وكالة تاس في موسكو وفي عدد من الصحف الصادرة ياللغة العربية في موسكو وفي عدد من البلدان العربية، ثم عمل لفترة في تلفزيو روسيا باللغة العربية، وعاد الآن للعمل في وكالة تاس.
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.