تجربتي في مؤسسة الإسكان العسكرية
2/3
في ربيع 1983 انتقلت الى الفرع المالي المركزي في عدرا – دمشق، وهو الفرع المسؤول عن مالية المؤسسة ككل ويدير موازنتها المركزية وميزانيتها المشتركة وتسديد دفعات الموردين. وأصبحت مديرًا للتخطيط المالي المركزي حيث أصبح عملي يرتبط بمالية المؤسسة ككل وأداءها المالي والاقتصادي وعلاقتي المباشرة بمديرها العام بهلول وبجميع فروع المؤسسة، لذا كنت مطلعًا من الداخل و على نحو جيد على أداء جميع الفروع عبر تقارير شهرية شاملة تأتي للقسم الذي أديره، ومطلع أيضًا على الصفقات والدفعات والتحويلات لرجال الأعمال وأذكر منهم مثلًا رينيه قباش وسعيد العمري و …….. عبجي وريمون بارسميان وسليم التون وأحمد الشهابي ومهران خوندا وغيرهم … وكان جلهم من حلب وكان بهلول يسعى حينها لتقريب تجار حلب المغضوب عليها آنذاك لخلق توازن مع تجار دمشق المرضي عنهم. لذا كنت مطلعًا على ما يجري من علاقات مع رجال الأعمال.
كنا مجموعة من اليساريين “الحنابلة” في إدارة الفرع المالي، وكان عبد الرحمن أحمد، من عفرين وينتمي لأحد الأحزاب الكردية مديرًا للفرع المالي، وكنت أنا مديرًأ للتخطيط المالي شيوعي من جماعة بكداش- فيصل، وكان ابراهيم الموسوي، وهو بعثي عراقي هارب من العراق، مديرًا للموازنة، وكان فايز حديد، وهو يساري فلسطيني، مديرًا ماليًا للفرع المالي. وكان قصد خليل بهلول من هذه التركيبة في الفرع المالي أن يكون من يديرون أموال المؤسسة لا يرتبطون بأي جهاز ولا يحميهم سوى عملهم وخليل بهلول نفسه لأن المصالح التي كانت تمر في الفرع كبيرة، وكان مجموعة الطامعين بتحقيق مكاسب مادية يسمون الفرع المالي “وكر العقارب”، ولكن هذا الوكر لم يصمد طويًلا أمام ضغوط المصالح الفاسدة، فقد تم تسريحنا تباعًا من المؤسسة لأسباب مختلفة، وكنت أولهم وقد سرحت بقرار من الأمن العسكري بسبب انتمائي للحزب الشيوعي، ونشاطي ضمن مؤسسة عسكرية رغم أنه حزب متحالف مع حافظ أسد فيما يسمى “الجبهة الوطنية التقدمية”، وبالمناسبة كان في المؤسسة شيوعيون كثر ولكن لم يسرح أي منهم. وقبضت نحو 24 الف ليرة سورية صافي تعويض نهاية خدمتي، واذكر أنني اشتريت مواد وعدة دهان وقمت بدهن بيتي بنفسي خلال شهور الصيف، وفي منتصف أيلول ذهبت بمنحة دراسية من الحزب الشيوعي إلى ألمانيا الديمقراطية لإكمل دراستي. وسرح بعدي بعام ونيف مدير الفرع المالي عبد الرحمن أحمد واضطر للذهاب للعمل في ليبيا وترك عائلته في دمشق، وسرح بعدها ابراهيم الموسوي وكذلك فايز حديد وذهب كل منهم يبحث عن عمل في دمشق..
كان خليل بهلول شخصية نافذة جدًا خاصة بما لديه من قدرة على خلق المنافع الكبرى والتحكم بها، وكان كبار الضباط يرجون التقرب منه، وكان يعد نفسه من ضمن شلة المقربين مثل ابراهيم صافي وشفيق فياض وعلي حيدر، بل كانت المصالح المادية بيده أكثر منهم بكثير، وكان مطلق الصلاحيات في التعاقد والبيع والشراء والدفع بما فيها تقديم الهدايا وخلق المنافع عبر تلزيم صفقات توريد المواد والآليات والمعدات لهذا التاجر أو ذاك وكل منهم أو غابلهم مرتبط بمركز قوة، وكان بتوقيعه الصغير يمنح من يريد بيتًا في دمشق أو حلب أو فيلا في مشروع السكن الوطني وسكن الديماس مثًلا وبسعر يقل عن سعرها في السوق بعدة مرات.
من المسائل الصغيرة، أذكر أنه عندما كان يأتي لزيارة الفرع 6 وكانت إدارته قد انتقلت الى الصنمين، كان يطلب أن نعد دعوة غداء في مطعم نبع زيزون بدرعا لمدراء الفرع 6 وبعض مدراء المشاريع وكان يدعو محافظ درعا، وكان حينها محمد مصطفى ميرو، وقد عين محافظًا لدرعا حديثًا وكان ميرو يأتي ويتصرف أمام بهلول كتلميذ صغير.
كانت المؤسسة ورشة عمل ومكان ممتاز لتكوين الخبرة وكان جو العمل الإيجابي هو الطاغي، وبذات الوقت كانت صفقات الفساد كبيرة، ولكن كان الانتاج والعمل يغطي عليها. وقد بثت المؤسسة بفضل خليل بهلول روح إيجابية للعمل والإنتاج وقد اقتحمت المؤسسة لأول مرة تنفيذ مشاريع كانت تعد صعبة وكانت حكرًا على الشركات الأجنبية فهي من تصدى لبناء صالة مطار دمشق الحالية وبنت دار الأوبرا ومكتبة الأسد في ساحة الأمويين بدمشق ومشروع جر مياه الفرات لحلب وكانت المتعهد المحلي لمشروع مصفاة النفط في بانياس الذي نفذته شركة رومانية، ومشروع ملاعب ومنشآت دورة المتوسط للألعاب الرياضية ومشروع السكن الوطني وأدخلت المؤسسة في هذا المشروع نمط معماري جميل إذ تشكل المشروع من فيلل صغيرة أو متوسطة بطابق أو اثنان مكسوة بالحجر ومسقوفة بالقرميد مع حديقة صغيرة، وكان هذا مخالف لما ساد في سورية بعد مجيء البعث إذ طغت المباني الشعبية الرخيصة القبيحة التي ترش من الخارج برشة رخيصة تدعى “رشة تيرولية” وهي عبارة عن اسمنت وصبغة بلون بني أو برتقالي او رمادي، وكانت كلفة المتر المربع منها ليرة سورية واحدة، وهي مازالت تشاهد حتى اليوم تطل بقباحتها على شوارع دمشق وغيرها من مدن.
سنة 1983 سعى رفعت أسد لعزل خليل بهلول لأن بهلول كان من جناح الضباط المعادين لرفعت، واجتمع بنا خليل بهلول في مبنى المسرح في المنطقة الصناعية بعدرا وأخبرنا أن مديرًا جديدًا سيباشر بدلًا عنه، ولكن رئيس فرع الأمن العسكري علي دوبا رفض كافة الأسماء المرشحة كبدلاء فبقي بهلول (هذا ما قيل حينها). ويقع مبنى المسرح في المنطقة الصناعية بعدرا، وهي منطقة كبيرة تتبع المؤسسة هو مكان يعقد فيه خليل بهلول اجتماعات شهرية مع إدارات الفروع من جميع فروع المؤسسة في سورية، وكان يأتي من كل فرع كل من مدير الفرع ومدير التنفيذ والمدير المالي ومدير الآليات ومدير الإمداد إن وجد. وكان بهلول يبدأ الحديث عن موضوع ما في السياسة وشؤون البلد ثم ينتقل الى المؤسسة ويناقش بعض الموضوعات ويطرح بعض القضايا ليسمع الآراء. وكان عدد الحضور يصل حتى 500 شخص، وكان يكرر كلمة “ما في غيركم” أي أن مؤسسة الإسكان هي الوحيدة الشغالة بالبلد.
كانت اوضاع مؤسسة الإسكان تتدهور منذ 1985 بسبب شح الأموال وتزايد الضائقة الاقتصادية، وبدأ التضييق على المؤسسة، وخاصة من قبل رئيس الوزراء عبد الرؤوف الكسم الذي كان يعادي خليل بهلول. خاصة وأن الإسكان العسكري كانت أحد مسببات تدهور سعر صرف الليرة السورية امام الدولار لأن الاسكان كانت تدفع كل شهر نحو 100 مليون ليرة سورية تسديدًا لمستحقات/ديون الموردين وكانت تعادل 20 مليون دولار، وكنت أنا من ينظم الحوالات بناءً على قائمة يعدها مدير الفرع المالي عبد الرحمن أحمد بالتوافق مع مدير فرع المشريات الخارجية رامز كبيبو ويوافق عليها خليل بهلول. وكان سعر الليرة يهبط عندما ندفع حوالاتنا، فجاءتنا التعليمات أن نوزع الدفعات خلال الشهر.
سأذكر هنا طريقة تعامل بهلول مع التجار الموردين للمؤسسة، فقد لعب معهم لعبة ذكية فكان يطلب منهم تزويد المؤسسة بالمواد والمعدات على أن يدفع لهم بالليرات السورية وهم يتدبروا تحويلها الى دولارات بطريقتهم، وكان هذا يجنبه المرور بمضيق طلب اعتماد دولارات من الحكومة مما سيضعه تحت رحمة الحكومة، وكانت الديون تتراكم لرجال الأعمال الذين كانت أرباحهم عالية، وأصبح خليل بهلول يقبض عليهم من اليد التي توجعهم فمن يتوقف عن التوريد للمؤسسة كان بهلول يتوقف عن الدفع له، ومن يستمر بالتوريد يستمر بالدفع له ولكنه كان يبقى مبالغ مستحقة كبيرة غير مسددة لكل منهم، ورغم أن أرباح التجار كانت كبيرة تصل 50% فإن تدهور قيمة الليرة وخاصة بعد أيلول 1985 قد تسببت لهم بخسائر وكانت مستحقات كل منهم تصل عشرات ملايين الليرات السورية آنذاك.
في تشرين الأول 1987 تمت إقالة خليل بهلول، وتم تسمية العقيد احمد سعيد صالح بدلًأ عنه، وقد كان رئيس كتيبة هندسية في الجيش لا يفقه شيء في الإدارة، وسمعت حينها حكاية طريفة لا أعلم مدى صحتها، ولكني أقدر أنها تحدث بحكم معرفتي بخليل بهلول. فقد جاء أحمد سعيد صالح الى مكتب بهلول مرتديًا بزته العسكرية لاستلام مهمته من خليل، بينما لم نرى خليل بهلول يومًا في بزة عسكرية، وخليل شخص قصير القامة هادئ بطباعه، متحدث جيد ومستمع جيد يتحرك بهدوء ويتحدث بهدوء حتى عندما يغضب، اشقر الشعر بعينين زرقاوين ووجه يميل الى البياض والحمرة، يتصرف مع الآخرين بتهذيب ويميل للمزاح أحيانًا. وعندما دخل العقيد أحمد سعيد صالح الى مكتب خليل بهلول ببذته العسكرية وكان يستقل سيارة “جيب واظ” عسكرية من صنع روسي، فطلب بهلول منه الجلوس ثم طلب أن يأتوا اليه بمفتاح سيارة مرسيدس 500 سي سي جديدة وقدمه للعقيد صالح قائلًأ: هذه سيارة تليق بخليفة خليل بهلول. في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين وضع أحمد سعيد صالح في السجن بتهم فساد.
يتبع
…………
تجربتي في مؤسسة الإسكان العسكرية
3/3
روى لي أحد من كانوا في فرع العقود الخارجية أنه بمجرد صدور قرار إبعاد بهلول تم تنظيف جميع عقود فرع العقود الخارجية من جميع المراسلات والوثائق التي تبين خيوط كثيرة للمشتركين في الصفقات، وترك العقد بتوقيع خليل بهلول فقط. ثم طلبوا “هم” من بهلول أن يغادر سوريا كي لا يتعرض للتحقيق وحينها ستنكشف خيوط كثيرة أصحابها من مفاصل السلطة، كما غادر مدير فرع العقود محمود كبيبو إلى ألمانيا التي تخرج منها ولم يعرف عن محمود انه امتلك أموال وكان يعمل بكفاءة، وذهب بهلول الى ليبيا وأسس هناك شركة صغيرة للمقاولات شراكة مع القيادة القومية الليبية (لا اذكر اسم الشركة) وأخذ معه عدد من المهندسين، وكان يأمل أنه بشراكته مع هذه الجهة سيكمل في ليبيا من حيث انتهى في سورية. ولكنه أخطأ التقدير، والتقيت به في ليبيا بضع مرات. ولكنه وبعد مضي أربعة أعوام غادر ليبيا لآخر مرة على آخر طائرة غادرت ليبيا في 14 شباط 1992 قبل يوم واحد من فرض الحصار الجوي على ليبيا وكانت الطائرة تتجه الى دمشق، وكنت يومها في المطار اودع زوجتي وابنتي ياره وهن يغادرن الى دمشق قبل الحصار، ولكنه بعد وصوله لدمشق طلبوا منه المغادرة فغادر.
غادر بهلول ليبيا بعد تكبد الشركة التي أسسها شراكة مع القيادة القومية الليبية خسائر أقدرها بعدة ملايين من الدولارات، الى حد أنه لم يدفع رواتب العاملين في شركته لعدة شهور. فالجهات الليبية ترددت في منح شركته أي مشاريع بسبب شراكته مع القيادة القومية، أي من اعتقد بهلول أنه سيكون سنده القوي لنيل المشاريع كانوا هم سبب فشله. وسمعت أنه تقدم بمناقصة لبيع سكر الى شركة تافكو في سورية (سمعت ذلك من مديرها العام سالم حداد حينذاك) وكذلك تقدم بعرض مماثل الى ليبيا، سمعتها آنذاك من أوساط محيطة به، ولكنه لم ينفذ العقدين فخسر الكفالة الابتدائية وقدرها مليون دولار لكل عرض على ما أذكر، والسبب أن سوق السكر كان في صعود، فعندما أراد بهلول تنفيذ العقد الذي ابرم قبل شهرين وقدم سعره بربح محسوب اكتشف أن سعر السكر قد تضاعف فلم يستطع التنفيذ وخسر الضمان الابتدائي. كما اشترى بهلول مصنع لأسلحة الصيد في روسيا، ولم يدقق في الصفقة ولا في العقد كفاية فنصبوا عليه وخسر، وصديقي وزميلي في العمل في الإسكان العسكري المهندس محمد سليمان الذي ذهب للعمل مع بهلول قدم له النصيحة بأنهم ينصبون عليه ولكن بهلول لم يستمع وتصرف بعقلية المسؤول السوري فخسر، ولم يدفع لمحمد سليمان رواتبه عن مدة من العمل تجاوزت العام وهذا يشير الى وضع مالي بدأ يتدهور. وقيل لي ان بهلول اسس شركة في ايران ولم يستطع تعهد اي مشروع فخسر واشترى ارض في اسبانيا واكتشف انهم نصبوا عليه الخ… وقد سمعت كل هذه القصص ولكن لا أعرف مدى صحتها، ولكن ما أعرفه شخصيًا هو تجربته في ليبيا لأنني كنت أعمل حينذاك في شركة مماثلة لبنانية في طرابلس ومكاتبنا قريبة والتقي العاملين فيها وزرتها عدة مرات والتقيت بهلول بضع مرات، وأيضًا أعرف حكاية صفقات السكر إذ سمعتها من عارفين، وحكاية معمل الأسلحة برواية من المهندس محمد سليمان.
هنا نأتي للمسألة الحساسة حول فساد بهلول أم نظافته، وبالتأكيد ليس لدي ولا لدى غيري وثائق، ولكن القرائن الدالة تقول: من أين أتى بهلول بتلك الأموال التي موّل بها نشاطاته التجارية التي بدأ بها هنا وهناك بعيد خروجه من سورية؟. من خلال معرفتي بحجم الأعمال والصلاحيات المطلقة كان بإمكان بهلول أن يجني مئات ملايين الدولارات، ولكن حجم الأعمال التي مارسها كعمل خاص بعد إبعاده عن المؤسسة وعن سورية وسرعة إفلاسة تشير إلى أن المبالغ التي جناها لم تكن كبيرة، وما يشاع عن مئات ملايين الدولارات يصبح غير منطقي. وربما يعود هذا لطبيعته الشخصية وكبرياؤه في الدخول في مماحكات مع رجال أعمال، وأقول ذلك عن معرفتي بشخصيته، فهو كان ينظر لذاته أنه يصنع تاريخ جديد للأعمال في سورية. وقدم لي المرحوم عبد الرحمن أحمد مدير الفرع المالي المركزي تفسيرًا بأن جزءً كبيرًا من الاتفاقات مع رجال الأعمال والتي تعهدوا أن يدفعوها له حين يدفع لهم مستحقاتهم لم يدفعوا له ما تعهدوا به بعد أن تم إبعاده عن المؤسسة.
من الثابت أن بهلول قد مات في باريس سنة 1998 فقيرًا بل معدمًا أي بعد عقد واحد من تسريحه من مؤسسة الإسكان العسكرية. وبالتالي فإن حجم الأموال التي خرج بها لم تكن كبيرة، ولم يعرف عن إخوته الغنى ولم يمنحهم أي دور في المؤسسة، أو أن له أولاد أغنياء من بعده، وأقدر أنه خلال خمس سنوات من الأعمال الفاشلة بعد مغادرته المؤسسة 1987 قد بذر كل ما جمعه من مال خلال 12.5 عام منذ شباط 1975 وحتى تشرين الأول 1987 مديرًا عامًا للمؤسسة، ثم أمضى آخر خمس سنوات في وضع اقتصادي متراجع ثم متدهور ثم معدم.
نعم خليل بهلول قد مات في باريس فقيرًا، وهذا ما سمعته بتكرار، وروى لي عدة اشخاص انه كان يسير في الشانزليزية عل أحدهم يدعوه لفنجان قهوة، وأنه مرض ودخل المشفى وأن رجل أعمال سوري، وقد نسيت اسمه، قد دفع فاتورة المشفى وفاتورة نقل جثمانه الى سورية سنة 1998. لقد مات وأسراره معه، وأكيد أن بعض الأحياء يعرفون بعضها.